مراوغة جميلة، تمريرة حاسمة، هدف رائع، نجوم سطعوا في سماء الكرة المستديرة، بيليه، مارادونا، كرويف، مولر، زيدان، رونالدو، دي ستيفانو، ميسي، كريستيانو وآخرون، جميعهم أثثوا لصور ومشاهد ظلت راسخة في ذهن الصغير والكبير عبر التاريخ... كرة القدم هي ذلك السحر الذي شغل بال العالم من المواطن البسيط إلى أصحاب السلطة، تروح عن أشخاص وتربح أشخاصا آخرين، ومهما كانت الاستفادة فهي للاستمتاع والإمتاع. من منا لم يقم يوما بتقليد أحد اللاعبين؟ من منا لم يشتر أو يرتدي قميص فريقه المميز؟ من منا لم يصفق يوما للوحة فنية قام بها اللاعبون على البساط الأخضر؟ من منا لم يضحك تارة ولم يبك تارة أخرى سواء لفوز فريقه أو لهزيمته؟ الأكيد أن كرة القدم في حد ذاتها مجرد وسيلة خلقت لكي تجعل حياتنا أكثر سعادة، تثير الإعجاب في كل أنحاء المعمورة وتوحد الجميع حولها. مقولة رئيس نادي براد فورد سيتي السابق ستافورد هيجينبوثا "كرة القدم هي الأوبرا التي يعزفها البشر جميعا".."أغبياء أولئك الذين لا يحبون كرة القدم إنها مثل القصة والرواية "، الروائي والشاعر الإنجليزي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل ت.س إليوت..آراء تفيد بجمالية كرة القدم ومكانتها عند مختلف شرائح المجتمع. الإشكالية المطروحة هي أن كانت كرة القدم خلقت لأجل العشق والحب والتمتع والترويح عن النفس، فلمذا نشاهد أحداث ضرب وتكسير وتخريب؟ أحداث شغب لم تستثن أي بلد وليست حكرا على هذه الدولة دون أخرى، أحداث تقلب موازين الفن والجمال اللذين يميزان هذه الرياضة أكثر من غيرها. إشكالية الشغب ليست وليدة اليوم أو حتى السنوات الأخيرة، ففي إنجلترا، ومع نهاية القرن التاسع عشر، جراء بدء ظهور الأندية في بريطانيا، نشأت ظاهرة الهوليغانز، إذ شهدت الملاعب عدداً من الأحداث المأساوية والدامية والاعتداءات الجسدية التي استهدفت حكام المباريات وحتى المشجعين. وتعني كلمة "الهوليغانز" باللغة الإنجليزية المشاكس أو العنيف.. نشأت على شكل عصابات تشجع الفرق الإنجليزية، من أبرزها عصابة تطلق على نفسها اسم "ذا هيرد" لنادي أرسنال، وأخرى أعلنت أنها "الجيش الأحمر" للشياطين الحمر نادي مانشتر يونايتد... يقومون باقتحام الملاعب والتهجم على اللاعبين والمشجعين. بدأت الظاهرة خلال كأس الاتحاد الإنجليزي سنة 1974 ثم سنة 1975 في نهائي دوري أبطال أوروبا على ملعب "الأمراء" في باريس. وكان الهوليغانز يفسدون في الملاعب، إذ يقومون بتكسير المقاعد وتخريب التجهيزات، بل يستكملون ذلك في المدينة ويخربون الملك العام والمنشآت والممتلكات الخاصة. على المستوى العربي، من الأمثلة على ظاهرة شَغب الملاعب حادثة ملعب أم درمان بين المنتخبين المصري والجزائري في مباراة الملحق النهائي المؤهلة إلى كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا..إذ إن ما قامت به بعض وسائل الإعلام من تصوير ورواية أحداث وتفاصيل لم تحدث ساهمت بشكل كبير في حدوث الشغب. هذا الشغب يعود بالتأثير السلبي سواء على البلدان أو حتى الأفراد، سواء على المستوى المادي أو الجسدي، وحتى المعنوي والنفسي، ما حتم على العديد من الدول والهيئات والمنظمات اتخاذ إجراءات قانونية وزجرية للحد من هذه الظاهرة. ولكن هل هذا التدخل كان فعالا للحد من الخسائر والأضرار؟. بدأت أولى الإجراءات تطفو على السطح ابتداءً من سنة 1985، حيث هاجم الهوليغانز الإنجليز آنذاك مشجعي نادي السيدة العجوز في ملعب هيسيل في بلجيكا في نهائي دوري أبطال أوروبا بين ناديي ليفربول الإنجليزي ويوفنتيس الإيطالي، وهو ما اضطرهم إلى الهروب، ما تسبب في سقوط أحد الجدران ومقتل 32 مشجعاً وإصابة آخرين. مباشرة بعد هذه الأحداث المؤسفة قام الاتحاد الأوروبي باتخاذ قرار منع الفرق الإنجليزية من المشاركة في البطولات الأوروبية لمدة خمس سنوات، وإيقاف نادي ليفربول لست سنوات، وأيضا تهديد الفرق الإنجليزية بعقوبات أشد قسوة، ودعوة السلطات الإنجليزية إلى اتخاذ إجراءات ضد هؤلاء المجرمين. آنذاك جاء رد مجلس العموم في بريطانيا سريعا، إذ تم اعتماد قانون شغب الملاعب