يعتبر سهل النكور المجال الفلاحي السقوي الوحيد بإقليم الحسيمة خصوصا وبالريف الأوسط عموما، حيث يتميز بخصائص طبيعية وبشرية هامة قلما نجد مثيلاتها في سلسلة جبال الريف المعروفة لدى الجغرافيين بشدة تضرسها وقوة انحداراتها، والتي تكون في غالب الأحيان معيقة لمختلف الأنشطة البشرية التي تتم داخل المجال ولاسيما الاستغلال الفلاحي. بهذا المنظور، ظل سهل النكور بفضل مؤهلاته الطبيعية (طبوغرافيا منبسطة، تربات خصبة، مناخ متوسطي، ثروة مائية متنوعة...) مجالا فلاحيا منذ زمن بعيد، شكل الدافع الأساس للعديد من المجموعات البشرية للاستقرار في هذا المجال، وذلك سعيا منهم لاستغلال إمكانيات هذا السهل الفلاحي، من أجل توفير مصادر الرزق وسد حاجيات السكان بمختلف المنتجات الفلاحية بشكل عام. وقد عرف السهل بذلك استغلالا فلاحيا هاما، وذلك منذ أن استقرت أولى المجموعات البشرية في هذه المنطقة (إمارة النكور) واتخاذها للنشاط الفلاحي كنشاط أساسي في جلب مصادر العيش للأسر. إلا أن أوج مراحل الاستغلال الفلاحي بهذا المجال تعود إلى النصف الثاني من القرن العشرين مع خروج الاستعمار الاسباني واتجاه المغرب نحو تبني القطاع الفلاحي كنشاط أساسي في الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال تبنيه لمجموعة من المخططات الفلاحية، التي ترمي النهوض بالقطاع الفلاحي وجعله رافعة أساسية للاقتصاد المغربي. وقد نال سهل النكور حظه من هذه السياسات الفلاحية الوطنية، فعرف عمليات واسعة من التأهيل الفلاحي، تمثلت في إعداده وتهيئته في إطار سياسة الإصلاح الزراعي، التي تروم جعله دائرة سقوية مهمة داخل جبال الريف كفيلة لسد الحاجيات المحلية لساكنة المنطقة بشكل عام. فأصبح السهل بالتالي يتوفر على مختلف عوامل الاستغلال الفلاحي، ومنها بالخصوص التجهيزات الهيدروفلاحية (قنوات الري، السد، الآبار)، ومختلف أحجام الاستغلاليات الزراعية التي تمخضت عن عملية ضم الأراضي الفلاحية، فضلا عن إطار تشريعي ينظم القطاع الفلاحي داخل السهل، مما شكل نفسا جديدا للاستغلال الفلاحي بالسهل وبمختلف الطرق والأساليب. غير أن هذا النفس الجديد للاستغلال الفلاحي لم يدم طويلا سرعان ما تراجع، نتيجة تظافر مجموعة من العوامل حالت دون تطوير وتأهيل القطاع الفلاحي بالنكور. وتروم هذه الدراسة رصد مختلف العوامل التي لها أثر عميق في تراجع الاستغلال الفلاحي بسهل النكور. لذلك سنحاول في هذه الدراسة، قدر الإمكان، دراسة أهم العوامل المساهمة في تراجع الاستغلال الفلاحي بالسهل. فأين تتجسد هذه العوامل يا ترى ؟ أهم العوامل المساهمة في تراجع الاستغلال الفلاحي بالسهل تظافرت مجموعة من العوامل، الطبيعية والبشرية، لتجعل من القطاع الفلاحي بسهل النكور قطاعا محدود النتائج وفي تقهقر مستمر. ويمكن اختزال هذه العوامل المؤثرة في الاستغلال الفلاحي بالمجال المدروس في العناصر السبعة التالية: 1. توالي سنوات الجفاف وندرة الموارد المائية الفلاحية يعتبر الجفاف وما يترتب عنه من نقص حاد في الموارد المائية وخاصة المخصصة للفلاحة إحدى أهم المعيقات الأساسية للاستغلال الفلاحي بسهل النكور. فبالنظر إلى طبيعة المناخ السائد بالمجال المدروس الذي يتسم بالتغايرية وعدم الانتظام الزمني لكميات التساقطات، واعتبارا لظاهرة توحل سد م.