بينما كان أصدقاؤه وزملاؤه يستعدون لتقديم كتابه في معرض الكتاب بالدارالبيضاء الخميس الماضي، غادر عبد الرحمن عاشور، المدير السابق للإذاعة الوطنية، إلى دار البقاء بعد معاناة مع المرض لم تمهله وقتاً أطول، ما حول مناسبة توقيع كتابه إلى لحظة تأبين للرجل. وكان عاشور فاجأ الوسط الإعلامي بإصدار مذكراته نهاية العام الماضي بعنوان "رجل سلطة بالإذاعة"، يحكي فيها عن مرحلة توليه إدارة الإذاعة المغربية في الفترة الممتدة ما بين 1986 و2003، وهي مرحلة حساسة كانت فيها الداخلية تدبر قطاع الإعلام تحت عهد إدريس البصري. رأى الراحل عاشور شهر نونبر من عام 1952 بمدينة جرادة، وحصل على الإجازة في العلوم السياسية، وعمل بالإدارة المركزية لوزارة الداخلية منذ سنة 1975، وفي سنة 1977 عُين بها مُتصرفاً مساعداً، وفي سنة 1986 عين مديراً للإذاعة الوطنية إلى غاية 2003. سنة 2005 غادر الراحل عاشور الوظيفة العمومية في إطار المغادرة الطوعية، لكن سُرعان ما عاد إلى وزارة الداخلية سنة 2006 كعامل مكلف بالاتصال، إلى أن التمس إعفاءه سنة 2015، وأصبح في السنوات الأخيرة خبيراً في الاتصال المؤسساتي، إلى أن وافته المنية وهو في عمر 67 سنة. ويحكي عاشور في كتابه "رجل سلطة بالإذاعة"، الصادر عن دار النشر المغربية، أنه لم يخطر بباله أن يتحول من رجل سلطة تكون في أسلاك وزارة الداخلية إلى مدير للإذاعة الوطنية، من مناخ الانضباط وتنفيذ الأوامر إلى عالم حيث الفن والإبداع. في دار البريهي جمع الراحل بين عالمين متناقضين، الداخلية والإعلام، ففي تلك الفترة كانت تسهر عليهما وزارة الداخلية في شخص إدريس البصري، وإلى حدود كتابته للمذكرات لم يعرف السبب الذي دفع بالمسؤولين إلى تعيينه على رأس الإذاعة الوطنية، إلى جانب رجلي سلطة آخرين. ويحكي عاشور حول أول يوم دخل فيه إلى دار البريهي وسط حي حسان بالرباط ويقول: "في الرابع من يوليوز سنة 1986، دخلت بناية الإذاعة والتلفزة المغربية في مهمة اعتقدت أنها ستدوم مدة قصيرة، لكن الأمر استمر لسنوات عديدة، وكلما اختليت بنفسي كنت أسائلها ما أفعل هنا؟". في تلك الأيام الأولى من دخول رجل السلطة إلى مقر الإذاعة الوطنية، كان طبيعياً أن يظهر التوجس والحذر على محيا العاملين فيها، وخلال 17 سنة أمضاها في هذه الدار، عاش لحظات مريرة وأوقاتاً عصيبة وأيضاً جميلة، كما يصفها في كتابه. خلال السنوات التي قضاها عاشور على رأس الإذاعة الوطنية، لم يدل بأي تصريح ولم يرد على الانتقادات التي طالته، وكان ذلك مرده إلى التعليمات التي تلقاها من الوزير إدريس البصري، وليس من باب العجز أو الخوف؛ لكن هذه الالتزامات جعلته كثيراً يتساءل عن خلفيات إلزام رجال السلطة بابتلاع ألسنتهم وتحويل الإذاعة إلى مؤسسة خرساء. عاشور يشير إلى أن هذا الأمر جعله يستخلص في ما بعد أن "رجال السلطة آنذاك كانوا حطب صراع سياسي بين مواقع القوة في دواليب الدولة، خاصة في فترة حكومة التناوب"؛ لكن ذلك لم يمنعه من القيام بإصلاحات في الإذاعة اعتبرها عميقة. أول مهمة إذاعية كانت أول مهمة إذاعية أشرف عليها عاشور هي الحفلات الرسمية لعيد