مشاهد ومواقف كثيرة برزت في زمن كورونا أظْهَرَ فيها الإنسان المغربي نِسَبا عالية من الوعي اللازم الذي تتطلب المرحلة، وذلك خلافا لما نصف به أنفسنا أننا "ما شي واعيين" أو "حنا شعب ناقص وعي" أو غير ذلك من الأحكام الجزافية التي نتبادلها في بعض المواقف العابرة !! ولعل هذا مما يُحْمد لهذه الجائحة، رغم قساوتها وفتكها الجبار، حيث أيقظت في نفوس الكثيرين منّا بَعْضًا من معاني الإنسانية النبيلة والأخلاق الإسلامية الأصيلة التي عُرف بها المغاربة عبر تاريخهم الطويل. ومن المظاهر الجميلة والتي تستحق الثناء والإشادة الدالة على صحوة الوعي الإيجابي في مجتمعنا مع جائحة كورونا نذكر: الوعي باللحظة التاريخية: فقد أظهر عموم المغاربة انضباطا والتزاما كبيرين بتدابير الحجر الصحي بنسب تقارب 100 بالمائة، وتفاعلا إيجابيا مع كل القرارات المتخذة من قبل السلطات المختصة، وذلك بكامل الطواعية والاختيار دون الحاجة إلى اللجوء لإعمال الآليات "الزجرية" إلا عند الضرورة القصوى وفي حق بعض الحالات "الشاذة جدا". لأن الجميع –مواطنين ومسؤولين- حريص حِرْصا تاما على الخروج من هذه الأزمة الوبائية بأقل الأضرار على مستوى الأرواح البشرية وكذا على مستوى مضاعفاتها الارتدادية على النسيجين الاقتصادي والاجتماعي؛ وهو ما ظهر جليا في التحكم الملحوظ في كيفية تدبير الوضعية الوبائية ببلادنا، خلافا لبعض بلدان الجوار في الشمال –مثلا- التي "استهتر" فيها المواطنون بالفيروس وآثاره الوخيمة صحيا واجتماعيا واقتصاديا !! إنه الوعي باللحظة التاريخية. الوعي بقيمة الإنسان: فمن المشاهد الدالة على ذلك والرائعة والمحمودة التي تم تداولها بكثافة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كشكل من أشكال الاستحسان و التبني المعنوي، صورة يظهر فيها رجل أمن يرفع التحية أمام رجل نظافة، ولعل هذا الاستحسان الذي حظي به هذا المشهد يرجع إلى كونه يعيد المصداقية لمعنى التقدير والاحترام والاعتراف المتبادل الذي يكون من كل المحترمين في هذا الوطن لمن هُم أهْلٌ للاحترام والتقدير... وهكذا ينبغي أن تكون علاقاتنا الاجتماعية على الدوام، سواء في أزمنة المحن والوباء أو أزمنة الطمأنينة والرخاء.. فجميع المواطنين والمواطنات جديرين بالاحترام والتقدير وإن اختلفت الألقاب المهنية أو تفاوتت الرتب الاجتماعية أو تباينت القدرات الذهنية والبدنية... لأننا ببساطة آدميون وترابيون مصداقا لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : "كلكم لآدم وآدم من تراب"، ولأن أي مواطن أو مواطنة إما نظير لك في الخلق (أي شبيه) أو أخ لك في الدين والوطن. إنه الوعي بقيمة الإنسان. الوعي بقيمة النظام: ذلك أن عموم المغاربة أصبحوا يحترمون –إلى حد كبير- طوابير الانتظام في صفوف لقضاء حاجياتهم الاستهلاكية في المحلات التجارية والمخابز والأسواق الممتازة، أو عند قضائهم لشؤونهم الإدارية والمالية في مؤسسات عامة أو خاصة (الأبناك- مؤسسات تحويل الأموال...) أو عند استعمال وسائل النقل العمومي (حافلات – ترامواي...)، وهو سلوك طالما كان يخرقه البعض منّا بكل "فجاجة" وبلامبالاة بمن حوله، وتَكْثُر بسببه الملاسنات اللفظية بل وحتى المشادات اليدوية أحيانا...