قد يستغرب الكثير ممن سيقرأ هذا العنوان ويتساءل عن العلاقة بين النموذج التنموي الذي نسعى إليه في بلدنا ولوحة "ليوناردو دا فينشي" الشهيرة في بداية القرن 16 "موناليزا". غير أن طلبتي الذين درستهم الاقتصاد السياسي سيفهمون قصدي لأنني من عشرات السنين أشرح لهم كيف أن الاقتصاد السياسي الذي نشأ وترعرع في أوروبا كان تعبيرا عن ثمة تحولات وقعت هناك في الجانب الآخر من المتوسط. وأن لوحة موناليزا كانت تجسيدا وتعبيرا لهذا التحول العميق الذي سيقلب أوروبا رأسا على عقب. لوحة موناليزا عبرت لأول مرة في تاريخ أوروبا عن جمالية الإنسان، مع العلم بأن الكنيسة كانت ولقرون كثيرة تحرم تشكل الذات البشرية وتسمح فقط بتخاطيط كاريكاتورية معبرة عن الجسد. ليوناردو دا فينشي أراد من خلال لوحته أن يقول للعالم وللأمير وللكنيسة بأن الإنسان جميل وهو مركز الوجود ويجب أن يصير مركز التفكير كذلك. ألم تبدأ العلوم، كل العلوم، بالاستقلال عن الفلسفة منذ ذلك التاريخ؟ ألم تنقل العلوم، كل العلوم، مركز تفكيرها من السماء إلى الأرض؟ ألم يستقل الطب عن الفلسفة، وبدأ يبحث في سلامة الذات وسعادة الإنسان؟ والقانون كذلك ليتخصص في دراسة كيفية حكم الإنسان بعيدا عن اللاهوت لسعادته؟ والاقتصاد ليبحث كيف للإنسان أن ينتج ويوزع ويستهلك؟ ألم ينتقل مقياس الوقت من حركات الشمس في السماء إلى الساعة الموضوعة في جيب الإنسان؟ ألم تعمل الإصلاحات الدينية البروتستنتية والكالفينية على نقل تفكير البشر من السماء إلى الأرض ومن ثمة تقديس العمل؟ ألم تنمو أوروبا البروتستنتية بفضل العمل والتصنيع وبقيت أوروبا الكاثوليكية الفلاحية متخلفة إلى حدود بداية القرن العشرين؟ إن انتقال تفكير الإنسان الأوروبي من السماء إلى الأرض ومن اللاهوت إلى البشر كان سبيلا للتقدم والازدهار والنمو. إن تفكير البشر الأوروبي فيما يوحده عوض التفكير فيما يفرقه خلق لنا الدول-الأوطان Etat-Nation عوض فيوداليات الأمير المباركة من طرف الكنيسة. فتشكل في إسبانيا الوطن الاسباني الذي يتحدث "إنسانه" الإسبانية وفي فرنسا الوطن الفرنسي الذي يحكمه "فرنسوا" ويرمز لوحدته "بالفرنك" وكذلك ومثال في إيطاليا وبولندا وألمانيا وإنجلترا... صار لكل امتداد جغرافي مدلول وطني "أمة". وهدف كل مكونات "الأمة" سعادة ورفاهية مكونها البشري. الفرق بين الدولة والأمة أو الوطن فرق السماء عن الأرض. فإذا كانت الدولة تفرض بالسلاح والقوة فإن الوطن يتشكل ويستهل من القواعد. ألم تعمل الثورة الفرنسية على استبدال الحق المدني بالحق المواطناتي وعيا منها بأن المرء لن يستمر في العيش في بلد شرعي "حق الدولة" إذا لم يكن كذلك بلدا عادلا " حق الوطن"؟ فكان أن استبدل الحق بالاستحقاق حتى لا تحدد ظروف ميلاد الشخص حياته ومماته. هو ذات الشيء الذي ناضل ضده كارل ماركس تحت مسمى "إعادة الإنتاج الاجتماعي". النهضة والتقدم والازدهار والنمو بأروبا تحققت بتركيز مبدأ تساوي الفرص بين كل البشر المكون للامة. وتم استبدال حق الدم والقبيلة والنسب والحزب والدين بمبدأ الاستحقاق. تساوي الفرص يبدأ بتوفير الظروف المناسبة من تعليم وتكوين وتطبيب وحرية. ليس عبثا أن نجد بأن كل الإيديولوجيات التي ظهرت وترعرعت ووفرت الظروف للنمو كانت تلح على القيم التي لا تأتي إلا من خلال التعلم والعدل والحرية. من خلال هذه المقدمة الطويلة نفهم إذن لماذا فشل نموذجنا التنموي وفي الوقت نفسه نستخلص الدروس لوضع النموذج المنشود إذا نحن أردنا له النجاح. إن النموذج التنموي الذي طبق بالمغرب في السنوات العشرين الأخيرة (على الأقل) استثمر في الحجر ونسي البشر في كل تجلياته وتشكيلاته. فكان لهذا الاستثمار