الشباب، الذي يخلد ذكرى ميلاد الملك الراحل الحسن الثاني، وكان ذلك أربعة أيام فقط من التحاقه بمقر عمله الجديد. وكانت هذه الاحتفالات أقيمت بالمركب الرياضي محمد الخامس بمدينة الدارالبيضاء. في هذه المناسبة، كان الملك الراحل استقبل الرياضيين المغاربة الذين تألقوا في بطولة ألعاب القوى العالمية، وعلى رأسهم سعيد عويطة ونوال المتوكل، إضافة إلى المنتخب الوطني لكرة القدم العائد لتوه من بطولة كأس العالم بمكسيكو، بعد مشاركة مشرفة لكرة القدم العربية والإفريقية. وحين غادر الملك المركب الرياضي، شرعت الإذاعة في النقل المباشر لفقرات السهرة الفنية؛ لكن الفريق الإذاعي قرر وقف نقل السهرة بعد أن أيقن أن الحفل لا يتضمن سوى أغان وموسيقى غربية راقصة لا تصلح للبث على أمواج القناة الوطنية الناطقة بالعربية. لكن مدير الأمن الخاص بالملك الراحل محمد المديوري ألح على عبد الرحمن عاشور مواصلة النقل المباشر للسهرة الفنية، لكنه تلكأ بعض الشيء في الاستجابة لطلبه، قبل أن يلحق به المديوري صارخاً: "سيدنا يأمر بنقل السهرة كاملة"، رددها مرات عديدة، وتم ربط الخط ثانية بمركب محمد الخامس. البحث عن الثقة وغضبة البصري مهمة عاشور لم تكن سهلة، ولذلك جعل ضمن أهدافه البحث عن الثقة لدى العاملين في الإذاعة؛ ولتحقيق ذلك كثف من اجتماعاته مع مسؤولي الأقسام والمصالح الإدارية بشكل مستمر، وكان حينها ينصت ويسجل ويطرح تساؤلات بعضها بديهية، وكان يسعى من خلالها إلى جمع ما أمكن من المعطيات لتسهيل مهمته. بنهجه هذا أصبح عاشور يطلع على العمل الإذاعي برمته بعدما كان لا يعرف شيئاً عن الإذاعة، وبدأ يعد مشروع إصلاح شامل يشمل البنايات والإدارة والوضعية الإدارية والمالية للعاملين، إضافة إلى التجهيزات التقنية في الإذاعة الوطنية. أقر عاشور في كتاب مذكراته بأن أصعب مرحلة عاشها وهو مدير الإذاعة الوطنية هي فترة إدريس البصري، إذ يقول: "هذا الوزير النفاذ الذي كان في أوجه قوته لم يكن رئيسي في قطاع الإعلام فحسب، بل كان في الوقت نفسه رئيسي في وزارتي الأصلية، أي وزارة الداخلية، وبالتالي فأي خطأ أو تصرف في غير محله سيكون بمثابة الضربة القاضية لمساري المهني كرجل سلطة". ويحكي عاشور أن التعامل مع البصري أصبح بالنسبة له شبه مستحيل سنتي 1994 و1995، ذلك أن الرجل لم يعد يتقبل أن تناقش أوامره، ويصفه قائلاً: "أصبح جافاً في تعامله، غير مبال بشعور مرؤوسيه ومساعديه، بل صار مثل لغم قابل للانفجار في أي وقت". وكان البصري يتصل هاتفياً وبشكل يومي بمسؤولي الإذاعة والتلفزة، ويسألهم عن آخر الأحداث الوطنية والدولية ويستفسر عن الأنشطة التي ستقوم الإذاعة والتلفزة بتغطيها ذلك اليوم؛ ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان لا يتردد في الاتصال في أي وقت من الأوقات ليطلع على تقارير قسم الاستماع الذي كان يرصد نشرات أخبار الإذاعات العربية والدولية. كان البصري حاضراً بشكل كبير في جزء لا بأس به من مذكرات عبد الرحمن عاشور، وفي إحدى الفصول يحكي عن "الغضبة البصرية" التي كان سببها عدم بث التلفزة في أحد الأيام من سنة 1986 خبر استقبال الملك