لم يكن العربي زيان مجرّد صانع تقليدي ينسج الجلابيب الصوفية لأهل مدينة شفشاون والإقليم فقط، بل كان دائما ذاكرة إنسانية تطل على امتدادات كثيرة، جمعت ما بين السّخرية والتفاصيل الشّفوية ومعرفة الواقع والسياقات الشعبية. الرّجل لم يضع حدوداً بينه وبين الآخرين، بل عاش حياته بسيطا كباقة عشب دون تصنّع..ودون الارتكان إلى مقاييس أو مظاهر معينة، تملؤه باستمرار روح الدّعابة، وهو يطلق تعليقاته السّاخرة وضحكته الصّاخبة بين الجميع، حتى صار أحد الرّموز الشعبية بالمدينة. في هذا الطّريق سنعبر مع العربي الذي يسرد علينا بعضاً من مقامات حياته الغنية ورحلته البعيدة زمنياً والقريبة وجدانياً ومكانياً..وكأنه يُشرع صندوق عجائبه بيننا، والذي جمع فيه أصدافاً عديدة من غير مهنة الدّرازة التي خبرها جيداً، ليشمل مفارقات وأحداث ومواقف وطرائف.. هنا صوت العربي الذي لا يضع حدوداً لكلامه..هنا صوت العربي شديد الوضوح يأخذنا إلى زوايا أخرى: من يفاعة الدّرس إلى أبجديات الدّرازة "المْعلمْ" العربي زيان ازداد بشفشاون سنة 1945 (بالتوقيت النظري) كما ذكر.."لأن الحالة المدنية ظهرت ما بعد الاستقلال، وقبله كنا نجد شخصا ما توفيت أمه في سنة 1955 وهو مولود في سنة 1956..وتجد آخر لا يفارق أخاه إلا بستة أشهر، وشخصا ثالثا بين عمره وعمر أبيه فرق 7 سنوات؛ وبالتالي فكنّاش الحالة المدنية ساهم في تنظيم كل هذه المفارقات". وبدأ العربي زيان مزاولة عمل الدّرازة كما يستحضر، وبالتدقيق منذ 11 شوال سنة 1955، بعدما جاء والده، ذات ثلاثاء إلى المدرسة الأهلية الابتدائية بشفشاون حيث يدرس، ولم يكن المستوى الإعدادي متوفراً بالمدينة، وكان يتم استعمال دفتر واحد داخل القسم يسجل فيه التلميذ جميع الدروس، (جاء والده) فأصر على تعلّمه حرفة الدّرازة قائلا له: "المدرسة وُجدت للنّصارى".. هكذا تعاطى العربي هذه المهنة التي لمس فيها أشياء جديدة تقتحم عالمه الطفولي، رغم أنها لم تكن قد عرفت تطوراً ملموساً، وجل أهل شفشاون يعتمدون في لباسهم على ما هو محلي، بدءاً من لباس الجلابيب إلى "البلغة" التي كان ثمنها درهما وخمسين سنتيما.. بالإضافة لذلك كان بعض الناس يقاطعون المواد والسلع الأجنبية، وإذا لبس أحدهم الملابس "الرُّومية" يرتدي فوقها الجلباب، إلى درجة أن تسريحة الشعر "الفْريزي" كانت تثير لدى صاحبها استنكاراً من النّاس، وكانوا يشبّهونه بالنّصْراني. وزاد العربي في هذا الجانب: "عندما نذهب إلى السوق كنا نجد فيه جميع الحاجيات التقليدية المطلوبة مثل: الصوف و"علاّف" و"صنّاجْ"، والأطباق القصبية..وكذا السّلال التي تحتوي على مجموعة متنوعة من المواد الآتية من المداشر القريبة". البحث عن أكباش ملوّنة! "الصوف التي أستعملها في الجلابيب أو "الرّقعة" ثلاثة أنواع: بيضاء وسوداء و"المْزرْللْ". وهناك الجلباب الأبيض الذي يستعمله العريس ليلة دخلته. والثوب الذي كنا نقوم بحياكته كان غليظاً ومختلفاً عن بعض المدن، كوزّان على سبيل المثال. فإذا كانت الصّوف رقيقة فيجب أن يصل وزنها إلى كيلوغرامين وربع، وإذا كانت للخروف الصغير فكيلوغرامين ومائة غرام.. أما صوف الكبش المذبوح فتصل إلى 3 كيلو غرامات لأنها تكون بدون دم"، يضيف العربي المحمّل بخبرة حياتية واسعة. وهو