ع.ك الخطابي، وكذلك الملوحة الشديدة التي أصابت الفرشة المائية الباطنية بنسبة تتراوح ما بين 5 غ/ل على مستوى الساحل و0.4 غ/ل في الفرشات البعيدة عن البحر، والاستغلال المكثف للمياه الباطنية وبالآليات الحديثة. فإن كل ذلك ساهم إلى درجة كبيرة في تقلص المياه الفلاحية، مما انعكس سلبا على الاستغلال الفلاحي بهذا المجال السقوي الوحيد بمنطقة الحسيمة، والذي يراهن ويعتمد بقوة كبيرة على ضرورة حضور الماء لاستمرار الحياة الفلاحية داخل السهل. فقد ترتب عن توالي سنوات الجفاف وتراجع حقينة المركب المائي م.ع.ك.الخطابي من 45.10 م م3 إلى أقل من 20 م م3 أمام تزايد كمية الأوحال، تقلص حصة المياه المخصصة للفلاحة بالدائرة السقوية النكور-غيس. فهذا السد الذي كان يسمح بسقي حوالي 6 آلاف هكتار بالسهل في بداية تشييده، أضحى اليوم لا يكفي سوى للتجمعات السكانية (بني بوعياش، امزورن، الحسيمة...) بالماء الشروب، أما الفلاحة فأصبحت بمنأى عنه منذ سنة 2005، وذلك نتيجة لندرة المياه التي أصبح الإقليم بصفة عامة يتخبط فيها. لذلك عمدت السلطات القائمة على إدارة مياه السد إلى حرمان السهل من السقي بمياه المركب المائي المذكور، وأصبحت العناية تحط على تزويد سكان المراكز الحضرية بالماء الشروب. الشيء الذي دفع العديد من الفلاحين إلى التخلي عن زراعة أراضيهم الفلاحية بالسهل، ومنهم من اكتفى بغرس الأشجار المثمرة (أشجار الزيتون) على جوانب الاستغلاليات التي لا تتطلب كميات وافرة من المياه، وذلك لإثبات الملكية من جهة، وتحقيق المردود الفلاحي من جهة أخرى. وفي هذا الإطار، تزايدت المساحات المشجرة في السهل مقابل تقلص المساحات المزروعة من الحبوب والخضروات والقطاني والكلأ كما سبقت الإشارة إلى ذلك. أما البعض الآخر من هؤلاء الفلاحين اتجهوا إلى البحث عن بديل مياه السد، فوجدوه في ضخ المياه من الطبقات المائية الباطنية، عبر حَفر الآبار واستعمال الآلات الحديثة في ضخ المياه. مما ترتب عن ذلك استغلال مهول للفرشات الجوفية، ولاسيما تلك القريبة من الساحل التي أصبحت في الوقت الحاضر تعرف زيادة مهمة في الأملاح، نتيجة ترشح مياه البحر إليها عبر قنوات داخلية، وبالتالي ظل عدد لا يستهان به من هذه الآبار غير صالحة تماما للسقي، بفعل الملوحة الشديدة لمياهها، المعروفة عامة بعدم استعمالها في سقي الاستغلاليات الزراعية. وهذا بدوره انعكس سلبا على الاستغلال الفلاحي، وصار بالتالي يتراجع شيئا فشيأ وبالخصوص في الاستغلاليات القريبة من الساحل لقطاع النكور التي لا تستفيد سوى من الآبار. أمام هذه الوضعية المائية المتأزمة، وكما هو ملاحظ في الميدان، فكر فلاحون آخرون على استعمال المياه العادمة الآتية من المراكز الحضرية (امزورن وبني بوعياش) في سقي