بعد إحجام الباطرونا، ممثلة في الاتحاد العام للمقاولين المغاربة، عن الاندماج في المعترك السياسي لفترة طويلة امتدت طيلة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن ال20؛ ولوجت المعترك السياسي بشكل تدريجي، وذلك منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. في مواجهة الباطرونا الأوربية، وخاصة الفرنسية، سارع رجال الأعمال المغاربة الذين كونوا ثروات في ظل الحماية الفرنسية إلى الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية التي أصبحت مهددة من طرف السياسة المنتهجة من طرف سلطات الإقامة العامة؛ فمساندة هذه الأخيرة لمصالح الباطرونا الفرنسية التي كانت تحتكر كل القطاعات الاقتصادية، بما فيها قطاع الاستيراد والتصدير، وتحكم المعمرين في المجال الفلاحي، وسيطرة المقيمين الفرنسيين على كل دواليب الإدارة، دفع بشرائح البرجوازية المغربية الصاعدة إلى تشجيع الحركة الوطنية من خلال تمويل حزب الاستقلال، خاصة بعدما اقتنعت بالمساندة السياسية التي كان يحظى بها من طرف القصر. وهكذا كان حزب الاستقلال يتلقى عدة تمويلات من طرف رجال الأعمال المغاربة، كمحمد الغزاوي مثلا، بالإضافة إلى مجموعة من التجار السوسيين، وكذا التجار الفاسيين. لكن بعيد الاستقلال، ورغم التعاطف الذي كان لبعض رجال الأعمال مع بعض الأحزاب، واستمرار تمويل شرائح من الباطرونا لها، كتمويل البرجوازية السوسية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مقابل تمويل البرجوازية الفاسية لحزب الاسقلال؛ فقد فضلت الباطرونا عدم الانغمار في المجال السياسي، نظرا لما كان يحدق بذلك من مخاطر قد تضر بمصالحها الاقتصادية. كما أن رهان القوة الذي قام بين القصر وحزب الاستقلال، ثم بينهما وبين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، جعل شرائح الباطرونا تحجم عن المشاركة في اللعبة السياسية التي تميزت بالأساس بالصراع الحاد حول السلطة؛ فاكتفت بعض الشرائح بالتحالف مع الحكم للاستفادة من الامتيازات والتسهيلات التي كان يغدقها، وكذا من المناصب الحكومية أو الإدارية التي قلدها لبعض رجال الأعمال. وهكذا أسند على سبيل المثال للغزاوي منصب المدير العام للأمن الوطني؛ وحصل محمد كريم العمراني على إدارة المكتب الشريف للفوسفاط (قبل أن يتقلد الوزارة الأولى عدة مرات...). أما شرائح أخرى من هذه الباطرونا فاكتفت بتمويل بعض الأحزاب، كحزب الاستقلال وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، دون أن تفكر في المشاركة أو الانخراط في إدارة أو تسيير هذه الأحزاب. وهكذا حرصت الباطرونا ممثلة في الكنفدرالية العامة للمقاولين المغاربة (CGEM) طيلة ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أن تبقى بعيدة عن المعترك السياسي، وفضلت الدفاع عن مصالحها من خلال أساليب تشبه إلى حد ما الأساليب المنتهجة في طرف اللوبيات. وقد تجلى ذلك بالخصوص من خلال: مساندة مختلف الأحزاب السياسية المغربية إما من خلال التمويل أو من خلال انتماء بعض الأعضاء شخصيا إليها. الضغط على الحكومة، خصوصا أثناء تقديم قوانين الميزانية، وذلك لإدخال تعديلات على هذه القوانين تساير مصالح الباطرونا. الضغط على اللجان البرلمانية من أجل تعديل أو إلغاء قوانين لا تساير مصالح الكونفدرالية. الضغط على الفرق البرلمانية، خصوصا أثناء مناقشة قانون الميزانية. وقد بقيت الكنفدرالية ملتزمة بهذا الدور طيلة فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وحتى منتصف التسعينيات من القرن 20. ولعل تشبت الكنفدرالية بهذا الدور يرجع بالأساس إلى عدة عوامل من أهمها: أولا: حساسية النظام من مشاركة الباطرونا في اللعبة السياسية، وبالأخص مساندة أحزاب المعارضة. ثانيا: استفادة الباطرونا من الحماية الاقتصادية التي كانت توفرها لها الدولة من خلال الترسانة القانونية، والتي تمثلت خاصة في القوانين الجمركية وقانون المغربة. دخول الباطرونا إلى المعترك السياسي في بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأت الباطرونا تستعد لدخول المعترك السياسي، إذ بدت إحدى بوادر هذا الاستعداد خاصة في دعوة الكنفدرالية أعضاءها إلى التصويت بنعم على المراجعة الدستورية ل 13 سبتمبر 1996. إذن فما هي أسباب هذا التحول والمظاهر التي طبعته؟. 1 – أسباب التحول لقد ساهمت مجموعة من العوامل في دخول الباطرونا المعترك السياسي واستعدادها للانغماس في اللعبة السياسية. وتتلخص أهم هذه العوامل في المسائل التالية: - العوامل الاقتصادية إن العولمة التي اكتسحت مختلف الاقتصاديات الوطنية حطت برحالها في المغرب متحبسدة في اتفاقية "الكاط" التي تم التوقيع عليها بمراكش في أبريل 1994. وإذا كان اختيار مراكش كمكان للتوقيع على هذه الاتفاقية قد منح للمغرب سمعة دولية، فإنه حرك كل تخوفات الباطرونا وجعلها تدرك أن العولمة وصلت إلى عقر دارها، وأن الحماية التي كانت توفرها لها الدولة في طريقها إلى الزوال. ومما زاد من ترسخ هذا الشعور دخول المغرب في مفاوضات مع السوق الأوربية المشتركة، انتهت بالتوقيع على اتفاقية للتبادل الحر في 26 فبراير 1996. وتتلخص هذه الاتفاقية عدة مقتضيات من أهمها: التخفيض التدريجي للرسوم الجمركية فتح السوق الوطنية للاستثمارات الأوربية إلغاء التفضيلات التجارية والجمركية التي كانت تمنحها أوربا للمغرب الشراكة وهذه المقتضيات وغيرها، والتي ستدخل حيز الوجود بعد مرحلة انتقالية تتراوح بين 10 و12 سنة، فرضت على الباطرونا أن تعمل على تعبئة كل قدراتها وإمكانياتها لمواجهة الدول الأوربية من جهة، وتنافسية الدول الأسيوية التي ستستغل هذه الاتفاقية لمنافسة الصادرات المغربية الموجهة، وبالتالي دخول المعترك السياسي والتأثير في البيئة الاقتصادية سواء في ما يتعلق: بتجديد الترسانة القانونية من خلال إصدار قانون للشركات ومدونة الشغل... توسيع الهيئة القضائية، وذلك من خلال إنشاء محاكم إدارية، محاكم تجارية ومحاكم مالية وغيرها. خلق مناخ اقتصادي ملائم يتمثل في خلق بورصة للقيم المنقولة والتخفيض من سعر الفائدة... تطوير البنية التحتية بتوسيع الشبكة الطرقية وتحرير الملاحة الجزية وتقوية شبكة الاتصالات والمعلوميات... - عدم فعالية الغرف المهنية من المعروف أن الغرف المهنية المتمثلة في غرف الفلاحة والصناعة التقليدية شاركت في مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي عرفها المغرب، فقد شكلت منذ البداية إحدى الدعائم الرئيسية التي كانت تعتمد عليها الأحزاب في التموقع داخل الساحة السياسية، وأحد السبل في الوصول إلى البرلمان والحكومة. لذا فبقدر ما كانت تبتعد الباطرونا عن ولوج المعترك السياسي، ارتمت الغرف المهنية في أحضان اللعبة السياسية، ما جعلها في نظر الباطرونا تعجز عن الاضطلاع بدور اقتصادي فعال. وتجسد ذلك على الخصوص من خلال عدة مظاهر، من أهمها: تبعية هذه الغرف أو بالأحرى رؤسائها للأحزاب. عدم تحول هذه الغرف