الثالثة ثابتة. هكذا يقولون. وزيارتي إلى عمّان هذا الصيف هي الثالثة. لكنها تبدو كما لو كانت الأولى. زيارتي الأولى إلى عمّان كانت قصيرة. جئتُ إليها رفقة لطيفة أحرار لتقديم "كفرناعوم"، المونودراما التي كانت لطيفة قد أعدّتها من ديواني "رصيف القيامة". هكذا قرأتُ شعرًا أوّل مرة في عمّان على خشبة المسرح الدائري بالمركز الثقافي الملكي في المشهد الأخير من المسرحية أمام جمهور مسرحي لم يكن بينه أيٌّ من أصدقائي الشعراء. بلى، كانت هناك كوليت أبو حسين. لكنّها رحلت وهي في أوج العنفوان. كانت زيارتي قصيرة، وما بين العرض المسرحي وندوته الصحافية لم أجد سوى فسحة صغيرة للنزول إلى وسط البلد... هكذا، على عجل. ثم عدتُ إلى عمّان وأنا في الطريق إلى رام الله. لم تكن المدينة أكثر من محطّة عبور. قضيت بها ليلتين اثنتين، في رحلتَيْ الذهاب والإياب دون أن أذهب أبعد من مقاهي الجوار. كنت في البداية متهيّبا من عبور جسر الملك حسين، ليس فقط لما اشتهر به من فظاظة الاسرائيليين في تعاملهم مع عابري الجسر من الفلسطينيين وزوّارهم من العرب، ولكن أيضا لما تحمله ذاكرة هذا المعبر الحدودي من آهات المُهَجَّرين الفلسطينيين منذ النكبة فالنكسة التي تلتها. أمّا وأنا عائدٌ من فلسطين، فكنتُ مذهولا بما طُفْتُه من حواضرها: أريحا، رام الله، بيت لحم، نابلس، جنين، وكذا المدن التي تسللتُ إليها مُجازفةً بتيسير من أصدقاء لي هناك في فلسطين التاريخية: القدس، عكّا والناصرة. هكذا في طريق العودة، مررتُ بعمّان كالمُسرنم أرى المدينة ولا أراها. لذلك بالضبط أحس اليوم كما لو أنها زيارتي الأولى. كان الوقت فجرًا. الطريق من مطار الملكة علياء حتى فندق الميلينيوم بمنطقة الشميساني ينساب بسلاسة الوادي الرقراق في ربيع الأيام. تباشير الصباح الأولى جعلت المدينة تكشف عن مفاتنها بالتدريج. حركة السير سلسة والطريق منسابة حسنة التعبيد. جسور وأنفاق، ومباني حجرية بيضاء. الضوء يتزايد والمدينة تصحو بالتدريج. الطرق نظيفة والمباني تبدو كأنها مغسولةٌ للتو... مغسولةٌ ولا مطر. قلت: كأنّي أزور هذه المدينة لأول مرة. صباح النور يا عمّان. في صباحات مراكش القديمة، كنا دائما نصحو على "والله وصبّوا ها القهوة وزيدوها هيل. صبّوها للنشامى ع ظهور الخيل". كانت سميرة توفيق في المقرّر الرسمي لبرامج الصباح على أثير الإذاعة الوطنية. وكان فطورُنا شايًا على عادة أهل المغرب. لكنني أحببتُ القهوة بسبب سميرة توفيق. وحينما كبرتُ وتعلّمتُ "القهوة" ثم أدمنتها، كنت دائما أستعيد في خاطري أغنية سميرة توفيق. حسنًا، سيكون مشروبي الأول في الفندق قهوةً عربيةً يقدّمها للزوار بالمدخل على سبيل الضيافة كهل بجلباب محلي وكوفية حمراء. كانت القهوة طيّبة، فاستزَدْتُ منها. ثم صرتُ أتردّدُ على الرجل مرارا وأنا في طريق الخروج، فيهيّئ لي فنجاني. صرتُ صديق قهوته، وكان