حقولهم الزراعية. فهذا الأمر يظهر بجلاء في الاستغلاليات التي تمتد على طول قناة تصريف المياه المستعملة في المراكز الحضرية المذكورة، والتي تخترق السهل على مسافة طويلة، فيتناوب الفلاحون عليها في سقي مزروعاتهم. وبالتالي، هذا الوضع المائي يكشف وجه من أوجه حجم المعاناة التي يعانيها الاستغلال الفلاحي بالسهل، ويعيق مسيرته التطورية ويجبره بالتالي ليتراجع إلى مستويات مثيرة للانتباه. تجدر الإشارة في الأخير، إلى أن أزمة المياه الفلاحية هاته تبرز أكثر فأكثر في القطاع المسقي النكور، الذي تعرض لعملية التهيئة الفلاحية المذكورة في المحور الأول، بينما القطاع الآخر من السهل (غيس)، فهو لا يعاني نفس القلاقل التي يعانيها قطاع النكور في شأن المياه الفلاحية، وذلك لكونه يعتمد بالدرجة الأولى على مياه واد غيس لسقي الاستغلاليات الزراعية، لكنه هو الآخر أحيانا يعيش أزمة المياه بمجرد توقف صبيب الوادي جراء توالي سنوات الجفاف. 2. ضعف وغياب صيانة التجهيزات الهيدروفلاحية إن الواقع الحالي للتجهيزات الهيدروفلاحية بالمجال المدروس، يعد في الحقيقة أبرز المعيقات الرئيسية للاستغلال الفلاحي بالسهل ولاسيما بقطاع النكور. فضعف وغياب الاهتمام بهذه التجهيزات زاد الطين بلة، حيث أصبحت كميات المياه تتناقص شيئا فشيئا من المركبات المائية بفعل تزايد حجم الأوحال داخلها وغياب الحماية الضرورية لها، كما أصبحت السواقي تعرف تدهورا غير مسبوق وخاصة السواقي المخرسنة بقطاع النكور، التي صارت مترامية ومتساقطة على الأرض منذ فترات طويلة، والتي تقدر بحوالي 500 قناة متساقطة ما بين الضفة اليمنى والضفة اليسرى للسهل، وذلك بفعل التركز السكاني والفيضانات الجارفة وزلزال 1994 و2004. فهذا الواقع ساهم في عزلة الكثير من الاستغلاليات الفلاحية، فأصبحت بدون مسالك المياه، مما دفع العديد من الفلاحين إلى الكف عن الاستغلال الفلاحي، منتظرين تدخل الدولة لإعادة بناء ما تساقط أرضا وترميم ما به شقوق. في حين البعض منهم وخاصة ذوي الدخل الجيد يعمدون إلى شراء أنابيب المياه أو كرائها وإيصالها مباشرة من الآبار أو الوديان إلى الاستغلاليات المزروعة لسقي المنتجات الفلاحية. بينما نجد آخرون يعتمدون فقط على مياه الأمطار في سقي ضيعاتهم الزراعية شأنهم في ذلك شأن باقي مستغلي الأراضي البورية. وبصفة شمولية، يعد تدهور وغياب صيانة التجهيزات الهيدروفلاحية بالسهل في مجمل الأحوال، أبرز الأسباب- إلى جانب ندرة المياه- التي تدفع الفلاحين إلى التخلي عن استغلالياتهم الزراعية، والبحث عن مصادر أخرى للعيش الكريم. 