نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/23-إسهامات اَدم سميث في تطور الفكر الاقتصادي اعتمد الفيزيوقراطيون في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر على النظرية الرأسمالية الزراعية وكانت آثارها محدودة وجد نسبية، وفي نفس الفترة تقريبا دخلت إنجلترا مرحلة بناء الرأسمالية الصناعية، وفي هذا السياق التاريخي تبلور فكر عالم الاقتصاد الإسكوتلندي اَدم سميث وجاءت عناصر نظريته على شكل دراسة وصفية تحليلية لنمط الإنتاج الرأسمالي. ازداد اَدم سميث سنة1723، واهتم خلال فترة تكوينية بدراسة اللاهوت، ومارس مهنة التدريس بجامعتي كلاسكو وأدنبره، حيث كان يلقي محاضرات في المنطق، والأخلاق، والقانون، والاقتصاد السياسي. وفي سنة 1759 نشر كتابا في الأخلاق بعنوان "نظرية المشاعر الأخلاقية" سرعان ما لاقى نجاحا ساهم في شهرة مؤلفه. وفي الفترة الممتدة ما بين 1764و1766 تنقل اَدم سميث بين تولوز وجنيف وباريس، حيث كانت له لقاءات مع الفيزيوقراطي كيسناي وأتباعه. وفي سنة 1776 نشر كتابه المعروف: "دراسة في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها"، عرف فيما بعد اختصارا تحت عنوان "ثروة الأمم". بعد ذلك استقر اَدم سميث في لندن، ثم عمل مفوضا للجمارك بأدنبره حيث توفي عام 1790. هذا ويعتبر اَدم سميث المؤسس لعلم الاقتصاد الحديث ورائد المدرسة الإنجليزية الكلاسيكية في هذا الميدان. ولم تكن دراساته مجرد تحليلات اقتصادية تقنية جافة، بل كانت مفعمة بروح الفلسفة الليبرالية التقليدية مع نوع من التجديد على مستوى المنهج. مرتكزات الليبرالية الاقتصادية بالمقارنة مع النظرية الفيزيوقراطية، كان فكر اَدم سميث أكثر عمقا وتماسكا. لقد جاء كتاب "ثروة الأمم" مقسما تقسيما منهجيا إلى عدة محاور تصب كلها في اتجاه الظاهرة الاقتصادية قصد محاولة فهم مختلف مكوناتها. وهكذا تناول الكتاب تقسيم العمل، التبادل، النقود، رأس المال وكيفية تشكيله، نظرية الربح ونظرية الأجور والدخل، بالإضافة إلى دراسة نقدية موجهة لآراء الفيزيوقراطيين والمركنتليين، إلى جانب دراسة في المالية العامة وضع اَدم سميث ضمنها المبادئ الضريبية. والكتاب في مجمله هو في الواقع عبارة عن مرافعة للدفاع عن الحرية الاقتصادية شبه المطلقة وعن النظام الرأسمالي بصفة عامة، ووجه المبالغة فيه هو كونه يعتبر تلك الحرية الاقتصادية كشرط ضروري وكاف لتحقيق التقدم الاقتصادي في كل الأزمان. وقد تطرق اَدم سميث في البداية لداعمتين من الدعامات الرئيسية في العلوم الاقتصادية الحديثة، وهما الإنتاج والتوزيع. وكان تركيزه على الإنتاج تركيزا واضحا عندما قال: "إن ثروة الأمم لا تنمو كما ادعى المركنتليون تبعا لزيادة الذهب والفضة وإنما يحدث هذا النمو بسبب زيادة الإنتاج". والإنتاج عند اَدم سميث هو خلق للمنفعة، وليس خلقا لمادة جديدة كما ذهب إلى ذلك التيار الطبيعي. وعندما كان اَدم سميث يؤيد الحرية الاقتصادية، فإنه يعزز رأيه بعدم تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد، معتبرا أن هذا التد خل يضر بالمصلحة العامة التي يضمنها القانون الطبيعي، ولكنه أشار إلى بعض الاستثناءات التي تمكن الدولة من التدخل في مجالات كالتعليم والملاحة والإصدارات النقدية. وحصر واجبات السلطة في ثلاث مهام: - الدفاع عن البلاد ضد الاعتداءات الخارجية، - السهر على ضمان حسن سير العدالة، - إنجاز المشاريع الاقتصادية التي يعجز الأفراد أو يمتنعون عن القيام بها، كأن تكون غير مربحة أو تفوق قدراتهم المالية على سبيل المثال. وبتدقيق أكثر، كانت الليبرالية التي نادى بها اَدم سميث تخص الدولة بوظائف محددة، وهي: تسهيل الإنتاج، والحفاظ على الأمن، واحترام القانون، وحماية الملكية. وقد كانت إسهاماته تسلط الضوء ليس فقط على تاريخ الفكر الاقتصادي وضرورة عقلنته الليبرالية، بل كذلك على تاريخ الفكر السياسي ومعالجته معالجة جد محافظة. والواقع أن اَدم سميث لم يكن يعبر عن اَمال وتطلعات الطبقة البورجوازية بقدر ما كان يعبر عن دينامية الشعب البريطاني دون الإخلال بتركيبته الاجتماعية. لقد تطرق لموضوع المصلحة الفردية وخلص إلى التقاء المصالح العامة والشخصية في النظام الرأسمالي الحر تحت تأثير ما أسماه ب "اليد الخفية". ويقول