ثم كانت المفاجأة المذهلة، فهذا الخمار لم يكن سوى مجرد عميل للاستعمار الفرنسي. ويعود الفضل في اكتشاف خيانته إلى عمه أحمد الميداوي، الذي كان رجلا وطنيا يترأس خلية في مدينة فاس، ويشرف على خلية ثانية في نواحيها. فعندما رجع ابن أخيه من القاهرة مبعوثا من طرف رجال مكتب المغرب العربي، للمساعدة على تأسيس جيش التحرير وتدربيه صدقه عمه وعرفه ببعض أفراد خليته؛ ولكن حدث أن البعض منهم لاحظوا أن الخمار يلتقي بأحد عملاء الوجود الفرنسي، فأمر أحمد الميداوي رجاله بترصد تحركاته، ونقل شكوكه إلى عباس لمساعدي الذي لم يرد أن يظلم الخمار، فطلب من أحمد الميداوي بتكثيف المراقبة عليه. وقبل التحاق عباس لمساعدي بالمنطقة الشمالية، التقى بالخمار من أجل أن يسبر غوره وليطمئنه على أن الأمور تسير حسب الخطة التي رسماها معا، وليخبره بأنه توصل من المنطقة الشمالية بأخبار مشجعة، وبأنهم ينتظرون وصوله من أجل تسليمه المال اللازم لإعداد جيش التحرير وكذلك لائحة أسماء الضباط والقياد والجنود المغاربة الذين سيساهمون في إنشاء هذا الجيش وتزوديه بالسلاح. ولهذا، قرر أن يسافر وحده لكي لا يشعر به عيون البوليس الفرنسي، من أجل أن يتسلم المال واللائحة، وليعود سريعا إلى مدينة فاس، ليشرعا معا في الاتصال بهؤلاء الأشخاص للإعداد للثورة المسلحة التي سيتولى قيادتها. وعندما سمع الخمار هذا ظن أن الصيد سيكون ثمينا، وبهذه الحيلة استطاع عباس لمساعدي أن يسافر مطمئنا، ويترك وراءه الخمار وضباط المخابرات الفرنسية ينتظرون رجوعه. وفعلا، تأكد أحمد الميداوي من اتصال الخمار بذلك العميل الفرنسي. لم يتسرع في اتهام ابن أخيه بالخيانة، وبدأ ينصب له الفخ، فأبدى أمامه يأسه وسخطه من مقاومة الفرنسيين؛ لأنهم أقوياء بجنودهم وأسلحتهم. وقال له: "نحن إمكاناتنا ضعيفة وأسلحتنا قديمة وقليلة، وسنكون في النهاية مجرد ضحايا للسياسيين". فسأله الخمار بحسن نية: "وما العمل يا عمي؟". فأجابه أحمد الميداوي: "في الحقيقة، أنا أفكر في وسيلة للتعامل مع الفرنسيين لأنقذ بها حياتي وأضمن مستقبل أولادي. أما إذا واصلت محاربة الفرنسيين فسأترك أولادي يتامى". والظاهر أن أحمد الميداوي أثر في ابن أخيه. فاستفسره الخمار: "هل أنت صادق فيما تقول؟". فأجابه أحمد الميداوي: "هذا ما توصلت إليه بعد تفكير طويل، ولو كنت أعرف طريقة للتعامل مع الفرنسيين لقمت بها؛ ولكنهم يحتاجون إلى الواسطة، وأنا كما تعرف رجل وطني، وربما يخيفهم هذا من التعامل معي". هنا سقط الخمار في الفخ المنصوب له وقال لعمه: "هل تؤدي اليمين لي على نسخة من المصحف أنك تقول الحق"، فبادر أحمد الميداوي من أجل مصلحة وطنه بالقسم على المصحف، فاعترف له الخمار بحقيقته قائلا: "لا تخف من اليوم من الفرنسيين أو غيرهم، فأنا عضو في جهاز المخابرات الفرنسية. وقد انضممت إليه بعد أن فكرت كثيرا، ووجدت أن كلام أحد ضباط فرع مكتبهم بالقاهرة بأنه لا جدوى للمغاربة من المقاومة التي يخوضونها ضد الفرنسيين على حق؛ لأن ميزان القوي والمال ليست في صالحهم، وأنا لست مغفلا لكي أختار الجانب الضعيف، وبدأت أزودهم بأخبار مكتب المغرب العربي وأخبار السياسيين المغاربة المتواجدين بمصر، وقد جنيت من وراء هذه الأخبار مالا كثيرا. وبعد أن أخبرتهم بقرار إرسالي إلى المغرب للمساعدة على تأسيس جيش التحرير، وضعوا خطة لمساعدتي على النجاح في مهمتي، تتلخص في حمايتي وتسهيل تنقلاتي وغض الطرف عن الأشخاص الذين سأتصل بهم وتركهم