3. هشاشة التربة وملوحتها العالية يعرف الغطاء البيد ولوجي في السهل تنوعا كبيرا في ترباته إلا أنه في ذات الوقت يتميز بتكوينات هشة وسريعة العطب، مما تصبح في كثير من الأحيان إحدى المعيقات الأساسية للاستغلال الفلاحي. ذلك أن الانجراف السريع للتربات ولاسيما في الضيعات المائلة في عالية السهل وتلك المحاذية لمرتفعات تمسامان ومرتفعات النكور، غالبا ما يكون له وقع خطير على الاستغلال الفلاحي، بحيث يخلف أثرا عميقا على الاستغلاليات الزراعية. فعلى سبيل المثال، ترتب عن فيضان أكتوبر 2008 فساد كميات هائلة من التربات غطت أجزاء واسعة من المزروعات وكذلك المغروسات الشجرية القصيرة الحجم (أشجار الزيتون بالخصوص). فهذا الأمر كان واضحا في الاستغلاليات الموجودة في السافلة على مستوى الساحل التي ترسبت فيها تلك المنقولات التُّربوية، بحيث مازالت تلك الاستغلاليات غير مستغلة إلى حد الآن، نتيجة لتملطها بالتربات الطينية المنقولة من المرتفعات ومن الضيعات الزراعية المائلة. كما أن التركيبة الكيميائية لهذه التربات المعروفة بشدة تملحها- وبالخصوص تلك التربات التي تشغل المناطق المحاذية للساحل- تحول دون استغلال أفضل للمجال الفلاحي، وتصبح بالتالي عائقا كبيرا لنمو بعض أصناف المزروعات ولاسيما اللوبيا الخضراء. فقد نتجت هذه الملوحة وتركزها في بعض مناطق السهل عن تنوع الركيزة الصخرية وكذلك السطح والغطاء النباتي والاستغلال المكثف للمجال، واستعمال المبيدات والأسمدة الكيماوية، مما أفضى إلى فقدان التربة لتوازنها البيئي، وذلك بارتفاع نسبة الملوحة في تكوينها الكيميائي وإفقارها من المواد العضوية. وحسب ما رواه عدد من الفلاحين اللذين يشتكون من الملوحة العالية في استغلالياتهم، أنهم يجدون صعوبة كبيرة جدا في استغلال ضيعاتهم الزراعية ذات التربات المالحة، فقبل قيامهم بالزراعة كان لابد أولا من إضافة الدبال أو تربات الحمري وخلطها مع التربات المالحة للتخفيف من تركز الأملاح في التربة. بينما آخرون يقومون باستعمال المياه لغسل التربة من الملوحة، وتصل كمية استهلاك هذه الأخيرة من المياه إلى أكثر من 15 مليون ملم بقطاع غيس، أما في قطاع النكور فكان يصل متوسط السنوي لاستغلال المياه الفلاحية، قبل حرمان السهل منها، إلى 7 ملايين ملم حيث الحد الأدنى منه مليوني ملم والحد الأقصى 13 مليون ملم حسب المعطيات المناخية خلال السنة. وتجدر الإشارة في الأخير، إلى الدور الكبير للاستعمار الإسباني في فساد العناصر الفيزيائية والكيميائية للتربات المتواجدة بالسهل، فهناك من اعتبر الغازات السامة التي أطلقها الإسبان في المنطقة أيام الغزو الإمبريالي لمناطق الريف، السبب الرئيس في عدم الإنبات وعدم نجاح الاستغلال الفلاحي بالسهل عموما. وبالتالي فمهما كان من أمر، فإن هشاشة وملوحة التربة في السهل، ساهمت بقوة في تراجع الاستغلال الفلاحي بالمجال المدروس. 4. ارتفاع تكاليف عوامل الإنتاج وضعف التسويق إلى جانب العوامل السابقة، تعتبر التكاليف الباهضة لعوامل الإنتاج وكذلك ضآلة تسويق الإنتاج الفلاحي إحدى العوامل الأساسية المساهمة في تراجع الاستغلال الفلاحي بالسهل. فقد ترتب عن ارتفاع أثمان البذور الفلاحية وكذلك أثمان الأسمدة الكيماوية والأدوية النباتية، وارتفاع أثمان المواد العلفية، وأثمان الاستعمال العصري للأرض، وضعف المراكز الأساسية لتسويق الإنتاج وكذلك ضعف التأطير التقني للفلاحين في شأن كيفية توجيه الإنتاج وكيفية