في شهر رمضان الكريم ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل. وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تُبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف "الشهيوات" تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الطعام بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب.. ولا يعود هذا الطعام إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار في الشهر الفضيل. جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب "ديوان المائدة" للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام .. شهية طيبة: المائدة 5 تصلح بعض الأطعمة مادة للمختبر أكثر مما تصلح للأكل، فقيمة الأسرار التي تنطوي عليها قد تفوق أحيانا رصيدها من السعرات الحرارية. ولعل إخضاع طبق ما للتحليل أن يفضي إلى نتائج تجعلنا ننسى لذّته ونحن نتهجى بين سطور وصفته غير قليل من طباع أصحابه وعاداتهم ونمط عيشهم وتاريخهم حتى... حتى لكأن بعض الطعام للقوم كالبصمات والحمض النووي للفرد. لنتأمل على سبيل الاستئناس أكلة من صميم المطبخ المغربي اسمها "المروزية"، أكلة موسمية ارتبطت في أذهان أجيال وأجيال بعيد الأضحى، قبل أن تشب عن طوق العائلة ويصير لها اسم لذيذ في قوائم الأطعمة بأشهر الفنادق. ففي ذلك الزمن البعيد، زمن طفولتنا، حيث لم تكن الثلاجات قد عرفت طريقها بعدُ إلى معظم البيوت، كانت أمهاتنا يجتهدن في تدبير أمر الأضحية بأسرع ما يمكن. ولعل أشهى فصول التدبير ذاك كان يحمل عنوان "المحمّر والمروزية"، وهما توأم استأثر الذكر فيه باللحم على حساب شقيقته التي لم تستطع أبدا إخفاء عظامها. يتشكل طبق المروزية أساسا من اللحم والزبيب مضافا إليهما البصل والثوم والزيت والعسل وقليل من حبات اللوز المقلي التي تزين الطبق قبل تقديمه. أما التوابل فهي عبارة عن تشكيلة قوامها ثلاث دزائن من البهارات الغريبة تحمل اسما جامعا مانعًا: رأس الحانوت. إذا كانت عظام المروزية زاهدة في اللحم فإن الزبيب لا يقل زهدًا، فهو أيضا فقد معظم لُبابه بفعل الشيخوخة فبرزت عظامه / بزره، واعترته التجاعيد، ولم يعد ذلك العنب الطافح الذي بإمكانه في أية لحظة أن يرتكب جريمة خمر. إنهما زاهدان، لكنهما لذيذان. لكأن "اللذة في العظم" حقّا. ثنائي آخر يأبى إلا أن يحضر: البصل والثوم، البصل بوصفه الحاضر الأكبر في المطبخ المغربي، أما الثوم فيعزو إليه المخيال الشعبي تسعة وتسعين شفاءً، ولو أكمل المائة لكان دواءً للموت (وهو ليس كذلك بسبب الفرق البسيط بين التاء والثاء الذي فوّتَ على الثوم أن يكون الموت معكوسا). إن فص الثوم إذن هو أصغر صيدلية في العالم ولابد له أن ينتبذ ركنا في بيت الداء. الغياب المطلق للشحم والحضور القليل للحم يفرضان على نقي العظم أن يوفر للمروزية بعض الإدام على أن يوفر لها الزيت ما تبقى من حاجتها إليه. دور الزيت الداعم هذا يقوم به العسل أيضا. فحين يختلط الزبيب بالعسل يصير كأنه سليل الشهد وليس ابن الدالية. أما اللوز فليس سوى إكسسوار: جواهر زائفة ترصع تاج الطبق. ورأس الحانوت؟ إن رأس الحانوت جمع بصيغة المفرد، لذلك فهو يحتاج إلى جمع من علماء النبات والفيلولوجيا والتغذية والأنثروبولوجيا... ليفكّوا شيفرته. فتشكيلة من نحو أربعين شيئا (أقول شيئا حتى لا أقول شيئا آخر) تمّ جمعها من أكثر من قارة لابد أن تكون ذات سرّ كبير. ولنا فقط أن نتأمل بعض عناصرها: الجوزة الصحراوية، لسان الطير، القرنفل، الإبزار الأبيض، الخرقوم، قاع قُلة، الخدنجل، القرفة، سكين جبير، الورد البلدي، دار الفلفل، بسيبيسة... وذبابة الهند. ولئن كان سكين جبير، مثلا، هو الترجمة المغربية للزنجبيل، فإن ذبابة الهند ذبابة حقيقية، فهي لرأس الحانوت كالتوقيع للماركات الفاخرة. ولأنها لامعة جدّا ولها عينا نمر بنغالي، فلن يستطيع أي عطار أن يزوّرها. فعشية كل عيد أضحى كانت الأمهات في سوق العطارين يلححن على أن يكون رأس الحانوت في كامل شعثه حاملا ذلك التوقيع الهندي، إذ أي رأس هذا إذا لم تكن ذبابة الهند شخصيا تطنّ فيه؟ ومع ذلك فقد كن غالبا ما يرمينها تعففا، فالذبابة ذبابة حتى لو كانت من القمر. وفي انتظار ما ستسفر عنه أبحاث العلماء سالفي الذكر، اسمحوا لي أن أنوركم: لعل العطار الأول الذي جمع تشكيلة رأس الحانوت كان يسعى فعلا إلى أن يصلح ما أفسده الدهر. وفي رواية أخرى أن المروزية اسم يطلق على الواحدة من أهل مَرْوْ وهي بلدة في خراسان مر عليها الجاحظ مرور البخلاء. فهل يكون طبقنا اللذيذ سليل المطبخ المروزي؟ وإذا كان كذلك، ألا يحق للبخل أن يشاطر الجوع شرف أمهر الطباخين؟ بعض العائلات المغربية تحمل أسماء تشي بأصولها: الشامي، العراقي، التونسي، التلمساني، الأندلسي، العثماني، الفارسي، اليمني، الهلالي، السليمي، السمرقندي، البصري، البغدادي، الغساني، البخاري... والمروزي طبعا. ولما كان هؤلاء أحفاد أولئك، فإن خرائطهم الجينية قد وصلتنا بغير قليل من تضاريسها القديمة. ولعل المطبخ واحد من التضاريس تلك. يقول الجاحظ: "...وإنما يختارون السكباج لأنها تبقى على الأيام، وأبعد من الفساد". أما السِّكْباج فأكلة فارسية تدخل في تركيبتها الفاكهة المجففة كالزبيب على سبيل الحصر، أما الإبقاء على الأيام الذي كان لدواعي الرفق في المعيشة (الذي يسميه المُغرضون بخلا) فقد صار في حالة مروزياتنا المعاصرات وجاراتهن ضرورة أملاها غياب الثلاجات على الأرجح. ولعل تشريحا لرأس الحانوت أن يدلنا على ما يدور في خلده من مسالك وشعاب بين الهند وبلاد فارس ومنها إلى أسواق العطارين فإلى مطابخ أمهاتنا اللواتي يستجرن ببعض التوابل من فساد الطعام. تحظى المروزية، بعيدا عن المطبخ، بحضور ملحوظ. فإليها، والعهدة عليّ، يعزى ظهور مقولة "اللذة في العظم"، وهي المقولة السحرية التي استطاعت أن تغير كثيرا من مقاييس الجمال. فالنحيفات من النساء نزلت عليهن بردا وسلاما فرفعنها شعارا عالميا، إذ صرن في الحفلات والإعلانات وعروض الأزياء... يبرزن عظامهن اللذيذة بعد أن شح منهن اللحم والثوب معًا حتى لكأن البخل ملة واحدة. كما أنها تحضر بشكل صريح في المثل المغربي الدارج: "لا حاجة للمروزية بزبيب أحمر"، وهو مثل يضرب لعدم التطلب، تلك الفضيلة التي ورثتها مروزياتنا المعاصرات عن جداتهن. وإذًا، فأهل مرو بيننا، يا مرحبا يا مرحبا.