بهذا الصدد: "المنتج لا يتطلع إلا إلى ربحه الخاص، ولكن يدا خفية تدفعه دفعا من حيث لا يدري إلى الهدف الأسمى الذي يتلاءم والمصلحة العامة". ومن هنا كان دفاعه عن أطروحة التجانس الأساسي بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، كما دافع عن مزايا المنافسة وحث على الادخار، وكان يعتقد اعتقادا راسخا باستمرارية التقدم الاقتصادي، وبأن الثروة الحقيقية للأمة هي العمل الوطني. العمل مصدر لكل ثروة اعتبر اَدم سميث العمل بشتى أشكاله ومراحله مصدر القيمة الأساسي لثروة الأمم، وهو أول من نادى بضرورة "تقسيم العمل" لأن ذلك يؤدي إلى رفع المردودية، وبالتالي إلى رفع مستوى الإنتاج الذي يؤدي بدوره إلى تنمية ثروة الأمة. وفي محاولة منه لمعالجة القيمة الاقتصادية لعنصر العمل في الدورة الإنتاجية، طرح اَدم سميث مبدأ معادلة الثمن الطبيعي للبضائع المنتجة بالنظر لما تتطلبه تلك البضائع من عمل يستهدف إنتاجها، ويوضح ذلك بقوله: "يكون الثمن الذي يتقاضاه الإنسان العامل طبيعيا إذا كان هذا الثمن كافيا لضمان عيشه خلال فترة العمل، وكافيا لسد النفقات المترتبة عن تعليمه وتكوينه، وكافيا لتعويض الأخطار المحدقة بحياته أو تلك التي تهدد نجاحه في عمله. وإذا حصل ذلك فإنه سيكون حافزا مشجعا بالنسبة للعامل، وبالتالي سيكون إنتاج البضاعة في مستوى تلبية وإشباع الطلب". وفعلا، اتخذ اَدم سميث كقاعدة تحليلية توضيحية مبدأ ربط الثمن الطبيعي بالمدة الزمنية الضرورية للقيام بالعمل من أجل إنتاج البضاعة. ورغم إقراره بكون العمل مصدرا للثروة، فإن ذلك لم يمنعه من ملاحظة عدم تناسبية الثروات والمداخيل مع العمل الذي تم إنجازه من طرف هذا العامل أو ذاك لإنتاج تلك الثروات أو تحقيق تلك المداخيل، موضحا: "في مجتمع متحضر هناك طبعا تقسيم للعمل ولكنه ليس تقسيما متساويا، فقد يوجد عدد من الناس الذين لا يقومون بأي عمل، كما أن تقسيم الثروات لا يتناسب مع تقسيم العمل. إن دخل صاحب المتجر مثلا يتعدى مداخيل أجرائه مجتمعين، علما بأنه يعمل أقل منهم، وهؤلاء بدورهم يتقاضون أجرا يفوق ست مرات أجر نفس العدد من الحرفيين الذين يعملون أكثر منهم. كما يتقاضى الحرفي الذي يعمل مرتاحا في بيته أجرا يفوق أجر العامل المياوم المسكين، مما يوضح أن أعباء المجتمع الثقيلة يتحملها أولئك الذين يحصلون على أضعف الامتيازات". وهذه النظرة الواقعية لم تكن كافية لتدفع اَدم سميث للبحث عن الأسباب الحقيقية التي كانت كامنة وراء عدم الإنصاف في توزيع الدخل القومي أو الوطني، ولم يكن هذا إذعانا للأمر الواقع على ما يبدو، وإنما هو نهج متكامل الحلقات تم وضعه بكل وعي. وهكذا فتشبث اَدم سميث بالليبرالية الاقتصادية شبه المطلقة لا غبار عليه، ومطالبته للدولة بعدم التدخل كانت تعني قبل كل شيء موافقة آرائه لتوزيع الثروة طبقا لواقع المجتمع الإنجليزي، دون أية محاولة لتصحيح اختلالاته الطبقية ولا حتى مجرد انتقاد لهذا الواقع، بل على العكس من ذلك تماما كان اَدم سميث يبدي تمسكه الشديد بالتفاوتات الاجتماعية وإبقائها على ماهي عليه، حيث يقول :" إن المس بمصالح طبقة أخرى، يعد منافيا للعدالة، وحتى للمساواة في الحماية التي يجب على الملك توفيرها لكل رعاياه من كل الطبقات الاجتماعية". وهذا الموقف راجع على الأرجح إلى تأثيره النسبي بالمذهب الفيزيوقراطي الذي تبنى شعار "دعه يعمل، دعه يمر"، والذي طور نظريته بخلفية الاستناد إلى القانون الطبيعي وما ترتب عن ذلك من حتمية في الدخل والتوزيع. ومع ذلك فإن اَدم سميث ندد بكل قوة بحالات الظلم والخروقات السائدة في المستعمرات، ونادى بإلغاء الاحتكار التجاري مع هذه المستعمرات، وكان توقعه لمستقبل حقوق الشعوب مبنيا على نظرة واقعية تجسدها القوة، كما أشار إلى ذلك: "ربما في وقت لاحق ستكون أهالي هذه البلدان أقوى وأهالي أوربا أضعف، بحيث يصبح سكان مختلف بلدان العالم في وضع تتساوى فيه قواهم وشجاعتهم، بعد ذلك سيدفعهم الخوف المتبادل إلى نوع من الاحترام لحقوق بعضهم البعض". لقد كانت إسهامات اَدم سميث في حقل العلوم الاقتصادية رائدة ومتميزة بالنظر إلى الظروف التاريخية التي تبلورت فيها، فأعطت بذلك دفعة نوعية لمسيرة الفكر الغربي بصفة عامة. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]