تسويقه، أدى ذلك كله إلى عزوف الكثير من الفلاحين عن اقتناء هذه المواد الفلاحية ولاسيما منهم ذوي الدخل المحدود، لأن ذلك في نظرهم تثقل كاهل ميزانيتهم ولا يتمكنون من تعويضها بعائدات المنتوج الفلاحي، مما تمخض عن هذا ضعف المردود الفلاحي (خاصة المردود الزراعي) وتراجع عدد الاستغلاليات الزراعية وبالخصوص في الآونة الأخيرة، بفعل الارتفاع المهول لعوامل الإنتاج. فعلى سبيل المثال يصل ثمن القنطار الواحد من الأسمدة الكيماوية –حسب الفلاحين- إلى حوالي 600 درهم، ويصل ثمن المادة العلفية الأساسية للمواشي (النخالة) للقنطار الواحد زهاء 250 درهما، وثمن كراء مياه السقي إلى حوالي 30 درهما للساعة الواحدة، وثمن استعمال الجرار إلى حوالي 120 درهم للساعة الواحدة، وكذلك ثمن استعمال الحصادة إلى حوالي 300 درهم للساعة الواحدة، إضافة إلى الثمن المرتفع للأدوية النباتية الذي يختلف باختلاف أنواعها. فكل هذه المصاريف الضخمة تثقل كاهل الفلاح، ويضطر بالتالي إلى عدم استعمالها في مراحل الإنتاج، فيتراجع هذا الأخير ويضعف الاستغلال الفلاحي إلى مستويات كبيرة. مقابل ذلك، نجد حضور ضعيف لمراكز تسويق الإنتاج، فالمنطقة في مجملها تتوفر على بؤر قليلة لتسويق المنتوج الفلاحي، وتتجلى أساسا في "السوق الأسبوعي السبت" بامزورن والذي يحتل مساحة مهمة من الأراضي الفلاحية للسهل، "والسوق الأسبوعي الاثنين" ببني بوعياش الذي له وزن مهم في مجموع مناطق الإقليم فيما يخص تسويق الإنتاج الحيواني. إضافة إلى "السوق اليومي" بمركز مدينة امزورن، "والسوق الأسبوعي الثلاثاء وكذلك السوق اليومي" بمركز مدينة الحسيمة. فكل هذه المراكز تمثل القلب النابض لتسويق الإنتاج الفلاحي للسهل. لكنه في الغالب ما يكون هذا التسويق ضعيف المردودية، نتيجة لعامل المسافة وبعد الأسواق عن مناطق الإنتاج بحيث يكون من الضروري دفع مصاريف النقل، ونتيجة كذلك لتزامن أغلب المنتجات الفلاحية وخاصة المنتجات الزراعية مع مواسم تكون فيها أثمان هذه المنتجات الزراعية ضعيفة جدا (حالة إنتاج الطماطم في فصل الصيف)، أضف إلى ذلك ضعف التأطير التقني للفلاحين في كيفية الإنتاج وكيفية التسويق حيث نجد تقني واحد لكل 870 فلاح، فهذا الرقم ينم بوضوح عن غياب شبه تام للتأطير التقني للفلاحين. وبالتالي كل ذلك يعد إكراهًا بارزًا للاستغلال الفلاحي بالسهل. 5. توالي التجزيء المستمر للاستغلاليات الزراعية نظرا للتزايد الديمغرافي السريع لدى الفلاحين، واعتبارا لنظام الإرث السائد في المجال المدروس، فإن البنية العقارية تعرف تجزيئًا خطيرا للاستغلاليات الزراعية، وذلك على الرغم من وجود قانون الاستثمار الفلاحي الذي خضع له السهل مباشرة بعد الإصلاح الزراعي، والذي يمنع في أحد بنوده منعا كليا تقزيم وتقسيم الأراضي الفلاحية إلى أقل من 5 هكتارات. إلا أن ذلك لم يجدي نفعا حيث مازالت الأراضي الفلاحية تتعرض للتقسيم إلى الوقت الحاضر، والدليل على ذلك طغيان الاستغلاليات المجهرية على معظم أراضي السهل. فالاستمرار في تجزيء