الراحل الحسن الثاني لوفد يمثل الجالية اليهودية بمدينة أكادير. والسبب راجع إلى أن الشريط الذي خضع للتوضيب لم يكن جاهزاً للبث، فشرعت التلفزة في بث أغنية عاطفية وأغان وطنية الواحدة تلو الأخرى. وفجأة توقف بث الأغاني الوطنية وقطعت التلفزة برامجها. وجاء هذا القرار من عند الملك بعد أن غضب ومل من انتظار بث استقباله لوفد الجالية، وأمر بتحديد الساعة الحادية عشرة والربع ليلاً كموعد قار لتقديم النشرة الإخبارية المتلفزة الأخيرة. اللائحة السوداء أقر الراحل عاشور في كتابه بأنه لم يمكن بإمكانه أن يطلع على كل البرامج والأخبار التي تبث في جميع القنوات الإذاعية المركزية والمحطات الجهوية، فالإذاعة تبث يومياً 110 ساعات خلال 24 ساعة، ونسبة البث المباشر تصل إلى 72 في المائة في قنوات الإذاعة المركزية و65 في المائة في الإذاعات الجهوية؛ أما إذاعة طنجة فتصل إلى 81 في المائة؛ لكنه كشف أنه تلقى تعليمات حول المواضيع التي يجب تفادي التطرق إليها في النشرات الإخبارية، وهي محصورة في: المعتقلون السياسيون والإضرابات والاحتجاجات في المغرب، والأوضاع الداخلية للجزائر، والأخبار المتعلقة بالجرائم، والتجمعات الحزبية التي تدعو إلى مقاطعة الانتخابات أو الاستفتاءات. لكن هذه التعليمات لم تكن جديدة على العاملين بالإذاعة، فقد تمرسوا، حسب الكاتب، عليها قبل حلوله ببناية دار البريهي كمسؤول جديد، حتى صاروا يحرصون عليها دون أن تصلهم أي توجيهات بشأنها. ولا وجود للوائح سوداء بخصوص الأشخاص الممنوعين من الظهور على الشاشة أو التحدث عبر ميكروفون الإذاعة. العربي المساري ورجال السلطة طيلة تقلد الراحل عبد الرحمن عاشور إدارة الإذاعة الوطنية، عايش وزراء كثيرين بعد انفصال قطاع الإعلام عن وزارة الداخلية، أولهم إدريس العلوي المدغري 1995 و1998، والعربي المساري من 1998 إلى 2000، ومحمد الأشعري من 2000 إلى 2000، ثم أخيراً مرحلة محمد نبيل بنعبد من 2002 إلى 2007. ولأن مرحلة العربي المساري كانت مهمة، فقد حظيت بحصة كبيرة من مذكرات عاشور، فهو كان يسعى إلى العمل بنظرية تغيير العقلية عوض تغيير الأشخاص، وهذا الموقف جر عليه انتقادات من حلفائه الاتحاديين في الحكومة، ومن طرف المطالبين بإعادة رجال السلطة في أسرع وقت ممكن. وما زاد من الخلاف بين الاستقلال والاتحاد الاشتراكي أن هذا الأخير كان يرغب في أن يضم وزارة الاتصال ضمن حقائبه الوزارية، لكن الراحل الحسن الثاني اختار العربي المساري رغم أنه لم يرشح من قبل حزب الاستقلال الذي ينتمي إليه. ونجح الاتحاديون في ما بعد في انتزاع منصب الناطق الرسمي باسم الحكومة الذي منح لوزير التشغيل خالد عليوة، وهو ما يوضح أن بذور الخلاف بين الحليفين زرعت منذ اليوم الأول لتشكيل حكومة التناوب. ويشير عاشور إلى أن العربي المساري لم يكن في وضع مريح بوزارة الاتصال، وقال عنه إنه "لم يستطع الانسلاخ عن جلباب النقابي وهو يتحمل مسؤولية القطاع، وهذا ما جعله يقع في مواقف حرجة"، وزاد: "مع مرور الزمن تشجنت العلاقة بين الوزير الاستقلالي ورجال السلطة المسؤولين في الإذاعة والتلفزة، وسعى إلى إبعادهم