أثار القرار الصادر عن وزارة العدل والمتمثل في تنظيم جلسات عن بعد، بخصوص بعض قضايا الجنح التلبسية الكثير من ردود الأفعال المتباينة، ما بين مؤيد له على اعتبار أن حساسية المرحلة وخطورة الوضع بسبب تفشي وباء كوفيد 19، تتطلب اتخاذ مثل هذه الاحتياطات الموصى بها من قبل السلطات الصحية (المتمثلة في اتخاذ المسافة الآمنة والتعقيم...). وما بين معارض لهذا الإجراء، اعتبارا أن تنزيله وفق الكيفية التي جاء بها يضرب في صميم الاحتياطات المتخذة، حيث يتطلب الإجراء انتقال كاتب الضبط إلى المؤسسة السجنية قصد التأكد من هوية المتهم، وهو ما يفرغ المبدأ من محتواه بسبب الخطر المحدق بالموظف أو المتهم على حد سواء، ناهيك عن سلامة الإجراء من الناحية القانونية والمسطرية. إن مناقشة هذا الموضوع تفرض علينا بقوة التطرق لمشروع المحكمة الرقمية المتعثر، والذي يعد من المواضيع ذات الأهمية، بالنظر إلى كونه يندرج ضمن المشاريع المنبثقة عن الحوار الشامل حول إصلاح منظومة العدالة، والذي عرف تأخرا في التنزيل، مما ساهم بشكل أو بآخر في بروز هذا المشكل إبان هذه المرحلة، حيث كان من الضروري من وجهة نظرنا أن نعرج على أهم مرتكزات مشروع المحكمة الرقمية من منطلق مقتضيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة، وذلك لكونه يحدد التدابير الأساسية لبلورته في ظل الرؤية الشمولية لتحديث الإدارة المغربية بشكل عام، من خلال مجموعة من المشاريع المتعلقة بتأهيل المرافق الدولة لأجل تقديم مختلف الخدمات العمومية وفق صيغ رقمية حديثة، كما أن كشف مختلف الجوانب المتعثرة في تنزيل المشروع، سيبرز لا محالة الأسباب التي جعلت مثل هذا القرار(المحاكمة عن بعد) محط اختلاف. السياق العام لظهور المحكمة الرقمية عرف حقل العدالة بالمغرب تحولات جذرية غيرت مجموعة من المواقع داخل البنية العامة لهذا المرفق، على خلاف الفترة السابقة عن دستور 2011، وذلك انسجاما مع المقتضيات الدستورية وفلسفتها القائمة على ضرورة التأسيس الفعلي لمبدأ الفصل ما بين السلط، وتعزيز ضمانات استقلالية السلطة القضائية، وانسجاما مع هذا الطرح، باشرت وزارة العدل مشروع الحوار الشامل والعميق لإصلاح منظومة العدالة، تكلل بإصدار ميثاق تركيبي ضم مجموعة من البرامج والمخططات والمشاريع تهم الجوانب المؤسساتية والقانونية والبشرية، ناهيك عن الجانب المتعلق بتحديث البنية التحتية الرقمية للعدالة والذي تضمنه الهدف الفرعي الثالث في الميثاق، من خلال إرساء مقومات المحكمة الرقمية، هذا المشروع ينسجم والرؤية الشمولية لتحديث وتطوير الإدارة المغربية في شموليتها، حيث عكفت الوزارة الوصية (وزارة تحديث القطاعات العامة قبل إلحاقها بوزارة المالية حاليا) على إعداد مجموعة من الدراسات تروم إيجاد صيغ واستراتيجيات شمولية ومندمجة تنقل الإدارة من وضعها الكلاسيكي إلي وضعية الإدارة الرقمية، من خلال ترسانة من التدابير والإجراءات، كاعتماد المنصة الحكومية للتكامل (Gateway) والتي تهدف إلى رقمنة الإدارة المغربية، وفي نفس السياق بادرت الوزارة المعنية تماشيا مع الوضع الراهن بسبب تفشي الجائحة ومن أجل ضمان استمرار الخدمة العمومية لفائدة المواطنين المرتفقين، إلي إصدار دليل العمل عن بعد بالإدارات العمومية وفق المنشور الوزاري 2020/01 و2020/02، بيد أن وزارة العدل وتأثرا بنفس السياق، حاولت إيجاد مداخل لعقد جلسات عن بعد تتعلق بالجنح التلبسية، تماشيا