نصت الوثيقة الدستورية للمملكة المغربية، باعتبارها وثيقة تحظى بالتسامي القانوني، على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ وقد جاء ذلك في صدارة هذه الوثيقة، في الباب الأول الخاص بالأحكام العامة، وتحديدا في الفقرة الأولى من الفصل الأول؛ حيث حدد نظام الحكم المتبع في المغرب، وما يقوم عليه هذا النظام الدستوري من أسس ومبادئ. ومن الواضح أن هذا المبدأ جاء في جملة صريحة مبينة لا تدع منفذا للتأويل على غير المراد؛ ذلك أنها تؤكد الربط السببي القائم بين أمرين اثنين هما: المسؤولية بما هي فعل إنساني ينطوي على القصدية، والمحاسبة بما هي آلية للضبط والردع والزجر؛ أي أن ثبوت المسؤولية مهما كان مستواها في التقصير أو الإخلال يستوجب بالضرورة الصرامة في إعمال مسطرة المحاسبة التي لا تترك أي مسلك للإعفاء من المساءلة أو الإفلات من العقاب. هذا ما ينطق به النص، غير أن واقع الحال يشي بخلاف ذلك؛ ومما يثبت هذه الحقيقة المخيبة الصادمة ما تضمنته تقارير المجلس الأعلى الحسابات من تقارير جاءت بناء على عمليات افتحاص وقفت عن كثب، وعن خبرة قضاة متمرسين على خروقات مؤكدة تستدعي التحريك الفوري لمسلسل المحاسبة في حق مقترفيها ممن يتحملون مسؤوليات في التدبير والتسيير. وعليه، يبدو أن المربوط فعلا هو المحاسبة ذاتها، وإذا كان هذا الربط بالإبطاء أو التراخي مقبولا لدى البعض على مضض، فإن الذي لا يستساغ على الإطلاق هو التفريط فيها، والتنازل عنها؛ وذاك ما ترجمه بوضوح الشعار الذي رفعه الرافعون "عفا الله عما سلف"؛ والذي توهمه المتوهمون صادرا عن قدرة، واعتبروه مكرمة تستحق الإشادة، وهو في العمق منبثق عن عجز أمام قوى مستقوية بالمال والجاه والنفوذ؛ إنه شعار حق في ظاهر اللفظ، باطل في باطن السياق؛ لأنه ليس تنازلا عن حق فرد له الخيرة في أمره، إن شاء طالب به، وإن شاء سكت عنه، علما بأن "الساكت عن الحق شيطان أخرس"؛ وإنما هو تنازل عن حقوق جماعية، هي حقوق دولة وحقوق مجتمع لا يصح بأي شكل من الأشكال التفريط فيها أو التنازل عنها. لا شك أن ربط المحاسبة، وعدم تحريكها لتتخذ مجراها القانوني فيه مساس بهيبة القانون، وتعطيل لقوته التي ينبغي أن تكون فوق الجميع؛ مما يؤدي لا محالة إلى الاستهانة والاستهتار، فيتمادى مجترحو الفساد، ويسترسلون في قبائحهم واثقين من أن يد العقاب المشلولة لن تطولهم، فتمتد يدهم أكثر فأكثر من البيضة إلى البقرة، فيطمع أولئك الطامعون الذين يتجرؤون على طلب المناصب، ويتهافتون على التماس الجلوس على كراسي المسؤوليات في مختلف المراكز، وبكل الوسائل، حتى وإن كانت مستقذرة، ما دام السابقون في غير الخيرات قد شقوا لهم المسالك، وفتحوا لهم الأبواب؛ وهذا كله من شأنه أن يولد لدى المواطن مشاعر الغبن والقهر وعدم الثقة... إن تحريك المحاسبة لتفعل فعلها، وتحقق غايتها المتعارف عليها، بالصرامة القانونية المطلوبة، وبلا تهاون أو تجاوز أو تمييز أو استثناء، عنوان بارز لجودة الحكامة، ومدخل أساسي لإرساء دعائم دولة يشيع فيها الحق، ويعلو القانون ولا يعلى عليه، ومنطلق قاعدي لبناء نموذج تنموي يجد فيه كل مواطن ضالته، فتتعزز لديه الثقة، وينخرط بروح المسؤولية في خدمة الصالح العام.