سعيدا بصداقتي. لكنني اليوم في عمّان من أجل جرش. لذلك، لم أتردّد في مخاتلة أصدقائي الشعراء الذين كانوا يتأهبون في بهو الفندق مساءً للتوجه إلى مركز الحسين الثقافي من أجل افتتاح مهرجان جرش للشعر العربي وانتظرت مع الفنانين حافلة جرش... جرش المدينة الأثرية التي تشتعل فنًّا كلّ مساء. جاهدة وهبة ومكادي نحاس ستغنيّان الليلة على خشبة المسرح الشمالي. وأنا أحبُّ أن أحضر حفلتيهما. وكذلك كان. صدحت جاهدة بصوتها الجبّار، ثم تلتها مكادي بغُنّتها المحبّبة. فتحت مكادي حوارًا من الجمهور وصارت تحفّزه ليقترح ما يودُّ سماعه. كدتُ أصرخ من مكاني "يا ظلام السجن خيّم"، أغنيةٌ أحببتُها زمن النضال الجامعي وتعلّقتُ بها أكثر بعدما سمعتها بصوت مكادي. بل كانت هذه الأغنية في الأساس أصل صداقتي مع مكادي وصوتها. أثارني ونحن نقطع شارع الأعمدة، الشارع الرئيسي بالمدينة الأثرية، أنه حسن الإضاءة. كان الليل في منتصفه تقريبا، والشارع مكتظٌّ بالزوار. أبناء جرش وزوارها تحت أضواء الشارع يمرحون. هنا أعمال فنية معلقة، وهناك فرقة فنون شعبية تقدّم عرضا مرتجلا. والباعة على جنبات الشارع يقترحون معروضاتهم على العابرين. أحببتُ الجو. شعوبنا أيضًا تستحق الحياة، وتستأهل بعضًا من حلاوة العيش. سألتني الشاعرة غدير حدادين وكانت قد حضرت معي حفلة جاهدة ومكادي: هل وخزك الجوع؟ قلت لها: جوع خفيف. فاقترحت عليّ أن نأكل شيئا هنا. هنا في الشارع؟ أكّدت لي: اطمئن، فالأكل طيّبٌ ونظيف. وكذلك كان. وقفنا أمام سيدة ترتدي عباءة سوداء، ناداها مساعدها "أم محمد"، فأخذت غدير تختار الفطائر. كيس كامل من المعجنات وفطائر السبانخ والجبن والنقانق. قلت لأجرّب فطيرة، فاثنتين، وإذا بي أجهز على نصف محتويات الكيس. كانت الفطائرُ لذيذةً، فأكلتُ بشهية. كان عشاء حقيقيا. ثم واصلنا مسيرنا باتجاه المسرح الجنوبي. لستُ من عشاق نانسي عجرم. لكن نورال ابنة غدير عاشقةُ تصوير، وهي مغرمة بتصوير نجومها المفضّلين. وكان علينا أن نرافقها إلى المسرح الجنوبي لتلتقط صورًا لنانسي على الخشبة، هكذا ألقينا بأنفسنا في اللجة وسط جمهور نانسي الغفير. غرفتي في الطابق الخامس عشر، وأنا أطلُّ على المدينة مِنْ عَلٍ. كأنها الدار البيضاء كما تبدو من الطوابق العلوية لبعض فنادق شارع أنفا، لولا بعض الأبراج العالية، ولولا أن لا بحر هنا في عمان. بلى، هناك بحر ميتٌ في الجوار. لكن زيارة البحر الميت تحتاج وقتا وتدبيرا، ونحن هنا من أجل برنامج مُحْتَدِم بالفعاليات. ثم لا تنس الشعر. كانت أمسيات الشعر في مهرجان جرش متنوعة. شعراء من مختلف البلاد العربية. قاسم حداد من البحرين، محمد علي شمس الدين من لبنان، منصف الوهايبي من تونس، حبيب الصايغ من الإمارات، سميرة فرجي من المغرب، ساجدة الموسوي من العراق، بهيجة ادلبي من سوريا، علاء عبد الهادي من مصر، عامر بدران من فلسطين، إضافة