لا يختلف اثنان على أن أمام المغرب مجموعة من التحديات كدولة ناشئة، بعضها يتعلق بالنموذج التنموي، الذي نريده قائما على مفهوم الحق وليس الحاجة، وبعضها يرتبط بأزمة التدبير والأداء، أو بأزمة الثقة، أو بقلة الموارد وحكامة تدبيرها، وبعضها مرتبط بالتجاذبات السياسوية أحيانا وتردد الفاعل السياسي في مجموعة من القضايا الحقوقية أحيانا أخرى، في حين يبقى بعضها موضوعيا يتعلق ببحث بلد ناشئ عن موقع قدم ثابت عقودا قليلة بعد الاستقلال، تخللتها صراعات ومحاولتي انقلاب وتجاذبات كثيرة. رغم كل التحديات، "قطع المغرب أشواطا كبيرة جدا للنهوض بحقوق الإنسان وتعزيز حمايتها بشكل أفضل"، خطوات تعززت أكثر من خلال "مشاريع تنمية واستثمارات هائلة انخرطت فيها الدولة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" تترجم وجود "إرادة سياسية قوية على أعلى المستويات لمواصلة الجهود لإرساء أسس صلبة لضمان حقوق الإنسان للمجتمع المغربي". أوراش وإصلاحات كبرى من ثمارها "تطور ثقافة حقوق الإنسان بالمغرب وبروزها" بشكل أكبر، وتعزيز حمايتها وتكريس الوقاية من انتهاكها. من بين هذه الأوراش التي شهدتها المملكة في مجال حقوق الإنسان، بالإضافة إلى الإصلاح الدستوري مطلع هذه العشرية والمكتسبات التشريعية والمؤسساتية التي رأت النور تفعيلا للوثيقة الدستورية، هناك نبراس العدالة الانتقالية وتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، التي شهدنا الشهر المنصرم إحدى محطات تتبع تفعيل توصياتها، حيث قام المجلس الوطني لحقوق الإنسان، من خلال لجنة متابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، بتسليم مقررات تحكيمية جديدة لضحايا انتهاكات الماضي وذوي حقوق الضحايا، يقارب مبلغها 9 مليارات سنتيم، ليصل المبلغ الإجمالي "للتعويض" عن انتهاكات الماضي ملياري درهم تقريبا (1.950.528.728,80 درهم بالتحديد). هذه التجربة، في مجملها، تعد "من ضمن أبرز الممارسات الفضلى في مجال العدالة الانتقالية"؛ تجربة مكنت المغرب من المساهمة بشكل كبير في تطور مفهوم وتجارب العدالة الانتقالية، ليس فقط على المستوى الإقليمي، بل أيضا على المستوى القاري والأممي وعلى مستوى العالم، مع العلم أن المغرب يعد "أحد الدول التي لعبت دورًا مهمًا في مسلسل تبني مجلس حقوق الإنسان في 2011 لقرار إحداث ولاية المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار". "التجربة المغربية يتردد صداها في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، "حيث كان المغرب سباقا لإدخال هذا المفهوم للمنطقة" ليصبح "نموذجًا للعدالة الانتقالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا". تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن هذه التجربة كانت موضوع زيارات وورشات عديدة لاستلهام مقوماتها والاستفادة من خلاصاتها ودروسها (خاصة في تجارب تونس، البحرين، ليبيا، سوريا، لبنان، فلسطين، موريتانيا، ساحل العاج، جمهورية بوروندي والتوغو...). إنها تجربة رائدة على مستوى القارة الإفريقية "جديرة بأن تحذو حذوها دول أخرى"، نجحت في خلق دينامية فريدة من أبرز مقوماتها، التي تحظى بإشادة دولية، جلسات الاستماع التي عقدتها الهيئة، كشف حقيقة الانتهاكات وجبر الأضرار الفردية، بالإضافة إلى مقاربة النوع وفلسفة جبر الأضرار الجماعية. يعد جبر الأضرار الجماعية أحد أهم مقومات تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية، التي حظيت بإشادة دولية كبيرة لمساهمتها أيضا في تطوير مفهوم العدالة الانتقالية بحد ذاته ومفهوم جبر الأضرار على المستوى الدولي، "فهذا النهج كان أكثر مبادرات هيئة الإنصاف والمصالحة ابتكارا وأصالة". وعلى الرغم من وجود مفهوم التعويضات الجماعية في الفلسفة القانونية وفي بعض اجتهادات المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، "إلا أن أمثلة تطبيقها ظلت نادرة ومحدودة". لذلك حظيت هيئة الإنصاف والمصالحة بإشادة كبيرة لتبنيها لهذه المقاربة والمساهمة بالتالي في تطوير مفهوم جبر الأضرار بحد ذاته، "مقاربة نوعية وفريدة من نوعها في مجال جبر الأضرار الجماعية". في تقرير المقرر المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار الأخير الذي قدمه لمجلس حقوق الإنسان بجنيف شهر شتنبر الجاري حول التجارب العملية لبرامج الجبر المحلية، "رحب" فابيان سالفيولي صراحة بمقاربة المغرب في مجال جبر الأضرار الجماعية، واعتبر هذه التجربة من الأمثلة التي يمكن للدول اتباعها من أجل تلبية احتياجات الضحايا الأكثر هشاشة، على أن يكون ذلك بديلا عن جبر الأضرار الفردية، التي لم تغفلها بطبيعة الحال مقاربة هيئة الإنصاف والمصالحة، علاوة على "المشاورات مع الضحايا ومنظمات المجتمع المدني... من أجل صياغة نهجها المتعلق بالجبر"، مشاورات اتسمت "بأهمية خاصة"، من أمثلتها المنتدى الوطني لجبر الضرر الذي كان قد انعقد في 2005 بمشاركة أكثر من 200 منظمة. مراعاة بعد النوع في جبر الأضرار كانت أيضا من المقاربات المتميزة لهيئة الإنصاف والمصالحة التي حظيت بإشادة وتنويه كبيرين، حد وصفها ب "الرائدة" التي تفتح آفاقا جديدة (ground-breaking)، مقاربة سهرت بالخصوص على "حماية مصالح النساء"، من شأن اعتمادها كممارسة في التجارب الدولية أن يعود "بالخير العميم على النساء بصفة خاصة". هيئة الإنصاف والمصالحة كانت قد قررت في نهجها منح التعويض بالتساوي بين الأب والأم (10% لكل واحد منهما) وبين الأبناء، الذكور منهم والإناث (40% توزع بينهم بالتساوي) و40% للزوجة، آخذة بعين الاعتبار الضرر الإضافي الذي عانت منه النساء بسبب وضعهن في المجتمع، لتدفع الهيئة بالتالي بمقاربتها بتحسين أوضاع المرأة وتعزيز مقاربة النوع. هذه المقاربة قام عليها كذلك أحد محاور فلسلفة جبر الضرر الجماعي في التجربة المغربية، حيث ركز برنامجه على النهوض بالحقوق الإنسانية للنساء، إلى جانب حماية الذاكرة وتعزيز القدرات، وخلق المشاريع المدرة للدخل. أكيد أن تجربتنا من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة وهيئة التحكيم المستقلة قبلها ليست تجربة مثالية، إلا أن المغرب، وهنا بيت القصيد، ساهم من خلالها في تطوير مفهوم العدالة الانتقالية والدفع به إلى آفاق جديدة، مع العلم أن مساهمته هذه في هذا الباب لا تقتصر فقط على الأمثلة المذكورة في هذا المقال، فتقارير هيئات الأممالمتحدة وخبرائها المستقلين ومنظمات دولية أخرى عديدة لا تخلو من معطيات وممارسات دالة أخرى، ليس آخرها تحمل هيئة الإنصاف والمصالحة لعبء الإثبات وقبولها لشهادات الضحايا كدليل أو توفرها على وحدة طبية داخلية خاصة رافقت هيئة الإنصاف والمصالحة في عملها، وهو ما وصفه المجتمع الدولي "بالمثير للاهتمام" (تجربة انفردت بها هيئة الإنصاف والمصالحة بالمغرب وهيئة الحقيقة والمصالحة بالبيرو).