على الرغم من مصادقة مجلس النواب منذ أسابيع قليلة على مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16 الخاص بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، فإن مضمونه لم يرق الفعاليات الحقوقية والأمازيغية في المغرب، بسبب التأخر غير المبرر في اعتماده وعدم مساهمة البرلمان في إغناء هذا النص التشريعي. وكان من المفروض أن يخرج هذا القانون التنظيمي، المكمل لدستور 2011، خلال ولاية عبد الإله بنكيران؛ لكنه تأخر ثماني سنوات، ولولا تحرك بسيط من طرف المعارضة في مجلس المستشارين لتعديل قانون بنك المغرب لكان إهمال قانون الأمازيغية مستمراً إلى حد الساعة. وطيلة ولاية حكومة عبد الإله بنكيران، لم يكن الأخير يُعير اهتماماً لملف الأمازيغية، إذ لم يكن يشير إليه قط من قريب أو من بعيد، على الرغم أنه كان من أبرز المستجدات التي تضمن الدستور الجديد للمغرب الذي كانت نتيجة حراك شبابي ضمن "حركة عشرين فبراير" سنة 2011. ولم يكن نشاط الحركة الأمازيغية ينتظرون تفاعلاً إيجابياً من طرف حكومتي حزب العدالة والتنمية، سواء السابقة أو الحالية، فهم يعتبرون أن الحزب القائد للائتلاف الحكومي لا يبدي اهتماماً لقضية الأمازيغية ولا يعتبرها ضمن الأولويات بل يؤكدون أنه يعارض تفعيلها. بنكيران والأمازيغية خلال الولاية الحكومية السابقة، كان لزاماً على بنكيران وفق الدستور أن يُصادق على جميع القوانين التنظيمية التي تضمنها الدستور الجديد، وفعل ذلك وفق منهج خاص، إذ أجل المصادقة على مشروعي القانونين التنظيميين الخاصين بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية والمجلس الوطني للغات والثقافة إلى آخر أيامه في رئاسة الحكومة. ولم يفتح بنكيران المجال أمام المجتمع المدني للتشاور في إطار الديمقراطية التشاركية، بحيث لجأ إلى تخصيص بريد إلكتروني لتلقي المقترحات، وهي الطريقة التي قاطعتها الجمعيات الحقوقية والأمازيغية ولم يتوصل إلا بمقترحات جمعيات محسوبة على حزبه تقول إنها تدافع عن الأمازيغية بطريقتها. وبعد أن جرت مقاطعة البريد الإلكتروني، لم يترك المجال للقطاعات والمؤسسات الحكومية المعنية بهذا الملف، سواء وزارة الثقافة أو طلب مشورة من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بل عهد إلى أحد مستشاريه بصياغة مسودة حول القانون التنظيمي. كانت هذه المسودة موضوع انتقاد واسع من قبل الحركة الأمازيغية والحقوقية بأكملها، فقد اعتُبر بمثابة إعلان نوايا فضفاضة عوض ما كان يتوجب من تضمنها لمصطلحات واضحة تُحمل كل سلطة مسؤوليات تطبيق الأمازيغية بشكل إلزامي ومعقول. العثماني الأمازيغوفوني حين حاز حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية لسنة 2016، عاد عبد الإله بنكيران إلى رئاسة الحكومة؛ لكنه لم يعمر طويلاً بعدما فشل في جمع أغلبيته، وعوضه الملك محمد السادس بسعد الدين العثماني، ابن سوس الأمازيغوفوني. استبشرت الحركة الأمازيغية قليلاً من الخير تجاه الطبيب النفساني، فالأمر يتعلق بعضو من حزب العدالة والتنمية الإسلامي ناطق بالأمازيغية وشكل موقفه تجاه الملف استثناءً داخل حزبه الإسلامي؛ فقد كان من المدافعين عنها منذ سنوات، كما أنه أول رئيس حكومة في المغرب يتحدث في تصريحات رسمية بالأمازيغية. حاول العثماني أن يقوم بمبادرات عدة تُجاه الأمازيغية، فقد وجّه عددا من المنشورات إلى مختلف الإدارات العمومية لاستعمال الأمازيغية في مراسلاتها وخدماتها. كما دعا إلى تدريسها في عدد من المعاهد العمومية العليا؛ لكنها تبقى مبادرات لا أثر كبير لها ولا تقييم لمدى تطبيقها. ومقابل ذلك، لم يدفع ابن سوس الأمازيغي إلى تجاوز خلافات أغلبيتها البرلمانية التي أقبرت مشروع القانون التنظيمي تجاه تجويد النص كما يتوجب في كل قانون تنظيمي واستحضار ما راكمه المغرب في هذا الصدد منذ سنة 2001. والنتيجة اليوم أن القانون التنظيمي الذي أحيل على مجلس النواب سنة 2016 صودق عليه في سنة 2019 دون مضمون جيد يحقق للأمازيغية المكانة المستحقة، ووصل اليوم إلى مجلس المستشارين للمصادقة عليه، قبل أن يعود إلى مجلس النواب في إطار قراءة ثانية، وهي المرحلة الأخيرة؛ لكن هذا قد يأخذ وقتاً طويلا مع قرب نهاية الدورة الربيعية للبرلمان. ضُعف القانون التنظيمي عقب مصادقة الغرفة الأولى على هذا القانون، خرجت الحركة الحقوقية والأمازيغية تشيد بالخطوة قليلاً؛ لكنها ذكَّرت بنقاط ضُعف هذا القانون التنظيمي بالغ الأهمية، وأجمعت على أن مراحل تفعيل بعض مقتضياته مبالغ في مددها، والتي