تروم السياسة الجنائية أساسا الحفاظ على الأمن والنظام العامين وضمان سلامة المواطن وتحصين حريته وماله وعرضه، مع ما تقتضيه مرامي توفير الأمان من تفعيل ناجع لأركان السياسة الأمنية، ومدها بالآليات القوية الكافية، مع مراعاة التبني المسبق لمنهجيات تقييم المخاطر المجتمعية وفق لوغاريتمات تنبئية (Logarithmes Prédictifs)، في محاولة نسج خيط ناظم يشكل اللحمة والسدى بين الأهداف التي تتغياها كلتا السياستين، ليجمعهما و يشد أزرهما و بالرغم من اختلاف مشاربهما فإنهما يلتقيان خصوصا أمام الظرفية الوبائية الراهنة دونما مساس بالحق وسبل إحقاقه. فكيف السبيل إلى ذلك؟ يتأسس النظام الاجتماعي على الطاعة الواجبة للقواعد القانونية التي تنظمه، مع ما يفرضه الانضباط لهذا الضابط من انصياع إرادي لمكونات المجتمع للقوانين ولفاعلي الحقل القانوني والقائمين على إدارة مشتملاته بشتى تلاوينها، قضائية كانت أم إدارية أم أمنية، والذي يتطلب بدوره تشريعا مندمجا ترسمه "سياسة" تتميز بالفسر والوضوح. في هذا السياق، يورد الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) أن "السياسة هي طريقة قيادة سلوكيات الأشخاص الذين يشكلون ساكنة دولة ما"، و بتحويل هذا التعريف إلى المجال التشريعي تكون "السياسة الجنائية" هي العلم الذي يستخدمه التشريع الجنائي كأداة لضبط وتنظيم سلوك وتصرفات الأفراد، فينصرف بذلك الفهم إلى تلاقح السياسية الجنائية مع باقي السياسات العمومية الأخرى، والتي تتصدرها "السياسة الأمنية" بما تحمله من إجابات تقدمها الأجهزة المكلفة بالأمن عن مختلف الانشغالات التي تحس بها وتعلن عنها جميع مكونات المجتمع المدني أو تتنبأ بها أو تتوجس منها بشكل استباقي. حديثنا عن الجانب الاستباقي يلازمه الحديث عن الجانب التفاعلي متعدد الأبعاد، الذي تنصهر فيه كل عناصر السياسة الجنائية والأمنية لتجاوز القاسم الدلالي "علم المباني" المشترك الذي يجمعهما في مصطلح السياسة، وبالتالي بلوغ القاسم المشترك الموحد "لعلم المعاني" الذي يوحدهما في ظل الأزمة الوبائية التي تعرفها بلادنا، وما تقتضيه من تضافر جهود المؤسسات القضائية والأمنية التي توحدها مستويات حمل الهاجس الوطني، والوعي الراسخ بدورها الاستراتيجي في بلورة الإرادة الملكية والمخططات الحكومية، وإدارة المرحلة بحزم وعزم، و تشبيك دون تشابك بين المقاربات التدبيرية للشأن القضائي والأمني صونا لرصيد المغرب في الحقل الحقوقي والمؤسساتي. إذا كان العدل ميزانا، فإن السياسات الجنائية والأمنية المُمنهجة تظل بوصلة الحق لكل من وقف ببابه واحتكم، خاصة في هذا الزمن الوبائي المضطرب عالميا والمتقلب دوليا ما بين أحلاف تتصارع مع الوباء وأقطاب تتنافس للقضاء عليه. بعيدا عن الجدل البيزنطي الحالي، بادر المغرب إلى الارتكاز على سواعد موظفيه وأجهزته باعتبارهم الأمناء على المصلحة العليا للبلاد، والقائمين على تدبير شؤون المواطنين، رعايا أمير المؤمنين في هذا البلد الأمين وحصنه المنيع، لعلمنا الصميم أن درب الإصلاح والتنمية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسلكه إلا المتشبعون بقيم حب الوطن والوطنية والمتخرجون من مدارس بمستويات تكوين عالية، والحال أن السواد الأعظم يخال واهما أن طرح هذا الموضوع يدخل في إطار تحصيل حاصل، ليس فقط لغياب الاختلاف من حيث المبادئ والمضامين والغايات، وإنما أيضا لوجود أرضية قد تتوحد بشأنها التصورات والرؤى لتجد لمقاربتهما صدى عند العامة على خلاف القضايا الأخرى التي تخلق القطيعة أكثر من التقاطع. وإذا كانت مهمة السياسة الجنائية حسب العالم الإيطالي (فيليبو كراماتيكا) هي "دراسة أفضل الوسائل العلمية للوقاية من الانحراف