تقول شروق وهي تدغدغ عنق تلك الهُريرة التي دخلت فجأة وتوسّدت حجرها: - ما سأرويه لك حدث قبل حوالي سنة.. الحقيقة أننا كنا أجمل تعريف لكلمة "أسرة سعيدة". أنا وأمي وأبي.. لا شيء كان ينغص علينا أيامنا. أنا كنت أجد كل ما أحتاجه من حنان وحبّ لديهما. هما كان يريان فيّ كل ما حلما يوما بتحقيقه. وكما قلت لك، لم نكن أثرياء لكننا كنا نمتلك الكفاف. أجمل لحظة في اليوم كانت هي تلك اللحظة التي يعود فيها أبي من العمل وفي جعبته 10 دراهم كاملة من زريعة نوار الشمس، التي يشتريها من أحد بائعي الفواكه الجافة الشهيرين بطنجة. نجلس أنا وهو والوالدة ونبدأ في الثرثرة الممتعة. نتحدث في كل شيء وعن كل شيء. عنّا، عن الوطن، عن طنجة.. عن كل ما جدّ من أحداث عالمية. نصنع المقالب لبعضنا البعض، نتغامز، بل ونبكي أحيانا إن كان هناك ما يُحزن.. الخلاصة أن تلك اللحظة كانت تمثل لي ذروة أحداث اليوم ورأس سنامها. في ذلك اليوم المشهود تأخر أبي عن موعده، ولم تكن تلك أبدا عادته. لم يكن أبدا يتجاوز العاشرة، لكنه فعل يومها. هاتفه مقفل. بدأ القلق يساورني وأنا أتظاهر أن كل شيء على ما يرام كي لا ينتقل قلقي إلى أمّي. تعرف ذلك الشعور المخيف عندما تقلق الأمّ. حدس الأم قلما يخطئ وهي إن وصلت إلى مرحلة التعبير عن قلقها، فاعلم أن مصيبة ما قادمة في الطريق إلا أن يلطف الله بك. العاشرة والربع. لا اتصال ولا طرقات على الباب ولا أي شيء. قلقي يتزايد ووالدتي تتظاهر بإعداد ذلك المكان المفضل لجلوس والدي وكأنها لم تلحظ شيئا. العاشرة والنصف. الصّمت هو سيد الموقف. والقلق على والدي يكاد يعصف بي. الحادية عشرة. تلتقي عينيّ بعيني والدتي فأرى فيهما ما يخيفني. إنها قلقة.. بل مرعوبة، لكنها تخفي ذلك رحمة بي. بعدها بدقائق نسمع طرقا خفيفا على الباب فنسرع معا ونحن نلهج بالدعاء بأن يكون القادم هو أبي وألا نسمع أو نرى خبرا سيئا. أخيرا!! إنه هو. سليم ومعافى. بخير وعلى خير. لكن ملابسه ممزقة بعض الشيء ووجهه شاحب شحوبا شديدا. لقد حدث أم جلل بالتأكيد فما هو؟ هكذا، بعد أن التقط والدي أنفاسه، وأخذنا جلستنا المعتادة التي كان سيدها هذه المرّة هو القلق والخوف. بدأ والدي يسرد لنا ما حدث: "... كما تعلمون، دائما يوصلني صديقي عمر حتى باب البيت. اليوم كان مشغولا جدا لأنه يستعد لعرس ابنته فألححت عليه أن يتركني بعيدا قليلا وقررت اختصار الطريق بين الدروب لأصل بسرعة، وهو ما فعلته. فجأة وجدت ثلاثة شبان مقنعين يحيطون بي ويطلبون مني أن أخرج ما بحوزتي. كان وقع المفاجأة صاعقا عليّ، فأنا كما تعلمان عشت مسالما وأريد أن أموت كذلك. لم أؤذ أحدا يوما وتمنيت ألا يؤذيني أحد. لكن أولئك الأوغاد كانوا محملين بأسلحة بيضاء وبقلوب سوداء لا تعرف الرحمة. قلت لهم أنني في سن آبائهم فسبوني وسبوا الدين وسبوا آباءهم أيضا. هنا عرفت أن الأمر سيأخذ منحى مخيفا إن واصلت الكلام أو حتى الرجاء. فقلت لهم: - حسنا أنا لا أملك شيئا ذا قيمة باستثناء هاتفي المحمول وبضع ورقات مالية.. هاهي خذوها ولا تؤذوني. - وماذا لديك في تلك الحقيبة الرياضية؟ - شعاندكوم معاه.. !!! بدا لي الصوت وكأنه قادم من مكان سحيق عميق، لكنني حمدت الله معتقدا أن أملي في النجاة بات أقرب. نظرت باحثا عن صاحب الصوت فإذا به مجرد متشرد يبدو أنه جاء يبحث عن نصيبه من الكعكة. - ونتينا آش دخلك؟ اقترب منهم دون أن يبدو عليه أي تردد أو خوف. - خلليو الراجل يمشي فحالو وماتكونوشي شمايت.. ! - إذا لم تذهب سأمزق وجهك. قال له أحدهم هذا وهو يهمّ فعلا بجرح وجهه، لكنه بقي مسمرا في مكانه كأنه قد من الصخر. لم يجرؤ المهاجم على لمسه وتوقفت يده في منتصف الطريق مهددة، مع تردد خفيف. ظل ينظر إليهم بتحدي وهم يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى. فهمت أنهم مترددين في مهاجمته لسبب ما. - أنت هو الذي قطع أصابع قدم "الطولانطي"؟ - نعم، أنا هو. هل يريد أحدكم أن يفقد أحد أطرافه هو الآخر؟ فهمتُ أنه خائفون منه فعلا. لو هاجموه فسيسحقونه، لكنهم لم يفعلوا. والله بدا الأمر لي شبيها بما يحدث في الغابة عندما يطارد الأسد قطيعا من الجواميس. أنت ترى أنهم قادرون على هزيمته، لكن شجاعته تهزم خوفهم فيتراجعون. أخيرا قرروا الانسحاب ببطء وهم يتحسرون على الغنيمة. بينما هو اقترب مني وسألني: - هل كل شيء بخير أيها الوالد؟ - الحمد لله.. لم يؤذوني ولم يأخذوا شيئا. قبّل رأسي ثم رافقني حتى باب البيت. استدرت لأشكره فإذا به قد تبخّر. هذه كل الحكاية. وها أنا ولله الحمد أمامكم قد نجوت من أصعب موقف في حياتي. ..." صمت والدي بعد أن أنهى حكايته والدموع في مقلتيه. دموع الأب تختلف عن أية دموع أخرى. هي لا تنزل إلا عندما يصل الشعور إلى درجة القهر. كان يبكي لأنه نجا.. كان يبكي لأنه شعر بالخوف.. كان يبكي لأن ذلك البطل أنقذه... ذلك البطل الذي أخبرني والدي أنه سمعهم ينادونه ب"عماد"... ذلك البطل الذي دلّني عليه والدي يوما من بعيد ولم يسعفه الوقت ليردّ له الجميل.. ذلك البطل الذي لم يكن سوى أنت.. !!! رواية "المتشرد" 14 .. شروق تستعد لتكشف لعماد سرّا خطيراً