الاستغلاليات الزراعية يعد بحق عائقا كبيرا لتطوير الاستغلال الفلاحي بالمجال المدروس، حيث يؤدي إلى نتائج سلبية وفي مقدمتها ضعف الإنتاجية الزراعية وتقلص مساحة الاستغلاليات الزراعية، فضلا عن عدم إمكانية الاستغلال العصري للأراضي الفلاحية المجزئة. وعموما، يمكن القول إن التجزيء المستمر للاستغلاليات الزراعية عن طريق الإرث، يعتبر عائقا كبيرا أمام تطوير القطاع الفلاحي، لذا ينبغي تظافر كافة الجهود لتجاوز هذا الإكراه في المستقبل. 6. عزوف الفئات الشابة عن العمل الفلاحي تعتبر هجرة اليد العاملة الشابة في الحقيقة نتاج لكل العوامل المساهمة في تراجع الاستغلال الفلاحي بالسهل، غير أنها هي الأخرى تزيد في تأزم النشاط الفلاحي بالمجال المدروس، وذلك من خلال هجرة الفئات الشابة القطاع الفلاحي والاتجاه نحو البحث عن مصادر أخرى للعيش. فالقطاع الفلاحي بالسهل وما يعرفه من تراجع مستمر في المردودية، لم يعد كافيا لتلبية الحاجيات الأساسية لكافة الساكنة المحلية، مما دفع العديد من مستغلي الأراضي الفلاحية ولاسيما الفئات الشابة، إلى القيام بالهجرة نحو مواطن تواجد فرص الشغل كفيلة لسد حاجياتهم الأساسية. وهكذا عرف سكان السهل هجرة داخلية تمثلت في النزوح صوب المراكز الحضرية المجاورة (امزورن، بني بوعياش، الحسيمة، الناظور، تطوان، طنجة...) سعيا منهم في الحصول على حياة اقتصادية أفضل تذر عليهم جميع متطلبات العيش الكريم، كما عرف كذلك هجرة خارجية نحو البلدان الأوربية بالخصوص وذلك من أجل الرفع من المستوى المعيشي وتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لذاتهم ولعوائلهم. وقد ترتب عن هذا النزوح انتشارا واسعا للأراضي الفلاحية المستريحة (البوار)، مما أفضى إلى تراجع الاستغلال الفلاحي بالسهل، ذلك أن الفلاح لا يمكن استغلال جميع أراضيه الزراعية خلال السنة الفلاحية، مما يضطر بالتالي إلى استغلال جزء منها فقط ويترك الجزء الآخر مستريحا، وأحيانا يفسح المجال بشكل كلي للاستغلال غير المباشر. ويوضح (المبيان_22) توزيع سن الفلاحين المشتغلين بسهل النكور: المبيان_22: توزيع سن الفلاحين المشتغلين بسهل النكور المصدر: الاستمارة الميدانية، أبريل-ماي، 2011 من خلال المبيان السابق، يتبين بوضوح قلة اليد العاملة الشابة في القطاع الفلاحي بالمجال المدروس، حيث أن أغلب مستغلي الأراضي الفلاحية بالسهل هم من الفئات السكانية التي يتراوح عمرها ما بين 41 و60 سنة، بنسبة تصل إلى حوالي 54 %، بينما الفئات السكانية التي يتراوح سنها ما بين 21 و40 سنة لا تمثل سوى 32 % من مجموع مستغلي الأراضي الفلاحية، في حين تتراجع هذه النسبة إلى حوالي 11 % في صفوف الفئات السكانية الأكثر من 60 سنة، وإلى حوالي 3 % بالنسبة للفئات السكانية الأقل عن 20 سنة. على العموم، يبقى دور الفئات الشابة في الاستغلال الفلاحي ضعيف في مجمل الحالات، ذلك أن العمل في القطاع الفلاحي بالنسبة للشباب لا يحقق انتظارا تهم، لذا فضلوا العزوف عن الاستغلال الفلاحي واتجهوا إلى البحث عن مصادر أخرى لتلبية حاجياتهم الاجتماعية والاقتصادية، مما انعكس سلبا على القطاع الفلاحي، وصار يكبد قلاقل هجرة الفئات الشابة. 