دون اعتقال. وبعد أن أشرع في عملي، أكشف لهم عن أسماء الفدائيين وقاداتهم وأماكن إقامتهم وتزويدهم بصورهم، ثم أقدم لهم أسرار جيش التحرير بتنظيماته ومراكزه وأسلحته ورجاله وساعة الصفر، ليتمكن الفرنسيون من توجيه ضربة واحدة للقضاء على جميع الخلايا الفدائية، وكل وحدات جيش التحرير، وبعد ذلك أتقلد أنا منصبا ساميا في الإدارة الفرنسية". وأضاف الخمار موضحا لعمه: "إن هدف الفرنسيين هو الهجوم على الإسبانيين عند الحدود التي تفصل بين المنطقتين الإسبانية والفرنسية، لإرغام إسبانيا على توقيع معاهدة تسمح لفرنسا باسترجاع الفدائيين المغاربة اللاجئين إلى المنطقة الشمالية واعتقالهم". وليؤكد الخمار لعمه صدق كلامه أظهر له آلة للتسجيل وتعمل كذلك كآلة للتصوير، وقال له: "لقد سجلت كل ما دار من حوار مع عباس لمساعدي وأصدقائه المرشحين لمساعدتي في تأسيس جيش التحرير في منطقة الأطلس المتوسط، وسلمت الشريط إلى عناصر من جهاز المخابرات الفرنسية، وعندما كنت مع عباس لمساعدي في باب "أفتوح" تظاهر أحدهم بأنه سائح وأخذ له صورة"، فاقتنع أحمد الميداوي بخيانة ابن أخيه. فسأله عمه: ولماذا لم يتم اعتقالهم، إن كنت صادقا فيما تقول؟ فأجابه الخمار: إنها مسألة وقت فقط، فالإقامة العامة تريد اعتقالهم فورا، بينما جهاز المخابرات الفرنسية يريد إتمام المهمة المسطرة لي حتى النهاية، ثم بعد ذلك يسمحون لهم باعتقالهم. وقد تسبب اكتشاف الخمار في خلق أزمة بينهما، فبدأ أحمد الميداوي يفكر في وسيلة للتخلص من الخمار. بعد مرور ثمانية أيام على حديثهما، أخبره أنه توصل برسالة من عند عباس لمساعدي يطلب فيها منه أن يلتحق به في مدينة تطوان، ليتدارسا الترتيبات الأخيرة لانطلاق عمليات جيش التحرير، وليشرف على تدريب كوادره وجنوده؛ لأن الإخوان يريدون التعرف عليه، ودراسة الموقف معه لأنه هو الذي سيكون المسؤول الأول أمام المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي ومكتب تحرير المغرب العربي. وتحايل عليه عمه وأغراه بالسفر إلى مدينة تطوان وقال له: "هذه هي الفرصة التي كنت تنتظرها لتتعرف بالوطنيين هناك، ولتكتسب المزيد من المعلومات التي ستفيدنا معا في التقارير التي سترفعها للمخابرات الفرنسية، ولو كنت أقوى على الذهاب لسافرت معك". وقبل سفر الخمار إلى المنطقة الشمالية، سلم أحمد الميداوي إلى أحد أعضاء خليته، والذي كان محل ثقته وكلفه بمرافقة الخمار في سفره عكازا، أوصاه بالحرص عليه وأن يسلمه يدا بيد إلى عباس لمساعدي، وكان العكاز يحمل في تجويف سري بداخله رسالة مشفرة لعباس لمساعدي ورجال المقاومة بمدينة تطوان، تؤكد لهم خيانة الخمار، واعترافه بالتعامل مع جهاز المخابرات الفرنسي. وسقط الخمار في الفخ، وفي مدينة تطوان ألقي عليه القبض، فاعترف بخيانته، فتمت محاكمته وصدر في حقه حكم بالإعدام. عندما سمعت بنهاية الخائن الخمار من عمه بعد استقلال المغرب، تذكرت الرسالة التي بعثها إلي عباس لمساعدي، وفهمت معنى "لا تشتري الحذاء"، إنها كانت رسالة تحذير منه. وبعد حصول المغرب على استقلاله رجع المدني "لا عور" وسعيد بونعيلات إلى مدينة الدارالبيضاء من مدينة تطوان، فأخبروني بأن الخمار اعترف بأنه عندما قضيت الليل في منزل أصهاره، دخل إلى الغرفة التي كنت تنام فيها مع زوجتك وطفلك، وأضاء النور للبحث عن أرواق هويتك ولتصويرك؛ ولكن طفلك أزعجه الضوء فاستيقظ فأفشل مسعاه. *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]