نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/14- الشك المنهجي في فلسفة ديكارت من السهل اليوم على كل متعلم، مهما تواضع نصيبه من العلم، أن يردد مقولة الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت (1596-1650) المعروفة: أنا أفكر إذا أنا موجود. لكن يبقى من العسير جدا أن يتمكن من إخضاع قدراته العقلية للعمليات الذهنية التي اختبرها ديكارت قبل أن يتوصل إلى صياغة هذه المقولة المشهورة. قال ديكارت: "علينا أن نحكم أحكاما ثابتة وصحيحة على جميع الأشياء التي تعرض علينا"، مشيرا بذلك إلى ضرورة الانكباب على دراسة سلوك التفكير لاستكناه جوهره. وهذا ليس بالشيء الهين لأنه يتطلب التعرف على الذات بصفة عامة في نفس الوقت الذي يقوم فيه العقل بإجراء تمارين قصد اكتشاف الذات العقلية بصفة خاصة. ويعد ديكارت من رواد فلسفة العصر الحديث والمؤسس الأول للهندسة التحليلية، وقد أصبحت فلسفة ديكارت في التاريخ المعاصر عنوانا لأهم مقومات الهوية الفكرية الفرنسية إلى حد الشوفينية، كما أنها تعد نموذجا لعقلانية الحضارة الغربية عموما. كان ديكارت معاصرا لفرنسيس بيكون، والفيلسوفان يلتقيان في جملة من الاعتبارات المنهجية، ومنها نبذهما للفلسفات القديمة والمذهب السكولاستيكي تحديدا. وكانت لديكارت لقاءات مباشرة مع هوبز ولكن غير معروف من منهما أثر على الآخر. أما بيكون فقد كان يعتمد على المنهج التجريبي في بلورة ودعم تفكيره الفلسفي كما رأينا في المقال السابق، بينما يبدو أن ديكارت كان يعتمد على مذهب ذي اتجاهين: اتجاه مادي في أبحاثه العلمية الصرفة، واتجاه مثالي في أبحاثه الميتافيزيقية، ويمكن إجمال الديكارتية في العبارة التالية: من أجل الوصول إلى الحقيقة على المرء أن يتخلى عن كل الآراء التي تلقاها أو تكونت لديه، بعد ذلك عليه أن يشرع في بناء أنساقه المعرفية انطلاقا من أسس جديدة تعتمد التدرج من البسيط إلى المركب. عناصر المنهجية الديكارتية ينبني الفكر الديكارتي الفلسفي على ثلاثة محاور: 1 - البحث عن قاعدة علمية بهدف الوصول إلى معرفة يقينية لا تقل مصداقية عن مصداقية العلوم الرياضية، 2 - التطبيق لهذه المعرفة العلمية اليقينية تطبيقا علميا من أجل السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لفائدة الإنسان، 3 – وضع إطار ميتافيزيقي للنظر في المشاكل القائمة بين العلم والدين، وبالتالي تحديد العلاقة بين هذا العلم والله. وأما أسلوب التحليل المعتمد في التعامل مع الإشكاليات التي تطرحها هذه المحاور، فإنه أسلوب تتلخص عناصره في تعريف التحليل: "التحليل -عند ديكارت- هو طريق يبدأ مما نبحث عنه كما لو كنا سلمنا به ويؤدي هذا الطريق بواسطة النتائج المستخلصة إلى شيء يسلم به فعلا. إننا في التحليل، بتسليمنا بما هو مطلوب، نسعى إلى معرفة ما عسى أن يستنبط هذا المطلوب منه، ثم ماذا يستنبط من هذا الأخير، حتى نجد، بهذا السير إلى الخلف، شيئا معلوما أو مبدأ من المبادئ. وطريقة