إلى كوكبة جميلة من شعراء الأردن كان من بينهم يوسف عبد العزيز، عصام السعدي، غازي الذيبة، وعمر أبو الهيجا الذي فاز ديوانه "وأقبل التراب" بجائزة جرش هذه الدورة. قرأتُ في أمسيتين: الأولى برابطة الكتاب الأردنيين والثانية بمؤسسة عبد الحميد شومان، وفيهما معًا كان الحضور طيبًا، وكان زهير أبو شايب هناك. لزهير ابتسامةُ محبّةٍ تشرق حييّة في وجه الصديق. تكفي ابتسامته تلك ليتسرّب إلى روحك الدفء. والحقيقة أن كل الأردن دافئة. شمسها دافئة غير لاهبة، وطقسها جميل معتدل. حتى ونحن في أواخر يوليوز. نتجوّل في المدينة في عزّ الظهر، فلا تطردنا الشمس من شوارع المدينة ويصاحبنا حيثما حللنا النسيم. أما ليلا فللتجوال في شوارع عمّان متعة خاصة. سواء في جبل اللويبدة حيث مقر رابطة الأدباء ومقاهي المثقفين. توقفت باللويبدة مرتين، مرة بمقهى "ركوة عرب"، وأخرى بمقهى "سقراط" حيث عزمنا على قهوة هناك صاحب المقهى الشاعر الفلسطيني عمار بدران. كانت شريكة حياته ومقهاه الشاعرة جمانة مصطفى في البيت فشربنا قهوتنا من دونها وتركنا لها التحايا مبثوثة بين الطاولات قبل أن نغادر. لكنّ التجوال في وسط البلد له محطّات لا سبيل إلى تفاديها. لذلك، استوقفتني مكادي نحاس وزوجها سعود فيما كنا نتسكع في وسط البلد ليلا أمام محل "حبيبة". اعتبرت مكادي التوقّف أمام هذا المحل بالذات إلزاميًا، ف"كنافة حبيبة" هي "أطيب كنافة في الدنيا". فهل تريدها ناعمة أم خشنة؟ كان الطابور طويلا وظللت أغير رأيي ونحن نتقدّم في الطابور: خشنة، بل ناعمة، ثم طلبت كنافة خشنة في الأخير. كانت طيّبة فعلا، لكن ليس بطيبة كنافة فلسطين. لا أنسى أبدًا كنافة نابلس التي تناولناها في أحد أعرق محلات الكنافة هناك، لعل اسمه "الأقصى". وجدتُني بعدها بيومين في الناصرة أمام محل شعبي آخر للكنافة قال الأصدقاء إنه يقدّم أطيب كنافة في كلّ فلسطين. كانت طيبة فعلا، لكن ليس بطيبة كنافة نابلس. أصر الأصدقاء على معرفة رأيي فبادرتهم: يؤسفني أن أخبركم أن "النكسة" أطيب من "النكبة" حينما يتعلق الأمر بالكنافة، فانفجروا ضاحكين. الكثيرون أكدوا لي أن نابلس فعلا هي "أم الكنافة"، وهي كذلك حقًا. فليعذرنا السيد "حبيبة" ولتعذريني يا مكادي. لكن ماذا عن "المَنْسَف" الوطني؟ هل يمكنك أن تزور عمّان دون أن تتناول طبقها الأثير الذي يعتبره أبناء البلد درة تاج المطبخ الأردني؟ سألت في مطعم الفندق فوعدوني خيرًا. قالوا لي ترقب منسفا في اليومين القادمين. لكن كان لعصام السعدي رأيٌ آخر. قال لي سنأكل منسفًا في مطعم القدس، أشهر المطاعم الشعبية في وسط البلد. فهرعنا جوعى إلى "القدس". لكن فشلنا تماما في إيجاد مكان لركن السيارة في وسط البلد، وكان وقتنا ضيّقا والشعر بانتظارنا والأصدقاء. فأخذني عصام إلى مطعمٍ بديل. وكان منسَفُهُ شهيًّا. أرز ولحم ضأن ولبن كأنه مطبوخٌ بنكهة عجيبة يسمونه "الجميد". يُفرش الخبز أولا، خبز أبيض رقيق يشبه خبز الثريد المغربي، يوضع عليه الأرز فاللحم ويُرشُّ باللوز والصنوبر ثم يُسقى بلبن الجميد. أخبرني عصام أن أهل البلد يتناولون المنسف بأيديهم مباشرة ليخلطوا جيدا الخبز مع الأرز واللحم واللبن، قلت: أنا لها. فالكسكس المغربي مذ كان وهو يُأكل هكذا. تناولتُ المنسف مثلما كنّا نتناول الكسكس قبل أن تقتحم موائدَنا الملاعقُ والشوكات المعدنية. فحظيت من عصام بشهادة اعتراف. هكذا يُؤكل المنسف بالضبط، أكد لي. كان مَنْسَفُنا مستحقًّا. فقد كانت جولتنا طويلة ولم نلحق المطعم إلا عصرًا بعد رحلة غطّينا فيها المدينة من أقصاها إلى أقصاها. من الشميساني إلى اللويبدة، ومن جبل اللويبدة انطلقت جولتنا عبر جبال عمّان: جبل عمّان، جبل القصور، جبل التاج وتواصلت رحلتنا. طلبت من عصام أن نزور المخيمات الفلسطينية، فكان مخيّم "الوحدات" الأقرب. كنتُ أتخيّله شبيها بمخيم "عين الحلوة" بلبنان الذي كان أوّل مخيم فلسطيني أزوره، أو مخيم "جنين" مثلا، لكن كان من الواضح أن مجهودًا جبّارًا بُذِل لإعادة هيكلة مخيّم الوحدات وإدماجه في النسيج العمراني لعمّان. بعد يوم فقط من جولتي في مخيّم الوحدات كنتُ في تاكسي والسائق يسمع الإذاعة بتركيز وترقب، فإذا وزير التربية يعلن نتائج امتحانات البكالوريا "التوجيهي". وكان الأولَ على الأردن أحدُ أبناء مخيّم الوحدات بعلامة كاملة 100 بالمائة. ثم انتقلنا إلى الجهة الأخرى من المدينة، وبالضبط إلى حي عبدون. تجولنا بين الطرف الراقي جدا من الحي حيث القصور المنيفة، ثم انتقلنا إلى الجهة الثانية على يسار مبنى السفارة الأمريكية حيث اخترقنا صفًّا من العمارات الجميلة قبل أن يوقف عصام سيارته فجأة. "انظر، هذه شقة محمود درويش"، أشار لي. كان الحي أنيقا والشرفات جميلة والشقة جديرة بشاعر. عمّان مدينة تستحق الشعراء، وليس عبثًا أن اختارها درويش سكنًا له. لكن درويش لم يكتب شيئا لعمّان. تغنّى ببيروت أكثر. فلماذا لم ينصف الشعراء عمّان؟ تذكرت كتاب منيف عن المدينة. عن سيرة المدينة في الأربعينيات. لكن عصام أكّد لي أن عمّان الجديدة لا يعرفها منيف. فالمدينة توسعت بشكل عجيب وزحفت على الجبال. من جبل إلى جبل، حتى "بوابة الله". هذا الجبل تحديدًا كان مرقىً سريًّا. مرتفع صغير أشبه ما يكون بتلةٍ. جبل فريد بدارةٍ واحدة في قمته، وبلا جيران. مزرعة بها حظيرة شياه، حقل قمح شاسع، دالية، نافورة، ملاذ صغير بسقف عال كأنه صومعة، وخلوة كاتب. وكان هذا الكاتب صديقا قديما لي. قلت من أجل صداقتنا القديمة أصعد رضيًا حتى "بوابة الله". مررنا على مخيم البقعة الفلسطيني، الأكثر بؤسا في الأردن، دون أن نلجه، ثم صعدنا الجبل. هنا يعتكف القاص والمؤلف المسرحي مفلح العدوان للكتابة، وهنا يستقبل الخُلَّص من أصدقائه. كان لقاءً بالأحضان. فمفلح أول كاتب أردني أتعرّف