الذي سنته مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك، فتم منع المشاغبين من دخول الملاعب إلى الأبد، وحبس من يقوم بأحداث شغب مدة تتراوح بين ستة أشهر وخمس سنوات. ويجرم هذا القانون كل من يقوم برفع لافتات تدعو إلى التعصب والعنصرية أو يدعو إلى أعمال الشغب، كما يسمح بتفتيش كل المشجعين عند مداخل الملاعب. المغرب لم يكن استثناء في أحداث الشغب التي أصبحت سلوكا يلازم المشهد الرياضي بل ويمتد إلى المجتمع؛ وبالتالي كان لزاما اتخاذ العديد من الإجراءات الاستباقية للحفاظ على الملك العام والخاص والدفاع عن سلامة المواطنين؛ فالتصدي لشغب الملاعب يستوجب تفعيل القرارات وتنزيل الإجراءات والقوانين، فمثلا القانون 09-09 الذي قام بتعديل وتتميم القانون الجنائي كفرع ثان مكرر في الباب الخامس منه، والمتعلق بالجنايات والجنح ضد الأمن العام، معنون بالعنف المرتكب أثناء المباريات أو التظاهرات الرياضية أو بمناسبتها من خلال الفصول من 308-1 إلى 308-19 لردع المشاغبين وتجريم مجموعة من الأفعال، وأيضا سن الجزاء. وبالنظر إلى هذا القانون 09-09 يمكن القول إن نطاق تطبيقه لا يقتصر فقط على الملاعب، بل أيضا الأماكن العمومية، التي تقوم ببث المباريات، كما هو الشأن بالنسبة للمقاهي، أو محطات المسافرين أو وسائل النقل العمومي أو الساحات العمومية. كما أن هذا القانون لم يتوقف عند المشجعين أو المشاهدين فقط، بل شمل أيضا الرياضيين والأشخاص الموكول لهم تنظيم التظاهرات الرياضية. إن أي جريمة في القانون الجنائي تقوم على توافر ثلاثة أركان أساسية، هي الركن المادي والركن المعنوي وأيضا نص القانون؛ ما يعني أن الجريمة لا تقوم مع غياب أحد الأركان. لكن وبالنظر للقانون 09-09 من خلال الفصل 308-6 فإن النية الإجرامية قائمة لدى المشاغبين في التظاهرات الرياضية: "دون الإخلال بالمقتضيات الجنائية الأشد، يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وبغرامة من 1200 إلى 20000 درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، كل من ألقى عمدا أثناء مباريات أو تظاهرات رياضية على شخص آخر أو عدة أشخاص أو على مكان وجود الجمهور أو اللاعبين، أو داخل الملعب أو الحلبة أو المضمار الرياضي، أحجارا أو مواد صلبة أو سائلة أو قاذورات أو مواد حارقة أو أي أداة أو مادة أخرى من شأنها إلحاق ضرر بالغير أو بالمنشآت، أو قام بأعمال عنف من شأنها الإخلال بسير مباراة أو تظاهرة رياضية، أو منع أو عرقل إجراءها بأي وسيلة كانت". ويتبع في باقي الفصول. رغم اتخاذ الدول إجراءات زجرية وردعية في حق المشاغبين فإن الظاهرة لازالت تلزم التظاهرات الرياضية، فقد شهدت نهاية المباراة التي جمعت بين المولودية الوجدية وضيفه نهضة بركان، برسم مؤجل الدورة 16 من البطولة الوطنية الاحترافية لكرة القدم، أحداث شغب خطيرة، إذ اقتحمت أفواج كبيرة من الجماهير أرضية ملعب وتم اعتقال 42 شخصا من طرف السلطات الأمنية التي تدخلت في الوقت المناسب قبل تطور الأمور، ما انعكس سلبيا على الرياضة بصفة عامة وكرة القدم بصفة خاصة، وكذلك حجم الخسائر الجسدية والمادية التي ناهزت حسب التقديرات الأولية 670 ألف درهم. أيضا، وبمناسبة كأس العالم الأخيرة بروسيا، وحسب صحيفة بريطانية، فإن صفحات الهوليغانز الروسيين على مواقع التواصل الاجتماعي توعدت المشجعين بنشر فيديوهات وصور دموية تظهر ما تقوم به مجموعاتهم للفرق المنافسة، ما نتج عنه تخوف كبير لدى الجماهير، لكن اتخاذ الجهات المنظمة لعدة إجراءات أمنية ووقائية ساهم إلى حد كبير في أن تتم التظاهرة على أحسن ما يرام. وبالتالي فحل هذه الآفة لا يقتصر على الزاوية الأمنية أو الزجرية، بل يحتاج إلى إطلاق برامج بعيدة الأمد للتوعية والتأطير ودراسات اجتماعية ونفسية في أوساط الجماهير وتحليل المجالات المرتبطة بالتظاهرات الرياضية ومواصلة تشجيع الاستثمارات وتأهيل المنشآت الرياضية، وإشراك كافة المتدخلين في البحث عن سبل لإرجاع المادة الفنية إلى أصلها وهدفها الأسمى وتحسين ظروف استهلاكها. *طالب باحث في ماستر التواصل السياسي.