عرفت الروائي محمد الجباري ممثلا رائعا على خشبة المسرح، في التسعينيات في المرحلة الطلابية الرائعة، يقف شامخا منفردا في مونولوغ "شجرة الزيتون".. بصوت يجلجل أركان المسرح، ومشاهد مشوقة تحبس الأنفاس أحيانا، وتشعل جذوة الحماس أحيانا أخرى.. كانت أول تجاربه لملامسة دنيا الأدب وشعابه، لأنه رحل إليها من دنيا العلوم التجريبية والمختبرات، ليختبر أبا الفنون؛ لكن تمكنه من اللغة العربية وآدابها وفنونها التي تشبع بها منذ نعومة أظافره وسط عائلته المعروفة محليا ووطنيا بالعلم والنضال في صفوف الحركة الوطنية، ما سهل له هذا الانتقال السلس نحو الأدب بسهولة ويسر . غادر التراب الوطني في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، باحثا عن فسحة وأحلام جميلة في أرض الله الواسعة، فاستقر به المقام بالديار الهولندية؛ لكن حبه للوطن ولحضنه وترابه ظل معه يصاحبه بين حناياه، ويترجمه خفقان قلبه وقلمه النابض بالإبداع يحكي عن "أشواق مهاجرة"، أو يطلق له العنان للخيال الجارف ليتمتع بالسرد الأدبي فيسلك بك شعابا من الجغرافيا المتحركة، والتاريخ الذي لا ينسى.. كما فعل في تجربته الإبداعية الجديدة في رواية: "جنازة بدون ميت"، التي تبين بصورة واضحة مدى النضج السردي والتفنن في الخيال الروائي الذي بلغه إلى منتهاه، ليلحق بركب الكبار بلا منازع. نستشف ذلك من خلال عدة عناصر في الرواية الحديثة كالتالي: أولا: اللغة السردية والحبكة الروائية بأسلوبه السلس الشيق، وانسيابيته في سرد الأحداث، يسافر بك إلى مدينة أتريخت بهولندا، حيث تجري الأحداث الرئيسية للرواية، ويتجول بك أيضا عبر أرجاء هولندا بين روتردام وأمستردام، وفي دهاليز التاريخ ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتفاعل بطل الرواية وتأثره بهما، سواء بما عايشه هو شخصيا أو حكايات الآباء والأجداد والجيران والسكان، وسرد بطولاتهم في الحرب العالمية الأولى.. ما يجعلها في أكبر جزء منها رواية أوربية بامتياز، ولكن مكتوبة بلغة عربية إن صح التعبير فعندما تنسجم وتغوص في حبكة الرواية تنسى أنك تقرأ رواية عربية، تنسى اللغة التي كتبت بها، فيخيل إليك أنك تقرأ لكبار الروائيين الهولنديين، ك"هاري موليسش" (2010– 1927) في رائعته العالمية "الاعتداء". لأن الأماكن هولندية سواء في وصف مشاهد الطبيعة أو الأجواء والحانات والشوارع والكنيسة وصالة الفردوس. أما الأحداث فتدور أيضا تقريبا بهولندا في عالم التجارة وأبعاده الخالية من العاطفة، المليئة بالابتزاز والمكر والدهاء وحتى الخيانة، إلى صالات القمارات وبيوت بائعات الهوى، لينقل إليك بأمانة البيئة كما، هي حيث يمارس فيها ميشيل دهاءه ومكره وأسراره الغامضة والمعقدة. كما أن الشخوص كلها تقريبا بأسماء وألقاب أوربية: ميشيل، توماس، صوفيا، سارة، كريستين، وليام، مونيكا، ليو، فابر...إلا في الربع الأخير في الرواية، حيث يسافر بك إلى بلاد المغرب ومدنها: مراكش والقصر الكبير والعرائش..