الاجتماعي وقمعه"، فإن ذلك لن يتأتى إلا بنهج سياسة أمنية تتوخى ترسيخ الولاء للقاعدة القانونية وتفرض انصياع كل مكونات المجتمع للقوانين، وبعدما قرر المغرب بناء على المرسوم رقم 2.20.293 فرض حالة الطوارئ الصحية وتقييد الحركة بسائر أرجاء التراب الوطني وعقل حركة المركبات ابتداء من يوم الجمعة 20 مارس 2020 إلى غاية 20 أبريل 2020 الساعة السادسة مساء، كوسيلة لا محيد عنها لإبقاء فيروس كورونا المستجد تحت السيطرة، لم تلق هذه المبادرة في إبانها القبول اللازم، ولم ترق في الأذهان التي بها ذهان إلى مستوى إرساء تعاقد سياسي جديد قائم على أسس صلبة وغير قابلة للارتداد للوراء، فظلت الانطباعات السقيمة تتنزى كيف تشاء لتتسرب خلفا كما تتسرب المياه الجوفية تحت أديم الغبراء، واستطاعت فقط بعض فئات المواطنين تبني الممارسة السليمة، فعبرت عن تفاعلها الآني وغير المشروط وتجاوبت فعلا مع التدابير الاحترازية المتخذة من طرف الدولة، مشكلة بذلك عنوانا لارتفاع معدل ثقة المواطن في المؤسسات التي عهد إليها إدارة الوضعية الوبائية وتدبير الأزمات التي نتمناها أن تكون عابرة بالمملكة الشريفة. ورغم الهوة الفاصلة بين الدولة والمجتمع وترسب طبقاتها عبر الزمن لتلقي بظلالها في ظل هذه الأزمة الوبائية التي تعيشها بلادنا اليوم، فإن جوهر الأزمة والمؤشرات التي تطالعنا بها درجات بارومتر الامتثال تفيد ارتفاعا غير مسبوق في مؤشر ثقة المواطن في المؤسسات القضائية رئاسة ونيابة لتمتد إلى المؤسسات الأمنية (السلطة المحلية، الشرطة، الدرك والجيش)، مما حذا بالحكومة إلى الانتقال للمرحلة الثانية المتمثلة في إرساء قواعد السلطة، من خلال مقاربة دور وزارة الداخلية بجميع أجهزتها في انسجام تام مع سلطة القضاء بجميع مكوناته خدمة لمسلسل الدعوى الجنائية. يذكر في هذا السياق أن السيد رئيس النيابة العامة، والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، الدكتور امحمد عبد النباوي، بادر بتاريخ 24 مارس 2020 إلى إصدار دورية بشأن الطوارئ الصحية، عمم مضامينها على السيدات والسادة المحامي العام الأول والمحامين العامين بمحكمة النقض، والوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف، ومحاكم الاستئناف التجارية ونوابهم، ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية والمحاكم التجارية ونوابهم،، يدعوهم من خلالها إلى التطبيق الصارم والحازم للمرسوم بقانون رقم 2.20.292 الصادر بتاريخ 23 مارس 2020 والمتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية والإعلان عنها، لا سيما الشق المتعلق بعدم التردد في إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية بشأن المخالفات الخاصة بتطبيق التدابير التي تتخذها السلطات العمومية في إطار حالة الطوارئ الصحية، سواء تم اتخاذها بموجب مراسيم أو مقررات أو مناشير أو بلاغات، وفي ذلك تأكيد أن روح النص القانوني وتوجيهات رئاسة النيابة العامة يرتبطان بالمحددات السوسيو-اقتصادية ويتم مزجهما بهدف تجانسهما مع سياق الظرفيات الاجتماعية والبيئية الحالية، على نحو يجعلنا أمام نص قانوني حديث قادر على تدبير الوضعية الاستثنائية التي تقتضيها المصلحة والصحة العامة، دون إغفال الانفراد بتحصين المراكز القانونية والحقوقية للأفراد. وتبعا لذلك، برزت منذ الوهلة الأولى لصدور كل هاته المراسيم والدوريات مهمة الشرطة القضائية ورجال السلطة المحلية بوصفهم ضباطا للشرطة القضائية وقائمين أيضا على مهام "الشرطة الإدارية " تحت إشراف النيابة العامة وبتوجيه منها، في إيقاف جميع خارقي حالة الطوارئ وإحالتهم على الجهة القضائية المختصة، لارتكابهم إحدى الجنح المنصوص عليها في المرسوم