، ونأمل أن يترسخ هذا السلوك الحضاري فيما بيننا ويصبح ساريا في كل أيامنا، و ألا يكون سلوكا عابرا وظرفيا يرتبط فقط بالخوف من العدوى!! الوعي بقيمة التضامن ولو بالقليل من القليل: في مواقف دالة على حب الكرم والسخاء والتضامن تبرع أغلب المواطنين المغاربة طواعية واختيارا لفائدة صندوق مكافحة جائحة كورونا، لكن الأكثر دلالة والأجمل أثرا أن يُشارك في هذا التبرع عدد من المواطنين والمواطنات الذين استفادوا من الدعم المالي المخصص لحاملي بطاقة راميد أو الذين ينتمون للقطاع غير المهيكل، وهذا دليل على أن عموم المغاربة -ولله الحمد- يتمتعون بصدق الانتماء وجميل العرفان للوطن ويَرُدُّون الإحسان إحسانا، كما أن هذا السلوك درس بليغ لكل الذين يبخلون بأموالهم أو يتضايقون من المساهمة بجزء منها في مثل هذه الظروف العصيبة، خاصة إن كانوا ميسوري الحال؛ وأن من جُبِل على السخاء لا يجد غضاضة أو حرجا في التبرع والتضامن بالقليل من القليل، لأنه يوقن أن الغنى –حقا- هو غنى القلب وليس غنى المال واليد. إنه الوعي بقيمة التضامن. الوعي بالمسؤولية والإنسانية: وظهر ذلك بوضوح في سلوك كل العاملين في الجبهة الأمامية لمكافحة جائحة كوفيد 19 من أطباء وطبيبات وممرضين وممرضات ورجال ونساء الوقاية المدنية و عمال وعاملات النظافة ورجال ونساء الأمن ورجال ونساء السلطة المحلية ورجال ونساء التربية والتعليم وغيرهم وغيرهن كثير؛ حيث تَجنّد الجميع لخدمة الوطن والمواطن بتفان ونكران للذات وعمل متواصل آناء الليل وأطراف النهار، بل وكانت أعمال هؤلاء وتصريفهم لمهامهم مصحوبة بكثير من المعاملة الإنسانية الراقية من حسن تواصل بالكلمة الرقيقة، وخطاب مليء بالعواطف النبيلة التي تدل على حب المواطن والخوف على صحته، ومساعدة للمحتاجين في كل المدن والقرى والدروب والأزقة (إيصال المساعدات الغذائية والسهر على توزيعها مثلا)، وحرص شديد على تعليم أبناء المغاربة ووقايتهم من "فيروس الجهل" بكل إمكانات التعليم عن بُعد المتاحة... وهذا كله –وغيره كثير مما لا نراه أو لا ننتبه إليه في الظروف العادية- يُجَسّد بشكل واقعي وعي هؤلاء بالمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقهم ويبرهن على حبهم لوطنهم بوعي وإنسانية. إن هذه الصور الراقية التي ذكرنا هنا، وغيرها كثير مما لا يتسع المقال لسرده، تدل على أن الوعي عامل مهم في بناء الإنسان وتدبير شؤون الوطن، كما أنه عامل حاسم في بلوغ النموذج التنموي الجديد الذي تشتغل لجنة على وضع أسسه واستجماع آراء جميع الفرقاء حوله من فاعلين سياسيين واجتماعيين واقتصاديين وتربويين وناشطين مدنيين وحقوقيين ودينيين وغيرهم... إلا أننا حينما نرى مشاهد أخرى وما يصاحبها من تصرفات سلوكية مستفزة ) إهانة مواطنين – سرقة حلوى وشوكولاتة من شاحنة منقلبة بدل الانشغال بإنقاذ سائقها – خرق الحجر الصحي بتصرفات طائشة مثل الخروج في جماعات للدعاء أو الغناء- التهافت على المساعدات الإحسانية وحرمان مستحقيها الحقيقيين منها!!!) فإننا نُصاب بشيء من "الخيبة" أو "الذهول"، مما يدفعنا إلى القول أو الاعتقاد بأن المسافة بيننا وبين "الوعي الحقيقي" ربما لم تَقطَع بعد ميلها الأول!! وأننا نحتاج إلى جهود مُعْتَبرة ومُضاعَفة في التربية والتوعية والتحسيس والتدريب من أجل تحصيل وعي مجتمعي عام ينفعنا سواء في فترات الشدة أو الرخاء، أو في أحوال السراء أو الضراء.