بطلب وجهه إلى الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي". لم ينجح مسعى المساري، إذ رفض اليوسفي طلبه بدعوى أن الظرفية السياسية لا تسمح، وهو ما جعله يتقدم بطلب استقالته إلا أن رغبته لم تلق استجابة من صاحب القرار. وكشف عاشور أن سبب إصرار المساري على إبعاد رجال السلطة عن الإذاعة هو رفض التلفزة تقديم نبذة عن التقرير الذي أصدرته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إضافة إلى تصريح آخر للوزير محمد بوزوبع حول الأسعار. لكن عاشور كشف أنه رفقة مسؤولين آخرين في الإذاعة والتلفزة، محسوبين على الداخلية، كانوا يرغبون في العودة إلى وزارتهم الأصلية بعدما تبين لهم أن المسؤولية في قطاع الاتصال جسيمة، وإذا وقع الخطأ لا يمكن إصلاحه، ومصدر العقاب لا تمكن مناقشته أو استئناف حكمه. ساعة الفرج كان عاشور يترقب ساعة إنهاء مهامه على رأس الإذاعة، حدث ذلك سنة 2003 بعدما تم تعيين فيصل العرايشي مديراً عاماً للإذاعة والتلفزة، حيث هاتفه وزير الاتصال محمد نبيل بنعبد الله آنذاك وبادره بالقول: "أسيدي مبروك عليك راه مبقيتيش في الإذاعة"، وقد سبق أن تحدث إلى مسؤولين سامين لبحث إمكانية إعادته إلى وزارة الداخلية. جاءه الفرج وفرح فرحاً شديداً لذلك، بل حدث أن أقسم عاشور وهو يغادر مكتبه في الإذاعة ألا تطأ قدماه هذه البناية ولو في زيارة مجاملة، وقد مرت خمس عشرة سنة على مغادرته لها ولم يحنث قط في قسمه، لكنه أكد أنه بقي محتفظاً بصداقات مع العاملين في الإذاعة. عاشور، الذي كان تطرق لتفاصيل دقيقة في مروره من الإذاعة الوطنية، لم يغفل وهو ينهي مذكراته ذكر بعض الهفوات الإذاعية التي عايشها، وأبرزها حين قال المذيع في أحد البرامج الخاصة بالسلامة الطرقية: "نطلب من سائقي الحافلات عدم السماح للراكبين بولوج الحافلات من الناحية اليسرى"، مع العلم أن أبواب الحافلات تقع كلها على اليمين. هفوة أخرى تقول: "سأل مذيع من القناة الدولية للإذاعة إحدى المستمعات عن اسم آخر رواية قرأتها، وأجابت "السيدة بوفاري"، فرد عليها إنها فعلاً روائية ممتازة. والظاهر أن المذيع كان يجهل أن السيدة بوفاري هو عنوان رواية للكاتب كوستاف فلوبير". يؤكد عاشور في كتابه أنه كان صادقاً وصريحاً، وحاول أن "ينزع قناع رجل السلطة ويكشف عن إنسان هو ككل خلق الله يملك دفقاً من المشاعر الإنسانية التي تفيض نبلاً ومحبة صادقة"، كما اعترف أنه لم يحقق ما كان يصبو إليه خلال تحمله مسؤولية الإذاعة. وربط الراحل هذا الفشل بصعوبة تجاوز العقبات القانونية والإدارية التي تواجه كل محاولة إصلاح جذري، ووصف مهمته على رأس الإذاعة المغربية ب"سيزيف يحمل الرسالة بثقلها رغم التيارات المضادة، مستنداً في هذا المنحى على الإيمان والعزيمة، لكن حجم الصخرة كان يبدو ضخماً يوماً بعد يوم، وكان يدور في حلقة مفرغة". رحل عاشور في سن مبكرة، لكنه حسناً فعل حين كتب مذكراته، فالكتاب الذي أخرج إلى الوجود اعتُبر رائداً في مجال الإعلام، لأن الأمر يتعلق بأول مرة يقوم فيها أحد رجالات "عهد الداخلية في الإعلام" بتدوين مذكراته الخاصة بتجربته العملية كمسؤول.