إليه. التقينا في الجزائر، في ضيافة الطاهر وطّار أول مرة. هناك في جاحظية وطار سنة 1991. لكننا كثيرا ما كنا نترك وطّار لشؤونه ونخرج للتسكع في "ديدوش مراد" والشوارع المجاورة مع بوزيد حرز الله وعادل صياد وعمار مرياش ونجيب أنزار وفاروق سميرة المغرم أيامها بشعر عبد الله بوخالفة الذي كان قد صدم أدباء الجزائر بانتحاره، قبل أن يصعقنا فاروق هو الآخر بعملية انتحار مماثلة. وأخيرًا يا مفلح، ها نحن نجدّد اللقاء بعد كل هذه السنوات. من 91 إلى السنة 19 من ألفية جديدة. قلبنا الرقمين فقط، وإذا بنا كمن يعبر من زمن إلى آخر. لا نملك غير أوهامنا الصغيرة وبضعة كتب طبعناها هنا أو هناك. أهداني مفلح كُتُبه وأعدَّ لنا شواءً في المزرعة. حضر المجلس ثلة من الأصدقاء الأدباء من بينهم جريس السماوي وهزاع البراري ورمضان الرواشدة، وكانت معنا مكادي التي عوّضتني عن حفلة جرش، فغنّت "يا ظلام السجن خيّم". لكن الظلام في المزرعة لم يخيّم. لم يكن ثقيلا ليخيّم على الأرواح. كان ظلامًا كيّسًا لا يتبرّم من ضوء المصابيح المتناثرة في المزرعة. كان خفيفا شفافا تحركه ريح وديعة تتلاعب بطبقاته المرهفة، تماما كما تتلاعب بماء النافورة الذي كان يتراقص مثل جدائل شَعر فضي طويل. ثم جاء قاسم حداد، ليس ليدل الوعول على قبره كما أقول عنه في "رصيف القيامة"، وإنما ليُفرد أمامي مساحات إضافية من البهجة هنا في عمّان. منذ البداية بادرني: "هل أكلت عند هاشم؟". "لا، ليس بعد"، أجبتُه. كان المفروض أن نتناول وجبة الإفطار مع مرسيل خليفة. لكننا اعتذرنا. جامل قاسم مرسيل وتناول معه بضع لقيمات، أمّا أنا فكنتُ حاسما. سأحتفظ بجوعي كاملا من أجل هاشم: فول، حمص، طعمية، مخلل، وشاي. كان ألذ فطور أتناوله منذ أشهر. شكرا قاسم. لكنَّ الفطور لم يكن سوى انطلاقة جولة، فقاسم حداد مغرم بالطواف على مكتبات المدن التي يزورها، ولقد رافَقْتُه في جولاته هذه في أكثر من مدينة وأكثر من بلد. ودائمًا يسأل عن كُتب لها علاقة بالديانات القديمة والسماوية، حتى بدأت أشك في أنه ربما عقد العزم على أن يأتي ب"كتاب" جديد. لكنَّ قاسم دينُه المحبة، لذا لن نخشى على أنفسنا من الكتاب الذي في بالِه. مررنا على ماهر الكيالي في المقر الجديد لمؤسسته. باركنا له مرور خمسين عامًا على تأسيس المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الذكرى التي سيحتفل بها في معرض بيروت القادم. زرنا "الأهلية" واستقبلَنا أحمد أبو طوق بحفاوته المعهودة. جمعَنا حديثٌ عن المكتبات ومستقبلها. أبو طوق متشائمٌ جدًّا ويخشى أن تصير مدننا العربية خلال سنوات معدودة بلا مكتبات. حكى كيف توجّه قبل أيام نحو مكتبة قريبة من منطقة الشميساني حيث فندقنا، اعتاد أن يعرض فيها كتب "الأهلية"، فإذا به يفاجَأ بالمكتبة تتحوّل إلى متجر أحذية، هكذا دون سابق إنذار. لهذا ربما يمّم جهاد أبو حشيش جهة