السير هذه نسميها "التحليل" أو "الحل" وكأننا نعني بهذا: الحل في اتجاه عكسي". ولكون ديكارت شغوفا منذ أقسامه الدراسية الأولى بالمنطق في الفلسفة بتحليل القدماء وجبر المحدثين في الرياضيات، فقد جاء أسلوب صياغة أرائه الفلسفية متميزا بعناصر هذه الخلفية المعرفية الناجمة عن طبيعة تكوينه. لقد أرسى ديكارت بناء منهجه العلمي على قاعدة من أربع نقاط التي عرضها كالتالي: - الأولى هي ألا أقبل أي شيء على أنه حقيقة إلا إذ تبين لي أنه كذلك بيقين: على أن أتجنب الاندفاع واستباق الحكم وألا أدرج في أحكامي إلا ما يتجلى لعقلي بوضوح بحيث لا تسنح لي أية فرصة لوضعه موضع الشك. - الثانية هي أن أقوم بتقسيم كل واحدة من الصعوبات التي أفحصها إلى الأجزاء التي يمكن أن تقسم إليها والتي أحتاج إليها من أجل حلها على أحسن وجه. - والثالثة هي أن أسوق أفكاري وفقا لترتيب محكم، وذلك بالابتداء بالأمور الأكثر بساطة، وسهولة في المعرفة لأصعد منها شيئا فشيئا ودرجة فدرجة حتى أبلغ معرفة الأمور الأكثر تركيبا، مفترضا وجود ترتيب حتى بين تلك التي لا يسبق بعضها بعضا بالطبع. - والرابعة هي أن أقوم بإحصاءات تامة ومراجعات عامة على نحو أتأكد معه أنني لم أغفل شيئا. ويتضح جليا من هذا التسلسل المنطقي في تناول الحقيقة كغاية وكوسيلة في نفس الآن، أن ديكارت يركز على عنصري الوضوح والتمييز تسهيلا لوظيفة العقل في التحليل، والأشياء تكون واضحة ومتميزة متى " كانت من البساطة بحيث لا يستطيع العقل أن يقسمها إلى أشياء أقل بساطة". وهذه هي الشروط الموضوعية في بناء المعرفة العلمية عند ديكارت، على أن هذا البناء لا يتم إلا بصفة تدريجية من البسيط إلى المركب. وبصفة إجمالية يمكن القول إن العناصر المذكورة لا تختلف جوهريا عما تمت الإشارة إليه عند بيكون مثلا، وحتى في الفلسفات القديمة إجمالا. لكن تبقى فائدتها في صياغتها التركيبية وفي لفت النظر إلى ضرورة التركيز بوضوح على القاعدة المنهجية المتبعة مهما كانت بسيطة أو معرضة للتكرار، وهذه الطريقة تعد منهجا في حد ذاته لأنها تعطي تفاصيل عن طريق السير الذي يتبناه العقل في معالجته لمسألة المعرفة، وفي ذلك توضيح لديكارت :"ما أفهمه من المنهج هو أنه مجموعة من القواعد اليقينية السهلة، التي بالمراعاة الدقيقة لها يتيقن المرء أنه لن يحسب الباطل حقا وأن يصل إلى المعرفة الصحيحة بكل ما هو قادر عليه، دون أن يبدد جهود عقله في غير طائل عوض جعل معرفته في تقدم مستمر". ونظرا لعموميتها فإن منهجية ديكارت صادفت تهكم ليبنتس الذي قال عنها: "إنها تشبه تعليمات خيماوي: خذ ما تحتاج إليه، وأفعل ما عليك أن تفعله، هناك تحصل على ما تريد". إلا أن ديكارت نفسه كان واعيا بطبيعة المنهج الذي وضعه خصوصا ليسترشد به هو نفسه، وفي ذلك قوله: «ليس غرضي هاهنا أن أعلم المنهج الذي ينبغي على كل امرئ إتباعه من أجل اقتياد عقله على النحو الصحيح، بل فقط أن أبين الطريق الذي سلكته أنا لإرشاد عقلي". وظيفة