7. تراجع قيمة استعمال الأرض الفلاحية لصالح التعمير يشهد الاستغلال الفلاحي في السنوات الأخيرة منافسة قوية من طرف قطاع التعمير. فتراجع القطاع الفلاحي بالسهل يقابله نموا مضطردا للعمران بأنواعه وأشكاله المختلفة، وذلك نتيجة تحول قيمة استعمال الأرض لصالح التوسع العمراني، بحيث أصبح هناك عدد لا يستهان به من الفلاحين ولاسيما بقطاع النكور يتجهون إلى بيع أراضيهم الفلاحية، وبالخصوص تلك القريبة إلى المراكز الحضرية (امزورن وبني بوعياش)، لأغراض ترتبط معظمها بالبناء. وهذا ما يوضح المبيانين_23 و24 التاليين: المبيان_23: نسبة الفلاحين اللذين سبق لهم أن باعوا أراضيهم الفلاحية المصدر: الاستمارة الميدانية، أبريل-ماي، 2011 المبيان_24: الاستعمال الجديد للأراضي الفلاحية المباعة المصدر: الاستمارة الميدانية، أبريل-ماي، 2011 يتضح من خلال المبيانين السابقين، أن هناك عدد لا يستهان به من الفلاحين المستجوبين اللذين سبق لهم وأن قاموا ببيع أراضيهم الفلاحية، حيث تصل نسبتهم إلى حوالي 38 % من مجموع المستجوبين مقابل 62 % نفوا إقدامهم على هذه العملية، وأن أغلب الأراضي الفلاحية المباعة كانت لصالح البناء بنسبة تقدر ب 81.8 % بينما لا تستحوذ الأراضي المباعة لصالح الاستغلال الفلاحي سوى على 18.2 %، ويعني هذا بأن هنالك منافسة حقيقية بين القطاع الفلاحي وقطاع التعمير بالمجال المدروس، والضحية هو القطاع الفلاحي الذي يفقد مساحات مهمة من الأراضي الزراعية نتيجة للزحف العمراني وابتلاعه لأجزاء واسعة من الأراضي الفلاحية، وبالتالي انعكس هذا الأمر سلبا على الاستغلال الفلاحي وساهم في تراجع قيمته إلى مستويات كبيرة جدا. *- خلاصة يتبين لنا من خلال المعطيات السابقة أن هنالك عوامل عديدة ساهمت في تراجع الاستغلال الفلاحي، على رأسها جفاف المناخ وندرة الموارد المائية المخصصة للفلاحة ثم ضعف الاهتمام بالعمل الفلاحي نتيجة تدهور التجهيزات الهيدروفلاحية وارتفاع تكاليف عوامل الإنتاج وضعف التسويق، وكذلك هشاشة التربة وملوحتها العالية، فضلا عن التجزيء المستمر الاستغلاليات الزراعية عن طريق الإرث، وعزوف الشباب عن القيام بالأعمال الفلاحية نتيجة الهجرة نحو مواطن أخرى للبحث عن العمل في ميادين غير فلاحية في الغالب، أضف إلى ذلك تراجع قيمة استعمال الأرض لصالح قطاع التعمير الذي بات يهدد مناطق واسعة من السهل. ملحوظة: هذه الدراسة حديثة اعتمدت فيها بالدرجة الأولى على العمل الميداني تجلى في الاستمارات الميدانية، والاستجوابات مع الفلاحين، والمعاينة الميدانية للمجال المدروس، إضافة إلى المادة المكتبية، ونعتذر عن عدم إدراجها في هذه الصفحة، ولكنني سأكون رهن إشارتكم وسأوافيكم بها إن أردتم. وقد حبذت نشر هذه الدراسة في موقعكم هذا من أجل أن تعم الاستفادة الجميع ولاسيما الطلبة المقبلين على انجاز البحوث الجامعية حول المنطقة.