الصين. التقيناه صدفة في الشارع فدعانا إلى "فضاءات"، وهناك في مكتبته حدّثني عن مشاريعه المتعدّدة مع الصينيين. عمومًا، اطلبوا العلم ولو في الصين. وما يسري على العلم يسري على دعم الكتاب. لا بأس من طلبه ولو في الصين. ونحن في جولة الكتب التحقَتْ بنا لانا المجالي. صديقة فيسبوكية أحرص على قراءة ما تنشره على صفحتها الشخصية من تدوينات. أحب مزاجها في الكتابة، وكذا مراوحتها ما بين الشفافية والصرامة. تقدّم لانا نفسها لأصدقائها على الفيسبوك كقارئة. كقارئة أساسا. لكن رُبَّ قارئٍ خيرٌ من ألف كاتب. ومع ذلك، أهدتني لانا كتابها (على ساق واحدة) فكان مفاجأة جميلة. كتابة ذكية هي ثمرة قراءات عميقة. مقالات لذيذة تشبه فطائر أم محمد التي تناولناها في جرش. تقضم الفطيرة قبل أن تعرف ما إذا كانت حُشوتُها سبانخ أم جبنًا أم نقانق. لكنها في كل الحالات طرية شهية. كذلك مقالات لانا. سواء انطلقَت من أسطورة يونانية أو مرجع فلسفي أو تدوينة كاتبة شابة على الفيسبوك، من فيلم، من لوحة، من رواية أو من نص شخصي من دفاترها القديمة، تعرف لانا دائما كيف تباغتُ قارئها باللمعة الذكية والفكرة النبيهة والعبارة المبتكرة. أتذكر مقالات عبد السلام بنعبد العالي التي تُعلّم قارئها الذكاء، ومقالات سعد سرحان المتّقدة. نسيت أن أسأل لانا إن كانت تعرف هذين الكاتبين المغربيين. نحتاج الكثير لنعرفه عن بعضنا البعض. فالأردن أبعد ممّا كنت أعتقد. كنت على الدوام أعتبر عصام السعدي شاعرًا فلسطينيًّا. فلسطينيًّا بالأساس. وحينما لبّيتُ دعوة وزارة الثقافة الفلسطينية قبل سنوات زرتُ جنين وتوقفتُ في استراحة بمرج ابن عامر. فكتب لي عصام: "أنت في مدينتي، فأنا ابن هذا المرج". لكن وأنا أزور عمّان كان دليلي الأول هناك. أثارني مدى عشقه لعمّان وتعلقه بها. لكنني اكتشفت أيضًا أن الرجل أردني منذ كان. وُلِد عصام أردنيا في جنين. هو ابن الضفة الغربية لنهر الأردن. الضفة التي كانت أردنية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إلى أن احتلّتها إسرائيل عام 67. لقد كان عصام أردنيا من قبل أن يلوذ بعمّان ويستقرّ بها. حكى لي عن جواز سفر جدّه الأردني. عن أبيه الذي حارب في الجيش الأردني. وعن عمّان التي يعشقها اليوم. أليست مدينتَه؟ لكن عمّان مدينتنا جميعًا. لا يزورها المرء دون أن يحمل في روحه شيئا منها فتصير مدينته. تركت حفلات جرش متواصلة، أماسي الشعر، لقاءات الأصدقاء... السائق ينهب الطريق باتجاه المطار. الطريق مزدحم بسبب ساهري ليلة الخميس. وبسبب حفلات الناجحين في "التوجيهي". قال لي السائق: سنمرق باتجاه عبدون وهناك ستصير الطريق أكثر سلاسة. كان يحدثني وكأنني عارفٌ بالمدينة. قاله له طبعًا طبعًا. فكّرت في الأصدقاء الذين فاتني أن ألتقيهم خلال هذه الزيارة، في البتراء، في البحر الميت. ثم سألت السائق: هل أجد عندك شريطً لسميرة توفيق؟