إلى مؤسسات اقتصادية فعالة تعنى بتطوير الاقتصاد الوطني والمطالبة بإصلاح دواليبه. تقوقع هذه الغرف في الدفاع عن مصالح مهنية وقطاعية محددة ومحدودة حالت دون امتلاك نظرة اقتصادية شمولية. ومما يؤكد النظرة الانتقادية للباطرونا للدور الذي تلعبه هذه الغرف رفض الكونفدرالية تمثيلها البرلماني من خلال مجالسها، مفضلة في حالة انتخاب مجلس المستشارين أن تمثل من خلال هيئة خاصة بها. بالإضافة إلى ذلك فإن الكنفدرالية غالبا ما وجهت انتقادها للغرف المهنية من خلال: انتقادا الحصيلة البرلمانية لتجربة هذه الغرف داخل مجلس النواب. انتقاد طريقة انتخاب أعضاء هذه الغرف، إذ من غير المقبول، يقول أحد رجال الأعمال، الاهتمام بالبحث عن أرباح مهنية، لأن ذلك يقوض قواعد اللعبة الديمقراطية ويفتح المجال لكل التلاعبات الانتخابية. الدستور الحالي، إذ إن الفصل 86 يشدد على أن جميع القوانين التنظيمية يجب أن ترى النور قبل الولاية التشريعية الحالية، التي لم يتبق منها سوى ثلاثة أشهر. نحن بحاجة اليوم إلى الوضوح في العلاقات التعاقدية بين أرباب العمل والأجراء، لذا كان لا بد من التعجيل بوضع مقترح القانون التنظيمي للإضراب، وهو ما حفز النقابات على وضع مقترحها، والحكومة على إيداع مشروعها في هذا الشأن، ما يعني أن “الباطرونا” استطاعت خلق دينامية تشريعية مهمة داخل قبة البرلمان، وأضفت على الحوار بين الحكومة ومجلس المستشارين جدية كبيرة. الترحال وانحراف عن العمل السياسي كان تخوف إدارة الاتحاد العام لمقاولات المغرب، ذلك أننا سجلنا حالة لأحد ممثلينا الذي دخل المجلس عبر بوابة “الباطرونا”، قبل الالتحاق بحزب سياسي، وهو الأمر الذي اعتبره الاتحاد انحرافا في العمل السياسي، وهو المشكل الذي سيتصدى له مستقبلا، لضمان عدم تكراره، من خلال تزكية بشروط خاصة، وهو الأمر الذي أحدث شرخا في التمثيلية البرلمانية للاتحاد، إذ تقلص العدد من ثمانية مستشارين إلى سبعة، إلا أنه لحسن الحظ تم تصحيح الوضع واستكمال الفريق بعنصر آخر بدون تمثيلية سياسية. يتعلق الأمر بالمستشار عمر مورو، الذي انسحب من الاتحاد الاشتراكي خلال وقت سابق، ويترأس الغرفة التجارية بطنجة. ويظل الباب مفتوحا أمام السيناريوهات السوداء، في حال استمرار نقص التمثيلية، ذلك أنه لو لم نتدارك الأمر لاستحال على فريقنا البرلماني ترؤس لجنة الفلاحة والقطاعات الإنتاجية، وكذا نيابة رئيس المجلس، التي حازتها المستشارة نائلة التازي، إضافة إلى امتيازات المكاتب وموظفين دائمين. الباطرونا وغياب غياب المشروع المجتمعي رغم انغمار مكونات الباطرونا في المعترك السياسي، سواء من خلال القناة البرلمانية أو القناة الحكومية، فقد بقيت مع ذلك متقوقعة في الدفاع عن مصالحها الذاتية، دون امتلاك مشروع مجتمعي أو سياسي بديل. غير أن كل هذا يبقى ثانويا عندما يتعلق الأمر بجرد حصيلة الباطرونا المغربية. أما ما ليس ثانويا فهو فشل الاتحاد العام لمقاولات المغرب في الدفاع جوهريا عن مصالح الاقتصاد الوطني، فالاتحاد غائب، وصوته غبر مسموع في النقاشات التي تصب في الجوهر، من قبيل مكافحة اقتصاد الريع الناتج عن إمكانية حيازة العقار مثلا. إن المقاولة تتضرر في بلد لا يطبق فيه القانون على الجميع بنفس الشكل، وهذا واقع لا يقف الاتحاد العام لمقاولات المغرب ضده بالقدر اللازم. ما هي الاقتراحات التي تقدمها الهيئة حول تقادم نموذجنا الاقتصادي، مع تواتر الانتقادات الموجهة له في العديد من المناسبات؟