الشك المعرفية تمكن ديكارت من سبر أغوار الشك ليخرج منه بيقين علمي وثبوت منهجي. بمعنى أنه استطاع من جعل الشك بداية للمعرفة ولم يستسلم للشك كعامل إحباط. ففي تأملاته وقف ديكارت عند ملاحظة كان الشك مركزها: "مضت عدة سنوات منذ أن لاحظت أن كثيرا من الأشياء كنت أعتقد إبان شبابي أنها صحيحة، ولاحظت أن الشك يعتور كل ما أقمته على أساس هذه الأمور الباطلة، وأنه لابد أن تأتي لحظة في حياتي أشعر فيها بأن كل شيء يجب أن يقلب رأسا على عقب تماما وأن أبدأ من أسس جديدة، إذا شئت أن أقرر شيئا راسخا وباقيا". ومن هنا يبدأ العقل في امتحان عسير متنقلا بين ضفتي الشك واليقين، باحثا عن النجدة والاستقرار اليقيني النهائي، ويضيف ديكارت: "لكن من يدريني لعل هناك شيئا مختلفا عن تلك الأشياء التي حسبتها غير يقينية، شيئا لا يمكن أبدا الشك فيه؟ ألا يوجد إله أو قوة أخرى تصنع في عقلي هذه الأفكار؟ لكن هذا ليس بضروري، فلربما كنت قادرا على إنتاجها بنفسي وأنا على الأقل لست شيئا؟ لكنني قد سبق لي وأنكرت بيد أني مع ذلك أتردد، إذ ما الذي ينجم عن هذا؟ هل أنا أعتمد على جسمي وحواسي إلى درجة أنني لا يمكن أن أكون شيئا بدونهما؟ ويستمر ديكارت طويلا في هذه المساءلات الذاتية-الموضوعية، إلى أن يستخلص أنه موجود، لكن من هو؟ "أنا شيء يفكر: لكن ما هو الشيء الذي يفكر؟ إنه شيء يشك ويفهم ويتصور، ويقرر، وينفي، ويريد أو لا يريد، ويتخيل أيضا ويحس، ولا شك أن هذا ليس بالأمر القليل، وكل هذه الأمور تنتسب إلى طبيعتي". فالذي يشك لا شك أنه يفكر بالضرورة، وحتى إذا كان يشك في أنه يفكر فإن هذا الشك يرغمه بدون شك على التفكير: أنا أفكر إذا أنا موجود! هذه هي الخلاصة الديكارتية بعد مسار الشك المنهجي. ومع ذلك يبقى هذا الموجود ناقصا لأنه كائن يشك، فلا بد إذا من ضمانة لهذا اليقين الذي توصل إليه ديكارت، على أساس أنه بدون اليقين لا يستطيع العقل أن يشك، ومن هنا يتطرق ديكارت لفكرة "الوجود الناقص" و "الدليل الوجودي" لتقوده إلى فكرة "الوجود الكامل" وهو الله. وفي ذلك قوله: «فكرة موجود كامل ومستقل، أعني فكرة الله، تتجلى لعقلي بدرجة من التميز والوضوح. وبمجرد كون هذه الفكرة توجد في نفسي وفي كوني أنا أكون أو أوجد، بمعنى أنا الذي أمتلك هذه الفكرة، فإنني أستنتج بجلاء أن الله موجود، وأن وجودي يتوقف عليه توقفا تاما في كل لحظات حياتي، بحيث لا أعتقد أن العقل الإنساني يمكن أن يتصور فكرة أشد منها بينة ويقينا، ويبدو لي أني وجدت طريقا بهذا سيقودنا من هذا التأمل لله الحق، الذي يحتوي على كل كنوز العلم والحكمة، إلى سائر الأشياء في الكون". ومن المقولات المشهورة لديكارت أن المنطق السليم هو أعدل الأشياء توزيعا بين الناس. والدليل على ذلك هو أن كل فرد يعتقد أنه نال منه ما يكفيه. وهذه إشارة في الواقع إلى وحدة العقل عند بني البشر، ومنها إلى ضرورة حسن استعماله... *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]