شكلت الأحزمة الزراعية المحيطة بالمدن السلطانية مشهدا جغرافيا طبيعيا لقرون عدة، بحيث كانت المدن المغربية تتوفر على أحواز فلاحية تحيط بأسوارها وتمتد مساحتها وفق أحجام وأهمية التجمعات المعنية، بهدف تأمين أمنها الغذائي من المواد الحيوية كالخضر والفواكه واللحوم والألبان (مراكش، فاس، مكناس، وجدة، الرباط، سلا، صفرو، ...)، وتمكينها من فرصة مقاومة الحصار. وستعرف تلك الحواضر مع دخول المستعمر الأجنبي، خروج المباني عن الأسوار التاريخية، وظهور المدن الأوروبية الجديدة، وهي دينامية ستستمر وتتوسع بعد حصول المغرب على الاستقلال. وسيزحف العمران على أجود الأراضي وأكثرها خصوبة حارما المدن من سلتها وحزامها الغذائي المباشر، وهو ما أسهم في ارتفاع وغلاء المنتجات الغذائية، نتيجة تعدد سلسلة الوسطاء وارتفاع مصاريف نقلها من مناطق إنتاجها البعيدة. ضمن هذا السياق، تتضح أهمية تشجيع إطلاق برامج موسعة للزراعة الحضرية داخل المدن المغربية، للاستفادة من مكاسبها الغذائية والاقتصادية والجمالية والنفسية، ولتمكين التجمعات السكانية من مواجهة فترات الأزمات (الأوبئة، الحروب)، بواسطة تبني سياسة حضرية متكاملة تجد جذورها في التاريخ المغربي، وتستفيد من تجارب الحواضر العالمية الرائدة في هذا الميدان. التكتل الحضري لمدن الرباطسلاتمارة: مثال ساطع على فقدان أجود الأراضي الفلاحية بفعل التوسع العمراني تضم ساكنة التكتل الحضري وفق آخر المعطيات الإحصائية الرسمية لسنة 2014، قرابة مليوني نسمة، موزعة على الرباط 573 ألف نسمة، عمالة سلا 973 ألف نسمة ومدينة تمارة 313 ألف نسمة. وتظهر صور الأقمار الاصطناعية المدعمة بأبحاث ميدانية هيمنة التوسع الأفقي (البنايات من طوابق معدودة وأحياء الفيلات) على شكل الزحف العمراني، مما يضاعف المساحات المفقودة، شملت للأسف أجود الأراضي الفلاحية وأكثرها خصوبة. وقد زحف الإسمنت على بساتين وضيعات الرباط على مدى عقود عديدة منذ حصول المغرب على الاستقلال، وتستعد المدينة للتوسع من جديد على مساحة تفوق 1000 هكتار في إطار مشروع "تهيئة هضبة عكراش"، فيما سيغطي مشروع تهيئة ضفتي وادي أبي رقراق الفاصل بين مدينتي الرباطوسلا حوالي 6000 آلاف هكتار معظمها أراضي فلاحية "الولجة"، وقد عاشت بساتين و"سواني" مدينة سلا نفس السيناريو الذي شاطرتها فيه أيضا مدينة تمارة، وهو ما سيقلص الأمن الغذائي للحواضر المعنية وارتفاع أسعار الخضر واللحوم فيها، في ظل التزايد الديمغرافي الموصول. ويسائل هذا الوضع الإشكالي سياسات التخطيط الحضري ببلادنا، في ضعف استحضارها لأبعاد الأمن الغذائي للمدن، وعدم توفير الحماية القانونية للأراضي الفلاحية الخصبة، بواسطة منع البناء فيها، وتشجيع البناء العمودي عوض الأفقي، لربح مساحات إضافية أو السماح حصريا بالتوسع في اتجاه أراضي غير قابلة للزراعة. وتقدم المشاريع المبرمجة مستقبلا التي تعرفها حواضر المملكة، عامة وجهة الرباطسلاالقنيطرة خاصة، فرصة استدراك حقيقية لإدماج الزراعة الحضرية ضمن المخططات العمرانية، بفضل تنامي الوعي البيئي والحس الإيكولوجي في