« أنا خايفة عليك» أكثر جملة كانت تقولها أمى فى كل مرة نختلف فيها. «أنا خايفة عليك» أكثر جملة قيلت فى كل مرة ثار بيننا خلاف. كانت تكررها كثيرا حين فضلت أن أسافر بدلا من أن أبقى في مصر وأتزوج أولا ?زى كل اللي في سني?. تأخر بى سن الزواج وكانت أمى لا تهتم إن حصلت على الماجستير أو الدكتوراه أو إن أنجزت أى شيء على المستوى المهني, المهم أن ربنا يهديني وأتزوج. «أنا خايفة عليك» ظننت أن هذه الجملة سوف تتوقف بعد أن أتزوج, ولكن جاء دخولي للمجال الاعلامي مصادفة ليزيد خوفها وقلقها. كانت قلقة على ان آرائى ستسبب لى المشاكل في فترة مضطربة في وطن مضطرب, لا احد فيه يعلم أي شيء إلا شيئا واحد فقط: إن الكل خائف، الكل مرعوب. وفى فترات الخوف والرعب يختفي المنطق ويتحكم العنف والغضب والعشوائية في تصرفاتنا. «أنا خايفة عليك» قالتها حين هاجمت الإعلام والمجلس العسكري والإخوان والرئيس. مع انها كانت تفتخر بي امام أصدقائها إلا ان الخوف والقلق كانا ما يحدد علاقتنا دائما. كأن الأم وجدت فى هذا العالم لتقوم بهذه المهمة فقط: الخوف علينا. «انا عايزاك تدخلنى على النت» مع أنها أستاذة جامعة مخضرمة والتعليم هو مجالها, إلا ان الانترنت كان هو التحدى الاكبر بالنسبة لها. بعد أن قطعنا شوطا كبيرا فى ان تفهم موضوع البريد الالكتروني، قررت بعد الثورة وبعد ان بدأ البرنامج على اليوتيوب ان تتعرف على اليوتيوب ومعه الجانب المظلم من الانترنت: الفيس بوك وتويتر وعالم التعليقات المريع. «يرضيك أمك تتشتم؟» لم تصدق كم البذاءات التى كانت تقرأها على الانترنت والتى تبدأ ب ?يا ابن....» كانت تأخذ هذه الشتائم بشكل شخصي وفشلت محاولاتي في ان اشرح لها ان عالم تعليقات وشتائم الانترنت ما هو الا مستنقع كبير تتكاثر فيه شخصيات لا حياة لها ولا هم لها الا شتيمة خلق الله. لم تفهم لماذا يشتم الناس بهذه الطريقة ولم تفهم لماذا يسب الناس شخصا بأمه لمجرد أن رأيه لا يعجبهم أو لمجرد أنهم لا يضحكون على ما يقول. حين انفجرت بالوعة الشتائم فى وجهنا, لم أستطع ان افعل شيئا لتهدئة أمي. كانت غاضبة وهذا الشخص الشتام يلف على القنوات لا ليشتمنى ولكن ليشتم أمي, لا ليواجه سخرية بسخرية, بل ليخوض بدناءة منقطعة النظير فى الأعراض. شخص كل مواهبه الشتيمة وإلقاء البذاءات على الناس وتكرار كلمة ?أمك? كل خمس ثوانٍ لأن هذا هو ?تمامه? الذى يترجم عجزه إلى هجوم على أعراض الناس بدلا من مواجهتهم كالرجال. لم تصدق أمى ان تجتمع صفات مثل الحقارة وقلة الأدب والكذب في شخص واحد بهذه الطريقة. «هو بيجيب سيرتى ليه؟» تساءلت متعجبة وهو يشتم ويفتري ويقول انه كلمها أو يعرفها. حين قررنا اتخاذ الاجراءات القانونية لمقاضاته بتهمة السب والقذف رفضت أمي وقالت: ?انا ست كبيرة، لا اقبل ان أكون محور قضية يذكر فيها اسمي مع هذا الشخص. انت عارف القضايا بتاخذ قد ايه. انا مش حمل الهم ده». حين حاولنا اقناعها ردت بجملة واحدة: «ربنا حياخذلى حقى». نجلس انا وآخى فى السيارة التى تقطع بنا الطريق إلى الساحل الشمالي. ابي وحده هناك ينهى الاجراءات فى انتظارنا لنعود به هو وجثمان أمي إلى القاهرة. لا يوجد أى كلام يقال. يحاول كل منا ألا يبكى بصوت عال حتى لا يبدأ الآخر فى البكاء ايضا. كنا نبكى «الى الداخل». لاحقا سوف تنفجر كل هذه الدموع. كلما تكلمت مع أمي في السياسة تتوتر المكالمة. «مش عايز اتكلم في السياسة» كانت ه» الجملة الت» انه» بها المكالمة بعد ان تتوتر. «انا خايفة عليك» كان ردها دائما لخوفها ان تجلب آرائي المشاكل. فى اقل من سنتين تم اتهامى بأننى متآمر وخائن واخوانجى وطابور خامس وكافر وماسونى وعميل وتلقيت تهديدات بالقتل والتفجير ومعها يتم شتمها