وادي اللوكوس، ليذكرك بأنك تقرأ رواية عربية وليست هولندية، وكأنه يريد أن يمهد لك الطريق للرّسُوِ إلى بر الأمان دون أن تحصل لك صدمة. صدمة الانتقال من عالم أوربي محض إلى الواقع المغربي أو بالأحرى البعد العربي. ثانيا: الشخوص والعمق النفسي والوجداني عندما تتبعت مسار شخوص الرواية أصابتني الدهشة من دقة التوصيف والتشخيص، وكأن الكاتب يذكرنا بخلفيته المسرحية. لقد كان شبه محلل نفسي يغوص في وجدان وأحاسيس البطل حتى يخيل إليك أنه يتحاور مع شيطان البطل الذي يوحي إليه بتصرفات قذرة، كاستغلال نزوات توماس وخساراته المتتالية في القمار بصالة الفردوس لِيُفوِّت له أسهم شركته كلها وليصبح في ما بعد سائقا عنده يهينه ويعامله معاملة السيد للخادم، الذي آواه وأحسن إليه عندما كان مشردا لاجئا خائفا جائعا.. أو مكره ودهائه التجاري في مراوغة ومناورة مونيكا الطماعة صاحبة صالة الفردوس، التي كانت تريد ابتزازه بصوفيا لتستولي على شركته التي تعلم أسرار استيلائه عليها، فسلم من مخالبها بذكاء بعدما كاد يسقط في اللحظات الأخيرة، كسياسة عضِّ الأصابع بينه وبين مونيكا. ولكن مونيكا هي من صرخت وليس هو، لأن صوفيا انهارت تماما بعد محاولة الانتحار. شخصية الرواية الرئيسية مركبة ومعقدة وغامضة، فبطل الرواية ميشيل يظهر بعدة وجوه؛ أحيانا بمظهر العسكري الصارم القوي والتاجر الماكر المخادع أو العاشق الولهان؛ ولكن تتصارع في نفسه شخصيتان، واحدة تتقن تمثيل الدور وتتمظهر به، والثانية تقع فيه حقيقة، ويستولي عليه العشق ويأخذ بتلابيبه ويشغل فكره صباح مساء، وقد كرر الدور نفسه مع صوفيا وسارة في الوقت نفسه. ثالثا: شبح الموت واللعب معه ويزداد الأمر تشويقا وتعقيدا عندما يريد أن يجرب لعبة الموت، وهو الذي أرعبه عدة مرات في الحرب العالمية الثانية، عندما هجم النازيون على روتردام، حيث قتل جميع رفاقه، ولكنه نجا من موت محقق عندما غطس في البحر كحجر جامد.. ومرة أخرى عندما صوب الألمان بنادقهم إلى مخبئه بكوخ الصيادين، وقد تم تأبينه حينها وأقيم له قبر وشاهد كتب عليه اسمه الكامل وتاريخ ميلاده واستشهاده، وهو الذي أصاب بالصرع زوجة أبيه عندما رأته، ليعود ليلعب مع الموت بالاختفاء في مزرعته وإشاعة خبر موته بين الناس ليرى اهتمام الناس به ويتمتع بثنائهم عليه في مراسيم الدفن والتأبين.. لكن حصل العكس، إذ اكتشف خيانة زوجته بعلاقتها المشبوهة مع الرجل الذي كان موضع ثقته وحامل أسراره، محامي الشركة؛ ليعود يلعب نفس اللعبة مرة أخرى مع سارة ومع الجميع في تصنع الموت غرقا بنهر اللوكوس العظيم، ليصنع مرة أخرى ميتة مجيدة بما يمثله هذا النهر من تاريخ مجيد يعود إلى حضارات موغلة في القدم، ومنها المدينة العجيبة الجميلة ليكسوس على ضفافه، ليظهر طيفه مرة أخرى أعلى شرفة الكنيسة في جنازة تأبيه الأخير. بهذه الرواية الجميلة يدخل الجباري بِتُؤَدة وبثقة تامة عالم الروائيين الكبار، خاصة ما يتميز به من مخيال خصب، يدهش القارئ بصناعة أحداث تترنح بين الواقع والخيال، وتتشابك مع الأماكن المتناقضة والشخوص المركبة المعقدة؛ هو وحده من يعرف أسرارها الدفينة ليمنح للقارئ الفرصة للاطلاع عليها، لكن عندما يريد حسب ظروف وأحداث الرواية وضروراتها. *شاعر وكاتب مقيم ببروكسيل