يأتي هذا المقال لينضاف إلى سلسلة مقالات مركزة عَكَفنا، في الآونة الأخيرة، على تدبيجها بخصوص الثقافة المغربية، وتحدياتها الراهنة، وآليات النهوض بها، والأدوار المرتقبة للمجلس الوطني للغات والثقافة من أجل إيلاء هُويتنا، في غناها، ما تستحقه من عناية. يتخذ التفاعل الثقافي، الذي يَسِمُ المغرب، صِيغاً وأوجُهاً وأشكالا مختلفة. كما يمتاز بتعدد دوائر التقاطع التي تخترق الكتل الثقافية المغربية الكبرى، وفي مقدمتها الأمازيغية والعربية الإسلامية؛ كما تم تشكيلها داخل (النصُّ عليها في) القانون التنظيمي الخاص لمجلس اللغات والثقافة المغربية.. كلُّ ذلك من زاوية مدى ملاءمة هذا الواقع لبنود قانون المؤسسة، ومن زاوية الخلفية التشريعية والسياسية التي وجّهت فكرة استحداثها. وعلى خلافِ ما يجري في معظم الأدبيات السياسية (الدبلوماسية)، التي تتحدث حديثاً رومانسيا عن المثاقفة والتكامل والحوار، تعيش الثقافات العالمية، في الواقع، وضعا من التنافس والصراع الشرس، تهيمن بمُوجبه ثقافات وتسود داخل الوطن الواحد، وتضْمر أخرى سائرة إلى مصيرها المحتوم. وفي هذا الخضمّ، تسعى معظم الدول الغربية إلى حماية ثقافاتها، وتمكينها من شروط الاستمرار والتنافسية، كما تسعى إلى نشرها خارج نطاقاتها القطرية؛ لأنها تعرف العائدات العميمة التي ستعود عليها جرّاء ذلك، ولاسيما العائدات الاقتصادية والسياسية والثقافية كذلك. أليست الثقافة المغربية مَعْنية بهذا التنافُس موضوع كلامنا؟ من المؤكّد أنها كذلك. إنّ التفاعل داخل المجتمع المغربي قائم بين التعابير الثقافية فيما بينها كذلك. ومما يثير الاهتمام، ها هنا، هيمنة أشكال التعبير الإبداعي والثقافي السائدة في وسط المغرب وغربه على غيرها مما يوجد برُبوع الوطن، شرقا وشمالا وجنوبا. وهي لا تهيمن، طبعا، لِما تَحُوزه من صفات الجمال والإبداع دائما، بل لأنها واقعة ضمن مجال القطب الاقتصادي والسياسي بالمغرب. لذا، فالمطلوب، والحالة هذه، أن تضطلع المؤسسة المُشار إليها بمَهمّة التوزيع العادل للاعتمادات المالية، وصنوف الرعاية المختلفة، على كافة أشكال التعبير الثقافية المغربية. والمطلوب، أيضا، أن تعتمد استراتيجيات "حمائية" لفائدة كثير من أوجُه التعبير الثقافي المغربية التي طالها التهميش، والتي تسير نحو انكماش متسارعٍ يقودها إلى الاندثار في غضون سنوات أو عقود. وعلى سبيل التوضيح، نحتاج إلى بيان الطابع التركيبي التوفيقي الذي يميز الهوية المغربية؛ فهي ليست تجميعا لهُويات ثقافية يستقل بعضُها عن بعض (كما قد يوحي بذلك التوزيع المؤسَّسي الذي يقترحه القانون التنظيمي المذكور)، بل هو تجميع "تراكمي" لهويات متداخلة، ذات بؤرة مركزية، تحيط بها روافد مختلفة التحقت بهذه البؤرة في زمان ومكان معلومين، يوثّقهما الدرس التاريخي والعلمي الإنساني، بوثائق وشواهد وقرائن وبحوث . وتمثيلاً، نقول إن المكوِّن الأمازيغي ليس مكوِّنا مستقلا عن غيره من مكونات الهوية المغربية، كما أنه ليس شأناً يَعْني الناطقين بالأمازيغية دون غيرهم. والأمرُ نفسُه بالنسبة إلى المكون العربي، الذي لا يجوز لأي طرف ناطق بالعربية أن يحتكر الحديث باسمه، أو أن يَعتبر نفسه وصيا عليه. والسبب، باختصار، هو تسرب عناصر عديدة من "جسم" كل واحدة من الثقافتين إلى قلب الأخرى، بشكل نجد فيه عناصر ثقافية أمازيغية عديدة في مجمل المجالات الناطقة بالعربية، كما نجد عناصر ثقافية عربية عديدة في مجمل المجالات الناطقة بالأمازيغية. إن هذا التداخل أو التمازج هو الذي مَنَحَ المغربَ هويةً تميزه من هويات الأمم والشعوب الأخرى، شرق وغربا. وهو تمازج يستدعي تعامُلا مؤسسيا على درجة عالية من الحذر والاجتهاد، كما يستدعي تسليط أضواء العناية على دوائر المشترَك العبر ثقافي المغربية العديدة، وتسويقها عبر أسناد مختلفة، وذلك لتوطيد اللحمة الوطنية. ختاماً، نؤكد أنه، على أهمية المهام المُوكلة إلى مجلس اللغات والثقافة المغربية وحساسيتها الشديدة، لا بد من توجيه أداء هذه المؤسسة صوب ما أثرناه من تجليات مضمرة ومغيّبة ضمن مجال الاهتمام الإعلامي والسياسي، ولا بد من ابتداع صيغ وآليات جديدة لوضع هذه التجليات ضمن مجال الدراسة والتتبع والحماية والتطوير، وبخاصة ما امتلك منها القدرة على تقوية الروابط المجتمعية، وتمتين الصلات، وخفض مستويات سوء الفهم الثقافي، الذي نتج في ما مضى؛ لدَواعٍ تاريخية مركّبة، سواء بين أهالي المغرب فيما بينهم، أم بين شعوب محيطه الإقليمي.