هى بدون ذنب. توترت مكالماتنا في الفترة الأخيرة بسبب السياسة التي فرقت بين العائلات والأسر. في ليلة وفاتها تكلمنا في كل شىء الا السياسة. تكلمنا فى اليوم العاصف الذي مر عليهم فى الساحل الشمالى وكيف أثر ذلك على شجرة الجهنمية التى زرعتها بيدها. تكلمنا عن نادية الصغيرة وعن شقاوتها. لا اعلم إن كنت سميتها نادية لأنني أحب هذا الاسم أم أنها خطة خبيثة لأنال رضاها عنى وعن زوجتي للأبد. «راجعة امتى القاهرة؟» «مش راجعة، أرجع ليه؟» قالتها بحزن وبعفوية بسبب ما تشاهده على التلفاز من قرف سياسي يومي. أمى لم ترجع فعلا. منذ سنوات طويلة توفيت جدتى بعد صراع طويل مع المرض والشيخوخة والألزهايمر. «أوعوا تخلوا حد يشوفنى كده» كانت هذه وصيتها لنا في حالة ان تدهورت صحتها الا يراها أحد. هذه المرأة القوية العنيدة لم تحب ان تظهر أبدا بمظهر ضعف. حتى حين نصحها الأطباء بأن تستخدم عكازا بسبب التهاب الأربطة المزمن فى كاحلها فضلت ان تتحامل على نفسها لأنها اعتبرت ان وقوفها أمام الطلبة بمساعدة عكاز يؤثر على ?البرستيج? الذي تحب دائما أن يحيط بها. تجنبت أمى مصير جدتى، قامت لصلاة الفجر ثم نامت ولم تستيقظ. «دى موتة أنبياء» قالها السائق البسيط ليخفف عنى. نعم ذهبت أمى بهدوء وسلام ولم تعان كما تمنت بالضبط. كم هو شىء جميل وهادئ لها. كم هو شىء مفاجئ وقاسٍ وصادم وفاجع ومؤلم لنا. كده؟ تمشى وتبعدى كده؟ ينخرط اهل المتوفى فى طقوس وأفعال كثيرة أثناء الغسل والدفن والعزاء. يؤمنون انهم بذلك يخففون عن الميت ويثبتونه. ولكننا فى الحقيقة نفعل ذلك للتخفيف علينا نحن. ندعو الله ان يثبت الميت عند وفاته ولكن فى داخلنا نريد من الله ان يثبتنا نحن. ألا ندعو له ?اللهم بدله أهلا خيرا من أهله? أي انها الآن فى مكان ومع ناس خير منا ولا تحتاجنا ولا تحتاج لطقوسنا. نحن من نحتاج اليها. هى رحلت ولم يعد لجسدها قيمة الا لنا نحن لنتجمع حوله ونمارس طقوسنا وشعائرنا لنوهم أنفسنا بأهميتنا أو ان ما نفعله سيحدث فرقا. يزداد البكاء للداخل وينفجر على فترات ونتساءل هل لهذا المخزون من الحزن نهاية. يأتى الناس لتقديم واجب العزاء وتقال نفس الكلمات بطريقة ميكانيكية: ?البقاء لله?، ?البقية فى حياتك?، ?شد حيلك?. نتجاوب بطريقة اكثر ميكانيكية فنردد كلمات بتلقائية ?شكرا?، الحمد لله?، ان شاء الله?. أو نصمت أو ننفجر فى البكاء. هناك أشياء لابد من فعلها، كتابة النعي، اجراءات الجنازة والعزاء. متى قرر الجنس البشرى أن يغرق نفسه فى تفاصيل دنيوية فى وسط حدث لا يمت للدنيا بصلة؟ يقولون ان الحزن يبقى ولكن تخف وطأته. ولكن ماذا عن الاشياء التى تذكرك بها فيخرج منك كل هذه الدموع التى كنت تبكيها إلى الداخل. الموضوع أكبر من أماكن وضعت فيها بصماتها الواضحة وأكبر من أشياء كنا نفعلها سويا. فكل شىء حولك هو لها. الآثاث فى المنزل الكبير، الحديقة التى زرعتها بنفسها فى الساحل. نجلس انا وأبى وأخى لنتجاذب اطراف الحديث فنبذل جهدا مضاعفا لنأتى بحديث لا تكون هى محوره. كيف يحدث ذلك وهى كانت كل شىء، كل شىء، هى كانت السبب لكل شىء. تكتشف انه حتى مع تقدم سنك فإنك تريد ان تفعل أى شىء لتفرح بك أمك. من أول رسمة ساذجة فى المدرسة إلى مقالك أو برنامجك الاسبوعى. هناك طفل صغير بداخلنا يريد ان يجرى لأمه ليريها ما يفعله. من سأذهب لها الآن لأخبرها ما فعلت هذا الاسبوع وهى تخفى فرحها لتقول لى جملتها المليئة بالحب والقلق والتوجس: «أنا خايفة عليك» يقولون ان الحياة تستمر وانك ستعود تعمل وتجتهد وتبدع فى حياتك. ربما يحدث ذلك. ربما نستمر لمجرد اننا نحتاج ان نفعل شيئا ما بحياتنا لكن بعد أمى لا طعم لكل ذلك. بعد أمى لا قيمة لكل ذلك. بعد أمى لا شىء يهم.