يعمل على لملمة المسارات الذاهبة من حوله يقول العربي: "شفشاون معروفة بالحياكة الجيدة للجلابيب، وهناك من كان يقوم بذلك بثمن درهم ونصف أو درهمين، وهي كافية لتغطية مصاريفه، لأن متطلبات الحياة كانت متواضعة ولم تكن تتطلب مالْ "قارونْ"... إضافة إلى أن جل الناس كانوا يكتفون بهذه الصنعة ولا يفكرون بالأجواء الحضارية، كالذهاب إلى الشواطئ في فصل الصيف أو الاستجمام. فقط كنا نكتفي بشراء بعض الحاجيات الأساسية في مناسبات مختلفة. وكان الكثير من الزّبناء يتوافدون علينا من مدن: الناضور والحسيمة وتطوان وكتامة؛ أما حاليا فسوى بعض شيوخ نواحي الإقليم من قبائل غمارة والأخماس وغزاوة، لأن هذه المناطق تعرف جواً بارداً في فصل الشتاء. وهناك من يطلب مني إعداد جلباب أخضر أو أزرق، فأرد عليه بأنّه لا توجد لدينا لا أكباش حمراء أو صفراء أو خضراء!!". ويضبف العربي: "في نظري كلما كانت الصوف مصبوغة بالطرق الحديثة تكون غير أصيلة. ومن أشهر صانعي هذه الحرفة بالمدينة شخص يدعى بابا، والحاج عبد السلام الحولاني وحسن البقالي، هذا الأخير الذي كان يمثلنا كأمين للحرفة. وكانت الجلابيب تباع في السويقة عن طريق "الدلالة". وأتذكر أحمد الحساني وبنسعلي والزوياتي...وجلهم خبراء بالصّنعة ويعرفون المنتوج الجيد من المغشوش. أما اليوم فهذا عمل نختبئ فيه فقط، والذي يقول إنه سيعيش من خلاله أو من خلال صناعة "البلغة" فلن يربح شيئا. "البلغة" مثلا يتطلب إعدادها 50 درهما وبيعها في حدود 100 درهم أو أكثر.. فلماذا كل هذا الشقاء والحذاء البلاستيكي يشتريه الإنسان بعشرة دراهم، وهو صالح لأن يغوص به في الماء ويبقى كما هو، فهل ينطبق الأمر على "البلغة"؟. هذا العمل لم يبق منه شيء، والذي يتعاون معي إما برزقه أو أحمق؟ فليس لدي ما أعطيه لأنّ ما لديّ قليل" شتاء الجلباب وصيف السّلطات "يتطلب هذا العمل جهداً متواصلا. أقوم أولا بتجهيز خيوط النسيج بعد تركيبها في "المْرمة"، وهي أداة العمل، ثم ألفّ الصوف في قصبات صغيرات )الجْعابْ) عن طريق النّاعورة، وأملأ وسط "النزق" بالصّوف وأبدأ في عملي. المدينة لم تكن تتوفر على معامل، ومعظم اليد العاملة كانت تشتغل بالحرف التقليدية من خرازة ودباغة وصنع "الرابوزْ" و"الشّاشية". وهناك من كان يقوم بتفصيل قطع جلد الثور على مقاسات رجليه، ليصنع لنفسه حذاءً خاصاً كان يسمى "القورْقينْ"، لأنه لم تكن توجد أحذية جلدية بكثرة ماعدا البلاستيكية منها"، يورد العربي. هو الذّاتي يتوحّد مع ماضيه، فيضيف السّاخر العربي زيان، وفق قراءته للأشياء والوقائع: "لقد كنت في أول الأمر أعيش في "كُوزينة" والدي، وبعد ذلك أصبح الوضع مختلفاً. والدي كان له تحليله الخاص، إذ كان يقول إن لكل إنسان رزقه، والمعطي هو الله"، وزاد: "الأب قد يمنح للابن مالا ثم ينفقه. فماذا يمكن أن يفعل له بعد ذلك؟.. أو قد يدق الأب باب ابنه وقد صار عجوزاً وعاجزاً، فتطل عليه حفيدته من النّافذة قائلة: "أبابا سيدي.. بابا مازالْ ما جاشْ، هنا غِير يمّا". هذه أمور تقع، لذلك فالمعطي هو الله. والمدينة كانت معروفة بنوعين من جلابيبها: الوهْرانية سوداء اللون.. والطالبية بيضاء. كما أننا كنا نقوم بخدمة الجلباب المزركش التي تستعمل في الحفلات وبعض المناسبات، وكان يبلغ ثمن الواحدة بعد تجهيزها وفي سنوات بعيدة ما بين 150 و160 درهما آنذاك..