مع التدابير المتخذة من قبل السلطات المختصة من أجل سلامة المواطنين عموما والموظفين والقضاة بوجه خاص، الشيء الذي أثار الكثير من ردود الأفعال المتباينة وهو ما سنحاول التطرق إليه. مآلات تنزيل مشروع المحكمة الرقمية فكما أسلفنا الإشارة إليه يظل مشروع المحكمة الرقمية واحدا من التحديات الذي تحملت وزارة العدل المسؤولية في تنزيلها، فبالرجوع إلي نص ميثاق إصلاح منظومة العدالة حيث حدد له سقفا زمنيا لتنزيله، بيد أن تأخرا كبيرا عرفه المشروع بسبب عدم الشروع في تهييئ الظروف المساعدة له، إلا أن المرحلة الراهنة وما تعرفه من تداعيات الجائحة أبانت عن الحاجة إلى هكذا مشروع، وهو دفع الوزارة إلي طرح نموذج استعجالي لتنزيل المحكمة الرقمية عن بعد وفق الرؤية المدرجة بالميثاق، بيد إن الأمر ليس بالكيفية التي جاء به القرار، إذ يتطلب تنزيل المشروع ترسانة من الإجراءات القبلية، لعل أولها يتعلق بتعديل الإطار القانوني المسطري (ق.م.ح) (ق.م.م) من حيث نزع التجسيد المادي للإجراءات والمساطر القضائية، ثم تأهيل العنصر البشري وفق تكوين مساير لفلسفة المشروع ويشمل كل الفئات المعنية في العملية القضائية، قصد الانخراط الكلي من أجل إنجاح المشروع في شموليته، ثم إعداد البنية التحتية الرقمية التكنولوجية للإدارة القضائية، ووضع قاعدة للبيانات لكل المنتسبين لقطاع العدالة، ناهيك عن مجموعة من التدابير المتعلقة باعتماد الأداء الإلكتروني كأداء الرسوم والمصاريف القضائية والغرامات، هذه الحزمة من الإجراءات تأخرت كبيرا بالنظر إلى الحيز الزمني الذي حدده الميثاق، فكيف يمكننا إنجاح المحكمة عن بعد في ظل افتقار المحاكم لمثل هذه التدابير المشار إليها، والتي تعد أساسية؟ وارتباطا بنفس السياق، كان علي الوزارة باعتبارها القطاع المعهودة إليها بتنزيل المشروع، أن تبدأ في بلورته بشكل تدريجي انطلاقا من المحاكم المدنية والتجارية والإدارية بشكل أولي، اعتبارا لخصوصية المسطرة الكتابية، ثم الانتقال إلي المجال الزجري في المرحلة الثانية بعد تقييم التجربة والوقوف على الإشكالات الواقعية التي اعترضت المرحلة الأولى قصد تقويمها، وذلك لأجل إنجاح التجربة في حدودها القصوى، فكما هو معلوم تعتمد القضايا الزجرية إجراءات مغايرة بنسبة كبيرة عن الإجراءات المتبعة في المادة المدنية (الاستماع إلى المصرحين، المواجهة، الشهود...). إن تعثر تنزيل مشروع المحكمة الرقمية كما هو مخطط له في صلب الميثاق، عرض العدالة إلى كثير مشاكل خصوصا إبان هذه المرحلة الدقيقة بعد تفشي الجائحة، من تأخر في الجلسات ومختلف الإجراءات المرتبطة بها قبليا أو بعديا. فكما هو معلوم وبدون شك سيشكل مشروع المحكمة الرقمية منعطفا حاسما، سيرسم معالم واقع جديد داخل قطاع العدالة، خصوصا إذا ما تم تنزيل مختلف المحاور الذي نص عليها ميثاق إصلاح منظومة العدالة بشكل واقعي وفي أجل أقصى، وبإشراك كل الفاعلين داخل القطاع بدون استثناء، اعتمادا على المقاربة التشاركية وتجسيد الروح الوطنية، بعيدا عن أية وصاية أو إقصاء، فهكذا ممارسات لا نكرس بها إلا مزيدا من الفشل، فحتى نجسد خطابات صاحب الجلالة وننخرط بشكل كلي في رؤية الدولة الهادفة إلى تطوير مختلف بنيات الإدارة، فالقطاع يعج بالكفاءات والأرضية مؤهلة لزرع بدور هذه التجربة، والكل مستعد لإنجاحها ببذل الجهود المضاعفة وما على المسؤولين إلا مباشرة التدابير بعقلانية وترو. *باحث في العلوم القانونية