من أبرز أعطاب عقلنا السياسي أنه في عمومه عقل انتخابي، يفكر في السياسة ويمارسها بخلفية انتخابية، أو انتخابوية صرفة، مهما حاول إخفاءها ومداراتها، فإنها سرعان ما تظهر وتطفو، لا سيما قبيل إجراء انتخابات جديدة. خطورة هذا العقل السياسي الإنتخابي أنه عقل لا يشتغل، ولا يهمه أن يقدم شيئا على وجه الحقيقة، لأنه مشغول بحساب الأصوات، عن بعد، ومهووس بضبط كثلة الناخبين. العقل الانتخابي، في عمقه عقل مستقيل، لا يشتغل إلا لحظة واحدة، ولصالحه، هي لحظة الانتخابات، وبالضبط لحظة الإعلان عن النتائج واطمئنانه على ممتلكاته السياسية، وعدد كراسيه. نتساءل كثيرا لماذا لا تتغير أحوالنا؟ لماذا بعد كل انتخابات نجريها يواجهنا الواقع نفسه وتهاجمنا الطقوس ذاتها والحفر عينها على الطرقات، والوجوه والكلمات وظروف الاستقبال في المستشفيات نفسها، والمذلة والانتظار في الإدارات ذاتهما، والمواعيد في القطارات نفسها، والمستوى ذاته من النقاش العمومي؟ إنهم يدبرون الانتخابات ولا يدبرون البلد، وإلا كيف يعقل أن نتحدث عن الانتخابات على بعد عامين أو ثلاثة من إجرائها. إن طغيان الهاجس الانتخابي يعني مباشرة ارتفاع السياسة بمعناها النبيل، وحضور الغنيمة بمعناها البخس والقبيح، ومن ثم، فكل حديث عن تخليق الحياة العامة، وعن المشروعية، يتحول إلى مجرد ثرثرة على الضفاف. هكذا هو عقلنا السياسي، وهذا أحد أعطابه الرئيسة، وهذا هو السر في عدم قدرته على الإنتاج، لا على المستوى الرمزي والفكري، ولا على المستوى المادي والواقعي، فالذي يخاف على نفسه وجماعته، لا يمكن أن يقدم شيئا للآخرين، والذي يفكر في رصيده الذاتي، لا يمكن أن يفكر في رصيد الوطن. حين يتحول التفكير في السياسة إلى أرقام ولوائح وبحث عن التكاثر فقط، يضيع المعنى، المعنى الكبير والعميق والعلمي للسياسة، عند منظريها وممارسيها الكبار. يسهل كثيرا أن نلاحظ، أن معظم جهود المشتغلين بالسياسة في بلادنا، وجل نقاشاتهم مسكونة بالهاجس الانتخابي الإنتخابوي، وهذا هو السر في ميلهم إلى كثرة الكلام ورفع الأصوات، وفي عدم قدرتهم على طرح بدائل قوية وواقعية، وبلغة علمية دقيقة وهادئة. العقل السياسي عندنا عقل انتخابي، انتخابوي صرف، حتى إشعار آخر، هذا كل ما في الأمر، وكل البقية مجرد تفاصيل، لا أقل ولا أكثر، وبالطبع، المدبرون الكبار يعرفون هذا جيدا.