بقانون المذكور من قبيل "مخالفة كل قرار من قرارات السلطات العمومية أو أوامرها المتخذة في نطاق تدابير حالة الطوارئ الصحية"، أو "عرقلة تنفيذ قرارات السلطات العمومية المتخذة بمقتضى حالة الطوارئ الصحية، بواسطة العنف أو التهديد أو التدليس أو الإكراه"، وغيرها من الجنح.... وبذلك، تحققت علاقة عضوية ناظمها صدق النية والطوية بين مهام السلطة القضائية وصلاحيات السلطة الرئاسية للنيابة العامة والمهام الأمنية، وبدا التلازم أكثر وثوقية مع المؤسسات الأمنية بجميع أصنافها، التي لا يمكنها بأي حال من الأحوال توطين عملها وتصرفاتها خارج توجهات السياسة الجنائية. وقد أثمر هذا التنسيق وأسفر عن إيقاف أزيد من 1462 شخصا لإخلالهم بقانون الطوارئ الصحية، إذ تحرص العمليات الأمنية التي يقودها كل من رجال السلطة المحلية وأعوانهم وكذا عناصر الأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة، وكذا أجهزة الإدارة الترابية باختلاف رتبها ومستويات مراكزها، على التطبيق السليم والحازم لحالة الطوارئ الصحية، بما يضمن أمن وسلامة المواطنين، ويقف حائلا دون انتشار الجائحة وفق مسارات جانحة. وبما أن الإجراءات الاستباقية هي من أولويات السياسة الجنائية، وتماشيا مع الدورية الصادرة عن السيد رئيس النيابة العامة والقاضية بعدم تساهل المسؤولين القضائيين مع كل من ثبت مخالفته للمرسوم بقانون المذكور آنفا، نلمس جليا ما تلعبه أجهزة الإدارة الترابية وفق تراتبيتها ورديفتها الأمنية من دور هام في تفعيل معالم السياسة الجنائية، وما تحقق على أرض الواقع من تفاعل إيجابي في محاصرة كل من ثبت تورطه في تحريض الغير على مخالفة قرارات السلطة العمومية المتخذة بشأن حالة الطوارئ الصحية، خاصة التحريض الذي يتم عبر وسائط ووسائل الاعلام السمعية البصرية أو الإلكترونية، وما استتبع ذلك من بلورة سياسة أمنية مواكبة لتطويق الوباء المعلوماتي بنفس حرصها على تطويق رقعة انتشار الوباء الفيروسي واجتثاثه من جذوره، ليتم التأكيد في محصلة الأمر على وجود توازن بين السياسة الجنائية والسياسة الأمنية. ويبقى للسلطات الأمنية هامش تقدير وتدبير التدخلات على المستوى الميداني، الذي يظل أرضية تتمازج فيها اختيارات السياسة الجنائية ومتطلبات ضبط صيرورة النظام الاجتماعي، لتعكس على المستوى التطبيقي من خلال أدائها وخدماتها الرؤية والتصور النظري للسياسة الجنائية، هذا التصور الذي لا يمكن أن يكون متحصلا إلا من خلال عمل أمني يتلخص في "السياسة الأمنية". وفقا لهذا المنظور يصير تلازم السياسة الجنائية والأمنية أمرا لازما لتطابق الغايات رغم اختلاف الآليات، سواء تعلق الأمر بالشق الوقائي من آثار تفشي فيروس كورونا المستجد، أو بالشق الزجري لمعاقبة كل مخالف للقانون الذي يفرض عليه الاحترام التام لحالة الطوارئ الصحية. خلاصة القول إن السياسة الجنائية تتقاسم والسياسة الأمنية مظهرا مورفولوجيا واحدا ذا طبيعة تشاركية بتدابير مبكرة تنشد تطويق الداء. إن التعالق القائم بين السياسة الجناية والأمنية، يعزز الطرح الايديولوجي الذي يفرض حتمية التنسيق بين السياستين: فإذا كانت جدوى إثارة الدعوى العمومية في الجرائم المُسطرة بمرسوم قانون المشار إليه هي مَناط التساؤل في السياسة الجنائية، فإن مَثار السؤال في السياسة الأمنية ينصرف إلى كيفية وجدوى التدخل الأمني وكيفياته في مثل هذه الحالات الاستثنائية، وسلم الأولويات التي قد يقتضيها واجب الولاء للوطن، لتظل هذه المقاربة القانونية تنزيلا فعليا للسياسة المولوية الشمولية التي أقرها عاهلنا المفدى بمضامين اجتماعية وأهداف إنسانية. *باحثة بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق السويسي/ الرباط