أما صاحب الدكان الذي يقوم بشرائها، وبعد القيام بطقوس الدلالة، فيمكن أن يبيعها ب: 200 و220 درهما، وتبقى عملية إعدادها حسب نوعية الصوف.. فرقيقة الخيوط تتطلب يوما ونصف يوم من العمل، أما الصوف التي تكون خيوطها غليظة فيوم واحد. وهذا الأمر كان في الماضي، أمّا حاليا فالصّانع يقوم بتجهيز جلبابين في اليوم ولا من يشتري. لقد عرف بيع الجلابيب في فصل الشتاء مبيعات بنسبة 3 في المائة وفي الصيف 1 في المائة، لأن الناس في الصيف تنشغل بثياب السّباحة والخْيارْ والخلّْ لإعداد السَّلطاتْ". في مرمى الحياة وبين طقوس ونغمات يقول العربي: "عرفت صنعة الدّرازة تراجعاً منذ منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات، لأن النساء المعروفات لم يعدن يشتغلن بغزل الصّوف وإعدادها..والجيل الجديد بدأ يلج المدارس، والصّانع الذي يرحل عن دنيانا لا يجد من يخلفه في عمله. كانت أياما لا تنسى، فنساء شفشاون كن يلبسن الحائك الأبيض والمسناّت حائك الصوف، والبنات لا يخرجن من البيوت إلا محمولات في الهوادج إلى أحضان أزواجهم أو في النّعش إلى المقبرة. وأضيف أنني تجنّدت سنة 1968 في مدينة الحاجب لمدة سنة ونصف، كما قضيت شهرين ونصف في مدينة سيدي سليمان سنة 1971..وقمت بجولات في العديد من المدن المغربية، ولي بها أصدقاء في مناصب مهمة. وكان قد تعرّف علي أحد الأدباء المغاربة المرموقين أثناء زيارته لشفشاون، وأجرينا دردشة بفندق ماكو صحبة عدد من مرافقيه.. وأذكر أننا تناقشنا حول القراءة، فاستغرب أنني أعرف القراءة ولا أعرف الكتابة، فأخبرته بانقطاعي عن الدراسة منذ البداية في سنة 1955، لكنني تعلّمت القراءة بطرق أخرى من خلال كل ما يقع في يدي من أسماء علب الكبريت..إلى أسماء بعض المنتوجات الاستهلاكية ك: باطا كريسطال ولوسيور وعناوين المحلات التجارية. وتعرفت على الأرقام بشكل جيد في لوحات السيارات.. لقد علمتني الحياة أشياء لا تحصى.. والحياة في نظري كلها لا تتصور، والإنسان دائما يبدأ فيها يومه من جديد..فنحن نعيش في الحياة كحرّاس مرمى، ولا نتخيّل أن تدخل الكرة شباكنا. لكن مهما كنّا مدرّبين على صدّ كرات الحياة ففي لحظة من اللحظات تباغتنا تلك الكرات داخل الشباك. فما أكثر الأهداف في خطواتنا اليومية، والحياة أضحت كلّها "تمارةْ ؟!"". ويواصل العربي الحديث وهو يرسم ابتسامة عذبة على محياه: "النّاس قديماً كانوا مولعين بالجلوس مع الصنّاع أو "الدرّازة" من أجل الإنصات إلى الراديو، وكان لكلّ طقوسه في ضبط بعض الموجات الإذاعية البعيدة، فمنهم من يطلق أسلاكاً في سطل الماء، ومنهم من يثبّتها في بصلة حتى ينصت إلى إذاعة القاهرة بدون تشويش ويستمتع بأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد. أما اليوم فلم يبق هناك من ذوق موسيقي وأصبحت التقليعات الجديدة عبارة عن (عَاذاااوْ) مُنظمة". ويشير العربي إلى أن "تعلم حرفة الدّرازة يشبه دقّ المسمار، فكلما ضربته على رأسه إلا ونفذ في الجدار.. وإذا اعوجّ تقوم بتمديده على الأرض وتضربه في الوسط ليستقيم، وبعد ذلك إذا أعدته إلى مكانه وجد طريقه بسرعة داخل الجدار.. هكذا هو تعلم هذه الصنعة!! ".