تصل إلى 15 سنة. كما تجاهل النص التشريعي ما راكمته الحركة الأمازيغية والحقوقية في هذا الملف، إضافة إلى رصيد مهم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، المؤسسة التي أسسها الملك محمد السادس بعد خطابه الشهير في أجدير سنة 2001. ولقد تمكن المعهد، طيلة عقدين من الزمن، من الحفاظ على جزء من الموروث الثقافي للمغرب كان على شفا حفرة من الاندثار وأعاد الحياة إلى لغة يتحدثها غالبية المغاربة، وقام بخطوات علمية كبيرة في المعيرة ونال حرف تيفيناغ الذي أعده موافقة القصر الملكي باعتباره حرفاً رسمياً لكتابة الأمازيغية. وبالإضافة إلى تجاهل هذا الرصيد، تضمن مشروع القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية إحالة على بعض الأنظمة القوانين أقل درجة من القوانين التنظيمية؛ وهو أمر يمس بمبدأ تراتبية هذه القوانين التي تلي النص الدستوري في الأهمية. وعكس ما يجب أن يتضمنه من مصطلحات واضحة غير قابلة لتأويلات عدة وملزمة، جاءت في النص على سبيل الحصر تعابير عامة من قبيل: "تعمل الدولة بجميع الوسائل المتاحة"، و"يتعين" و"يمكن" "تشجع" و"تيسير"، إضافة إلى اعتبار تعليم اللغة الأمازيغية حقاً لجميع المغاربة عوض "واجباً". وما يثير انتقاد الحركة الحقوقية والأمازيغية تجاه هذه الصيغ والتعابير غير الملزمة وغير الواضحة هو شرعنتها للفعل الاختياري للدولة في القيام بواجبها تجاه تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية كما يجب، خصوصاً في قطاعي التعليم والإعلام اللذين يعتبران من أهم المجالات لتنمية حضور الأمازيغية والحفاظ عليها في حياة المغاربة. التعليم والإعلام يعتبر التعليم والإعلام رافعتين مهمتين للحفاظ على لغة وثقافة ما؛ فالأول يمس فئة عريضة تمثل جيل المستقبل يقارب عددهم السبع ملايين تلميذ وتلميذة. أما الثاني فهو يخاطب جمهوراً عريضاً يشاهد برامجه بشكل يومي، وبالتالي فهما البوابتان الفعليتان لترسيم فعلي للأمازيغية؛ غير أن المتتبعين لحضور الأمازيغية في هذين المجالين يجمعون على أن مستواها شرع في التراجع منذ سنوات، فبالنظر إلى المرحلة التي أعقبت خطاب الملك محمد السادس في أجدير الذي أرسى قواعد أساسية لإعادة الاعتبار إلى الأمازيغية في المغرب، فكل المؤشرات اليوم توحي بالتراجع عن عدد من المكتسبات. وبالرجوع إلى السنوات الأولى لتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بادر هذا الأخير إلى توقيع اتفاقية شراكة وتعاون مع وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي يتم بموجبها مواكبة المدرسة العمومية بما يلزم لتدريس الأمازيغية. كانت الأمازيغية في أوج مرحلتها في السنوات الأولى التي أعقبت الاتفاقية، فقد دخل الكتاب الأمازيغي إلى المدارس الابتدائية، وتم تكوين مئات الأساتذة من طرف المعهد لتدريس تيفيناغ للتلاميذ المغاربة؛ لكن بعد سنوات طويلة من هذا المجد تراجع عدد التلاميذ المستفيدين من حصص اللغة الأمازيغية بشكل كبير. كان هذا التراجع ضربة قاضية لما راكمته الأمازيغية. ولأن حقيبة وزارة التربية الوطنية كانت أكثر حقيبة تخضع للتعديلات فقد كان الأثر بالغاً، إذ يحدث أن يأتي وزير جديد لا يعير اهتماماً لتدريس الأمازيغية ويتجاهل ما قام به سلفه ويمضي إلى ما يراه مهماً. ولو كان الاهتمام بملف الأمازيغية متوفراً ومدعوماً بإرادة سياسية حكومية قوية لكانت الأمازيغية اليوم مُعممة في جميع أسلاك التعليم العمومي وحتى الخصوصي، لأن مدة 16 سنة تبقى مدة كافيةً لتفعيل ذلك خصوصاً في ظل فتح ثلاث جامعات لمسالك إجازة خرجت مئات المجازين المتخصصين في اللغة الأمازيغية المستعدين لممارسة مهنة التعليم. آفاق طويلة لا يتوقع المهتمون بملف الأمازيغية في المغرب آفاق جيدة في المستقبل، ففي ظل ضُعف الأحزاب السياسية ودخول أغلبها في صراعات داخلية منهكة وعدم تبنيها للقضايا العادلة كما يجب يجعل تحقق التفعيل المرجو على المديين القريب والمتوسط صعباً. ويجمع معظم الفاعلين على أن ضُعف الأحزاب السياسية، واليسار على الخصوص، التي يمكن أن تدافع عن الأمازيغية كقضية ديمقراطية، كان له أثر بالغ على وضع الأمازيغية، والنتيجة اليوم: لغة رسمية للدولة موقوفة التنفيذ إلى أجل غير مسمى. فبحساب تاريخ شروع الدولة المغربية في إعادة الاعتبار إلى الأمازيغية سنة 2001 وحساب الآماد التي وضعها القانون التنظيمي التي تصل إلى سنة 2034، ستصبح مدة انتظار تفعيل الأمازيغية في المغرب 33 سنة لعلها تجد مكانة لائقة في جميع مناحي حياة المغاربة.