تخطيط مدن الألفية الثالثة، وإمكانية إشراك المجتمع المدني وتوظيف البحث العلمي. ويمكن للمغرب الاستئناس بالتجارب العالمية المتفوقة في هذا الإطار، ورد الاعتبار لميراث ثقافي عريق لحواضر البلاد، وحماية البيئة وصحة قاطني هذا التكتل الحضري موضوع الدراسة، واستغلال أبحاث معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة والمعهد الوطني للبحث الزراعي وأبحاث طلبة الجغرافيا وبقية التخصصات المكملة. الزراعة الحضرية: الفوائد الغذائية والأبعاد النفسية والجمالية تشمل الزراعة الحضرية جميع أنواع البستنة وإنتاج الخضر واللحوم والفواكه وأحواض تربية الأسماك والنحل والحلزون، التي يمكن أن تتم داخل المدن أو في الأحزمة المجاورة لها، يضاف إليها إنتاج أنواع الزهور والورود والنباتات الطبية والعطرية، ذات إمكانيات الاستعمال الصحي أو الغذائي أو الصالحة للتزيين. وتعتبر أسطح وشرفات المنازل والمناطق الصناعية وساحات المدارس والجامعات والمستشفيات وجنبات الشوارع، أمكنة ملائمة لممارسة أنشطة الزراعة الحضرية، كما يمكن استحداث أسطح اصطناعية للرفع من إمكانيات المساحات المزروعة "زراعة على شكل طوابق اصطناعية، جداريات، ...". ويمكن عبر استخدام البرامج المتعددة لنظم المعلومات الجغرافية، واستغلال معطيات صور الأقمار الاصطناعية ومخططات التهيئة، وتتبع حدود المدار الحضري أن تستخرج كل مدينة على المساحة النظرية المحتملة القابلة لممارسة الأنشطة الزراعية، مع القيام برسم خرائط وتصاميم توزيع وتوطين نوع المغروسات وفق تصور مدروس. وتعرف العديد من شوارع وساحات مدن المغرب زراعة العشب الأخضر، رغم حاجته للسقي المستمر واستهلاكه لكميات ضخمة من المياه طيلة السنة، وأحيانا قد يتم استعمال مياه الشرب في السقي في عز حرارة وجفاف فصل الصيف. وتتم هذه الممارسات رغم ندرة المياه ومخاطر نقص مياه الشرب، التي سبق لملك البلاد محمد السادس التأكيد على ضرورة اتخاذ إجراءات استباقية تهم ترشيد استعمال الموارد المائية، وضمان استمرارية تزويد المدن والقرى في كافة أنحاء المغرب بالماء الشروب وتخصيص استثمارات هامة بهذا الخصوص. وتتجلى الأهمية الغذائية الاستراتيجية للزراعة الحضرية خلال فترات الأزمات والحروب وانتشار الأوبئة، بحيث شاهدنا بشكل مؤسف سكان بعض المدن التي عاشت فترات حصار عسكري يضطرون لأكل لحم القطط والكلاب، ومن جهة ثانية سيسهم هذا النوع من الزراعة في تثبيت أو تقليص أسعار الخضر التي فاقت في مناسبات عديدة أثمنة الفواكه. ولا يمكن التقليل من أهمية المساحات المخصصة للقطاع، لأن مردوديتها تصبح مرتفعة جدا بأضعاف ما تحققه الزراعة الاعتيادية في الأرياف، ويصبح عامل صغر ومجهرية القطع والبقع المزروعة، عاملا مساعدا لتكثيف رعاية المزروعات وتزويدها بالسماد الطبيعي، وتطوير التقنيات المستعملة وتوظيف البحث العلمي والإمكانيات التكنولوجية الزراعية. ويضاف لذلك، مختلف الجوانب الجمالية والإيكولوجية التي تنعكس مباشرة على صحة سكان المدن وتحسين مزاجهم، بل ولها أبعاد نفسية وعلاجية إيجابية تسهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية للحياة المعيشية اليومية، وشغل أوقات الفراغ بواسطة ممارسة أنشطة ممتعة ومفيدة وصحية في نفس الوقت، والإسهام في التربية البيئية للأطفال وإحداث سلوكيات حضرية راقية، وثقافة طبية غنية حول خصائص النباتات. الزراعة الحضرية وإمكانيات إحداث صناعة مواكبة وتوفير فرص شغل إضافية تؤكد عدة تجارب دولية ووطنية إمكانية استثمار أنشطة الزراعة الحضرية لمساندة جهود التنمية الاقتصادية المباشرة للمدن، من خلال تعزيز جاذبيتها السياحية (حدائق مراكش وإفران مثلا)، والتسويق للوجهة المغربية وتحسين صورة المعمار الوطني المحلي لدى زوار المملكة من مختلف بقاع العالم. وأكثر من ذلك، سيؤدي ازدهار الزراعة الحضرية بمدننا إلى ربطها الوظيفي بصناعة مواكبة متخصصة، وإحداث مقاولات مبتكرة توفر فرص شغل إضافية عديدة لشباب الحواضر، كوحدات تصنيع أحواض تربية الأسماك، وهندسة الأسطح الزراعية الاصطناعية "الزراعة ضمن طوابق خشبية، بلاستيكية أو معدنية"، وإنتاج الأسمدة الطبيعية وتوفير الخبرة والخدمات في ميادين البستنة والتصاميم الجمالية. وفي نفس السياق، العمل على تصنيع الأواني والأدوات المخصصة لاستقبال ورعاية الشتائل، وتثمين وإعادة استعمال المتلاشيات (الإطارات المطاطية، الصناديق الخشبية المتهالكة، القنينات البلاستيكية، العلب المعدنية والزجاجية، الأثاث المنزلي القديم، ...)، وتكييفها لتناسب استقبال الزراعات وتراعي الأبعاد الجمالية عبر تحويلها إلى لوحات خضراء حية، ومحاولة كسب أسواق إفريقية لتصدير التجربة في مراحل لاحقة. ختاما، تتعدد الفوائد والأبعاد الغذائية والجمالية والاقتصادية والصحية للزراعة الحضرية بمدننا المغربية، وتخلق مشاهد حضارية أنيقة، وتضمن جودة الغذاء البيولوجي الذي يزرعه السكان بأيديهم ويتحكمون في سلامة مياه السقي، وتسمح باستعمال أسمدة طبيعية غير كيماوية أو مسرطنة. ويمكن أن تمنحنا هذه التجربة دروسا في ترشيد استهلاك الموارد المائية في ظل تحديات التغيرات المناخية وتوالي سنوات الجفاف وتفاقم الخصاص المائي، من خلال بناء محطات لمعالجة المياه العديمة وتحويلها لسقي الحدائق والغابات الحضرية عوض استخدام آبار استنزاف الفرشة المائية الباطنية صعبة التجدد، أو تضخيم الفاتورة الغالية أحيانا لاستعمال مياه الشرب. مصادر بيبليوغرافية: موسى المالكي وموسى كرزازي، 2014: الحزام الفلاحي لمدن الرباط، سلاتمارة تراجع مستمر ومضاربة عقارية حادة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش - جامعة القاضي عياض، سلسلة ندوات ومناظرات، مجموعة البحث حول التدبير الجهوي والتنمية الترابية، دراسات مجالية العدد 8 حول التدبير البيئي واستراتيجية التنمية المستدامة. موسى المالكي وزكرياء الوكيلي، 2009: الفلاحة والتمدين، دراسة مركز ضاحوي عين العودة (عمالة الصخيراتتمارة)، بحث لنيل شهادة الماستر في علوم المجال، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة - جامعة ابن طفيل (غير منشور). * أستاذ شعبة الجغرافيا بجامعة محمد الخامس - الرباط [email protected]