رغم رقي فكره وفلسفته وأدبه، كان المجتمع الإغريقي يرمي بالأشخاص المعاقين في غياهب النفي والنبذ انطلاقا من مبدإ البقاء للأقوى والأصلح. لم نأخذ من الإغريق فكرهم وفلسفتهم وحسهم الأدبي الرفيع، لكننا اكتفينا منهم بطرد ونبذ الآخر المعاق. لم تعد معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة تنحصر في مطالبتهم بالحق في العمل وتملص الجهات ذات الصلة من الاجتهاد في سبل إدماجهم في الحياة العملية والاجتماعية، بل طالت أشكالا جديدة من الإقصاء، مسرحه الفضاءات العمومية والمحلات التجارية. ويبدو أن المكفوفين يمثلون في هذا الإطار أكثر الشرائح عرضة لأوجه الإقصاء الجديدة. وبدت "المكفوفوبيا" آخر صيحات التمييز العنصري، ترصد واقعا يضرب أطنابه عميقا في جسد المجتمع المغربي، إذ يؤكد رئيس جمعية الأمل المغربية للمعاقين توفره على مجموعة من الملفات لأعضاء تم حرمانهم من دخول مطاعم وفنادق في بلدهم. نفكر من حين إلى آخر في هذه الشريحة المهمشة، ويلهينا الانشغال تارة وقصور الحيلة تارة عن التفكير فيها باستمرار لأننا لا نملك إلا الأسى والحوقلة. يذكرنا بهم لقاء عرضي في الشارع أو خبر على أعمدة صحيفة، كخبر سقوط المعطل الضرير من سطح وزارة الحقاوي أثناء مطالبته رفقه زملائه بحقه في العمل. نعود بعد ذلك نحو النسيان أو التناسي، إلى أن يقع ما يهز مشاعرنا ويدعونا إلى التأمل في عجل في أمر ذوي الاحتياجات الخاصة. وها هي حادثة ملحن "وجع التراب" تخدش الضمائر من جديد، وتطرح حجم اللامبالاة وعدم الاكتراث لإخوة لنا، لا ذنب لهم إلا أنهم لا يبصرون. سمعنا عن أمريكا قانون جيم كرو وفتح فضاءاتها العمومية أمام البيض فقط استنادا إلى مسوغات عرقية محضة. نعلم عن جور الغربي ونظرته المتعالية حين يعتبر نفسه أسمى مخلوقات الكون فيَسُن التفضيل والاستثناء والإقصاء بدافع الخوف والكره. ونعلم عن النازية وهولوكوستها وامتدادها اليوم بين أقليات تكن الضغينة للجاليات الأجنبية. وما من أحد يقف على تلك الأحداث المخزية دون الشعور بالألم والاشمئزاز والحسرة على ما تستطيع ضمائر البشر بلوغه من درجات الوحشية والانحطاط. وقد صار اليوم من الممكن لمواطن أن يمنع مواطنا ضريرا من دخول فضاء عمومي مرخص له من قبل الدولة لخدمة واستقبال أفراد المجتمع تغريما له لإعاقته. والأمر يتعدى التمييز العنصري المباشر بتفضيل الزبائن المبصرين على اللامبصرين إلى المضايقة والإهانة الصريحة بالتعبير العلني عن عدم الرغبة في تواجد الضرير بين الزبناء في مكان عام، كنوع من أنواع التلوث البشري الذي قد يضايق فرَضاً شريحة معينة من الزبناء. وحيث إن المشرف على المطعم المعني بالأمر يكترث لمصلحة الزبون الضرير فقد رد مبررا موقفه بخوفه من تعرضه لهجوم محتمل، لكون حالته لا تسمح له بالدفاع عن نفسه. وهذه المسوغات على لسان المشرف تعد أكثر مدعاة للنفور والسخرية. والظاهر أن مطعم "لو طونكان"، لتخصصه في تقديم وجبات السوشي اليابانية والمأكولات الآسيوية، هو أيضا حلبة مصارعة. ويبدو أن على كل الزبائن المبصرين والأصحاء الحصول على الحزام الاسود في الفنون الحربية لولوج المطعم وأكل السوشي والدفاع عن أنفسهم. وأقول الأصحاء لأني تصفحت بدافع الفضول موقع "تريب أدفايزر"، وهو موقع يقدم خدمات سياحية وآراء حول هذه الخدمات، فوجدت على الركن الخاص بتقييم الزبناء للمطعم المذكور رأي زبون أجنبي يشتكي منعه من دخول المطعم لأنه كان يستند على عكازين. سلوك لا حضاري يتنافى ومفهوم مجاز "الزبون الملك"، ويسائل هشاشة العلاقة بين المنتج والمستهلك، ويفضح سوء أخلاقيات المواطنة. ويعد الضرير الذي تعرض لهذا الاعتداء العنصري الفريد من نوعه فنانا غنيا عن التعريف؛ وقد ساهمت شهرته بشكل كبير في إيصال صوته وتظلمه إلى عامة الجماهير التي تفاعلت مع الواقعة على مواقع التواصل الاجتماعي. لم تشفع له شهرته، حيث كان الأولى أن تكون كينونته الإنسانية أول شفيع له لولوج مكان عمومي اشتهت نفسه أن يُخدَم فيه؛ فماذا عن المكفوف الذي لا صوت له، والذي لا يتمتع بشهرة النكادي، فلا يملك إلا ابتلاع الإهانة والصمت والمضي في حال سبيله لتجرع غصص الغيظ في عزلته المنسية؟. والواقع أن المجهودات التي تقوم بها الدولة لضمان حقوق هذه الفئة الاجتماعية من المواطنين لا ترقى إلى المستوى المنشود، رغم أن الفصل الرابع والثلاثين من الدستور المغربي ينص على "إعادة تأهيل الأشخاص الذين يعانون من إعاقة جسدية، أو حسية حركية، أو عقلية، وإدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية، وتيسير تمتعهم بالحقوق والحريات المعترف بها للجميع". وحادثة عبد الفتاح النكادي تشير إلى تنامي ظاهرة خطيرة لا يجب السكوت عنها، بل ويجب الضرب بيد من حديد على كل من تخول له نفسه معاملة البشر بمنطق التمييز، خصوصا في المحلات العمومية. والسكوت عن هذا السلوك قد يفضي غدا إلى منع ذوي الاحتياجات الخاصة من ركوب سيارات الأجرة وحافلات النقل العمومي، ومن التنزه في الحدائق ودخول المسارح وغيرها من الفضاءات العمومية. ومن جهة أخرى فإن تعاليم الدستور لا تحدد فقط التزامات الدوائر الحكومية، بل وتطال أيضا مسؤوليات المواطنين؛ فأين نحن من واجب معرفتنا وإلمامنا وامتثالنا لفصول الدستور، ليس خوفا من أن يطالنا غضب هذا الدستور، وإنما وعيا منا وتكريسا لمبادئ المواطنة ومسؤولياتها؟. إن مجرد الشد على أيدي هؤلاء المكفوفين والاستماع إليهم والترحيب بهم يعد إسهاما في تكريس حس المواطنة كجزء من فلسفة وبرنامج إدماجهم في المجتمع. يكفيهم أنهم يسعون كل يوم في الأرض متأبطين دوما شعور الاختلاف عن الآخر والحسرة لعدم القدرة على الاستمتاع ببعض من محاسن الحياة كما يستمتع الغير.