أن انعكس سلبا على البشر. صحيح أن المغرب صار من بين الدول الرائدة بإفريقيا من حيث البنيات التحتية "الحجرية" وصحيح أنه أصبح يحتل مكانة مهمة من حيث مناخ الاعمال وتجهيز الموانئ والمطارات وغيرها ولكنه في نفس الوقت تعطل إن لم يتأخر في المؤشرات البشرية والاجتماعية. ونحن نعرف بأن هذان المؤشران، على حد قول الاقتصادي بورتر PORTER "المؤشرات المبنية les indicateurs construits "، أصبحت اليوم تشكل دعامة الأمم في الوحدة والعيش الأمن والسلام وكذلك في التنافسية الاقتصادية بل وحتى في النجاعة الدبلوماسية. لم تعد السلطة والقوة تقاس اليوم بعدد الغواصات والأسلحة والجنود والعضلات المفتولة ولكن بقوة التحكم في المعلومة. المعلومة هي أصل اتخاذ القرار الصائب على كل المستويات من الفرد إلى الجماعة إلى الدولة. ألم ينهار الاتحاد السوفياتي سابقا أمام المعلومة الأمريكية التي جمعت المعلومات وشبكتها بعد ذلك في الأنترنيت؟ ألم تتهاو قوة العراق بالرغم من المليون ونصف جندي أمام ذكاء أسلحة الغرب؟ ألم تعمل أمريكا على منح شعوب العالم حق استضافة معلوماتها في مراكز تخزينها بالمجان لتكون السباقة لاستغلالها؟ ألم تبدأ أمريكا بالتراجع أمام الصين حين وصل هذا البلد إلى مستوى نضج ثورته الثقافية التي بنت الإنسان أولا وأصبح باستطاعته إيواء ومعالجة المعلومة أساس السلطة؟ ألم تعترف أوروبا بأنها خسرت الحرب بالتركيز على الاقتصاد والعملة (الأورو) ونست المعلومة أساس النمو والتقدم؟ ألم يستدع ماكرون في 2017 كل الأوروبيين لتطوير منظومة معرفية ومعلوماتية قادرة على منافسة الصينوأمريكا؟ ألم تعمل فرنسا على استقدام مهندسينا ومنحتهم كل الامتيازات للبقاء عندها؟ فلنتساءل لماذا رواندا وإثيوبيا بفعل تبصر قياداتهما للعنصر البشري صارا ينافسان المغرب أكثر من جنوب إفريقيا ومصر المعتمدتين على نفس النموذج الحجري؟ واضح إذن سبب فشل نموذجنا التنموي. لا زال المغرب يحتل مراتب غير مشرفة من حيث مؤشر التنمية البشرية 121 في دجنبر 2019 عوض 123 في دجنبر 2018 من أصل 189 بلد. في حين استطاع تحسين مناخ الاعمال وأصبح يحتل، حسب أخر تصنيف للبنك العالمي، المرتبة 53 هذه السنة ومن المحتمل أن يدخل عتبة 50 الأوائل عالميا في 2021. إن التنمية كما رأينا سابقا لا يمكم أن تتحقق إلا بالاستثمار مناصفة في البنيات الثلاث: البنيات التحتية Infrastructure الحجرية التي تستقبل البنيات الأخرى. البنيات الفوقية Superstructure التي تسير فوق الأولى بقيادة البشر. البنيات المعلوماتية Infostructure المشكلة من وعي وثقافة وقانون وكل شيء لا مادي من قانون وعدل وقيم وأخلاق. صحيح أن المغرب حاول إصلاح التعليم ولكنه لم يهتم إلا بالماديات ونسي الروح والبرامج والحكامة. ألم يهتم البرنامج الاستعجالي بالحجرات والحواسيب ونسي المعلم والأستاذ والبرامج والحكامة؟ فكان أن انحرف البرنامج، بما حمل، عن مساره لإغناء القائمين على أمر التعليم بالبلد. صحيح أننا استقدمنا نظاما جديدا لنطبقه بجامعاتنا ولكن هل فكرنا في استقدام نماذج حكامة الجامعة والتي تبدأ بتساوي الفرص والاستحقاق في الدخول والترقي والتخرج؟ قد تجد حجرات تشبه مدارس، ولكننا نعرف كذلك بأن المدارس والجامعات تحسب بما فيها من علم وأخلاق وقيم، وليس بشكلها ومظهرها وتساميها. لماذا سيصلح الحاسوب من دون برنامج التشغيل وبرامج التطوير والإنتاج وكذلك الشخص الذي يشتغل عليه؟ للديكور والتباهي ولا لشيء آخر طبعا. صحيح كذلك أن المغرب استثمر في الحقل الديني ببناء المساجد وطبع المصاحف حسب رواية ورش بن نافع الذي يأخذ به المالكيون، دعاة الوسطية والاعتدال. ولكن ألم تتدن الأخلاق وقيم المواطنين؟ أليس المغاربة هم من يأتي في مقدمة الإحصاءات الداعشية الواردة من سوريا؟ ألم يعد أشقاؤنا العرب سامحهم الله يقصدون بلدنا للمتعة والاستجمام والترييح عن الجسد؟ بنينا المساجد كبنيات تحتية ولم نول أي اهتمام للقائمين على الحقل وطبيعة المنتوج المروج والمستهلكين له لغياب التعليم (البنيات الفوقية والبنيات المعلوماتية). صحيح أيضا بأن المخططات القطاعية التي انتهج سياساتها بلدنا منذ بداية الألفية الثالثة (والتي تطرقنا إليها في الإسهام الثاني من هذه السلسلة) قد حققت شيء من مبتغاها، من حيث تحسين الإنتاج ومناخ العمل بالصناعة والفلاحة والسياحة والنقل، ... ولكن هنا أيضا لا بد من الانتباه إلى ضرورة ربط البنيات الثلاث السالفة الذكر مع بعضها، وإلا سنجد فنادق وطرقات وغياب منتوج سياحي. وسنجد منتجعات ومطاعم وملاهي صعب الوصول إليها بفعل غياب الاخلاق أو انعدام الامن. وسنجد معاملا وتجهيزات في وقت تغيب البنية الفوقية المتعلمة والمكونة والسليمة لتشتغل فيها بفعل غياب التعليم والتكوين والتأهيل والصحة والأمن. حرب سباق الحجر والماديات ببلادنا كان أن انعكس في شكل غياب القيم من الناحية المجتمعية وغياب الإنتاجية من الناحية الاقتصادية والفساد والمحسوبية من الناحية السياسية وكثرة الإجرام من الناحية الأمنية ... منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE كانت قد فرقت في 1996 بين الاستقطابية والتنافسية. إذا كان المغرب قد استطاع أن يحسن استقطابيته من خلال الاستثمار في البنيات التحتية مع بداية الالفية، فإنه لم يستطع أن يظل مستقطبا (التنافسية هي أن يعمل البلد على خلق أدوات استدامة استقطابيته في الزمان) ففقد تنافسيته مما يبرر تراجع نموه وتراجع قدرة اقتصاده على خلق مناصب العمل. جنوب شرق آسيا تعتبر بحق درسا لنا في صياغة النموذج التنموي المغربي. أستثمر في البشر أولا وقبل كل شيء واستطاع بفضله استقدام الحجر والحفاض على الشجر. فلنترك النموذج الصيني الذي سبقنا في صياغة نموذجه بعشرات السنين. ولنترك جانبا كوريا التي بنت انسانها بالرغم من ثمن الحرب الداخلية والحرب الباردة. ولنترك كذلك اندونيسيا وسنغافورة التي سلكت نفس النهج وحققت ما هب عليه في وقت وجيز. ولننظر لأثيوبيا ورواندا اللذان وبالرغم من مخلفات الجفاف والمجاعة بالنسبة للبلد الأول والحرب الاهلية الطاحنة بين "اليوتو" و"التوتسي" بالنسبة للبلد الثاني، استطاعا بإرادتهما السياسية وحكمة نخبهم، إعادة بناء الانسان والمجتمع بقوة العلم والمعرفة والصحة ومن ثمة الامة فأصبحا ينافسان كبريات البلدان ولأدل على ذلك طموحهما وطبيعة اختيارهما. على سبيل المثال فقط رواندا التي أصبحت تصنع ماركة "فولسفاكن" الألمانية أعلنت عن بناء مركب بحجم سليكون فالي الأمريكي (silicon valley) لتتموقع في عالم اقتصاد المعرفة (أساس السلطة) واثيوبيا التي أعلنت عن مشروع بناء أكبر مطار في العالم، بعد بنائها للإنسان، ونحن نعرف منذ ابن خلدون بأن الطرق لا تنقل الأشخاص فقط ولكن كذلك الأفكار والمعلومات والحضارات. اعتبارا مما سبق، نحن مقتنعون، ولنا اليقين بأن كل نموذج لا يجعل من الإنسان المغربي مركزه المحوري ولا يجعل من المرأة والرجل المغربيين الغاية والوسيلة، لن يستطيع أن يقوم بدوره المنشود، ولن يستطيع الاستمرار في الزمان ولا في المجال. تماما كما أننا مقتنعون، بأن كل نموذج لا يأخذ بعين الاعتبار تنوع الإنسان المغربي في مجاله وبيئته ومجتمعه وجهاته في ظل الأمة والوطن والدولة المغربية لن يكون سوى إضافة كمية للمخططات والوثائق الهائلة التي تملأ رفوف القائمين على حال البلاد والعباد.