قال الكاتب المغربي عبد الكريم جويطي إن "تاريخ المغاربة قاس ومليء بالآلام مثل جميع الشعوب الأخرى؛ فعلى مدار السنوات، عاش الناس حروبا أهلية بين القبائل وأمراضا فتاكة مثل الطاعون"، مشيرا إلى أن التاريخ هو سؤال كبير بالنسبة للمغاربة بات من اللازم التحرر منه، ومن أجل ذلك يقترح جويطي الكتابة عنه بشكل مستمر، وخصوصا تسليط الضوء على جوانبه الملتبسة والمظلمة. وأضاف كاتب رواية "المغاربة"، في حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن علاقته بمدينته بني ملال عميقة، فهو لا يستطيع العيش خارجها، مشيرا إلى أن تأثره بالروائي الأوروغواياني إدواردو غاليانو يعود إلى سنوات خلت، حيث طالع كل أعماله في سن جد مبكرة، وكان شديد التأثر بعمله "كرة القدم بين الشمس والظل". إليكم نص الحوار: بداية، طالما اشتكى الشاعر محمود درويش من مطالبته بالكتابة عن القضية الفلسطينية، ورد على الجميع بقصيدة اختار لها عنوان "لا تكتب التاريخ شعرا"، يوضح فيها أن "التاريخ والقضية والشعر" مواضيع تسير في اتجاه متباعد، ألم يجد عبد الكريم جويطي نفسه أمام سجال ذاتي حول صعوبة نقل التاريخ وقضايا المغاربة إلى متن روائي؟ من الخاصيات الكبيرة التي تتميز بها الرواية هي قابليتها للاشتغال على مواد مختلفة، والتاريخ من بين المواد التي تستطيع تناولها، فعندما يدخل التاريخ إلى الرواية، لا يصبح كما نطالعه في الكتب التاريخية، بل يصبح تاريخا تخيليا، بمعنى يتم إعمال الخيال داخل التاريخ، وربما في اعتقادي هذا هو أهم شيء يمكن أن تقدمه الرواية للتاريخ، فتناول الكاتب لفترة تاريخية معينة بطريقة روائية، يتم بطرق الخيال واللعب والتنسيب والبحث عن المغيب في كتب التاريخ الرسمية. لأن التاريخ في النهاية يكتبه المنتصر، والرواية لا تنتصر للفائز بل للذي لم نسمع صوته في التاريخ وتعطي حق الكلمة للجميع، لذلك فقدرة الرواية عظيمة على تحويل التاريخ إلى مادة اشتغال، حين يتم تناول شخصية مثل ابن تومرت، أو يوسف بن تاشفين، من الناحية الروائية، ستكتبُ أشياء ليست في كتب التاريخ، وستروي صراعات نفسية لا توجد في الكتب. في النهاية، الرواية لا يجب أن تخاف من التاريخ، فهو مادة من المواد المتاحة للروائي. سبق وقلت إن رواية "المغاربة" جاءت بشكل تدفقي هادر لم تتردد فيها إلى درجة أن كل أشيائها كانت داخلك، هل كانت الرواية انفجارا لحالة من الهزيمة والإقصاء التي عاشها المثقفون المغاربة داخل المسؤوليات؟ أنا خرجت من المسؤولية بعد أن طلبت الاعفاء، ولا اعتبر الأمر دراما شخصية، طيلة سنوات الاشتغال وأنا أحضر نفسي لكتابة هذا النص، لكن لا يمكن أن أنتجه وأنا أمكث في المكتب من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء، كان لي اشتياق وجودي حقيقي للكتابة في حياتي، لذلك لما أصبحت موظفا عاديا، ولما تخلصت من منغصات المسؤولية، كتبته دفعة واحدة، حيث في شهرين كتبت نصف الرواية، لأنها كانت مكتملة بداخلي، وحتى ما أردت قوله عن المغاربة كان دائما بداخلي، وهو ما يفسر الكتابة السريعة. داخل متن المغاربة، هناك العديد من العبارات القوية التي تسائل مقدرتهم على تجاوز حالة "الهزيمة"، أعمقها بالنسبة لي هو "ارتطام المغاربة بالتاريخ"، ألم تكن الرواية قاسية على شعب لم يحسم مواضيع محورية في مصير أي قوم من قبيل الهوية والسياسة والدين، بصيغة أخرى، هل يجوز لنا لوم الضحية؟ تاريخنا قاس ومليء بالآلام مثل تاريخ أي شعب، ومع كامل الأسف، فالتاريخ يبنى بالآلام، خصوصا وأن تاريخ المغرب كان مليئا بالحروب الأهلية بين القبائل وبمرض الطاعون. هذا التاريخ هو سؤال كبير بالنسبة لنا كمغاربة، ولا أقصد هنا التاريخ الذي يبنى بشكل أسطوري بل الحقيقي، لذلك يلزمنا التحرر من تاريخنا، فنحن مثقلون به، والتحرر من الشيء يقتضي الكتابة عنه، والأخذ من جوانبه الملتبسة والمظلمة، والمليئة بالدماء والجماجم، كما في الرواية. الكتابة حول التاريخ تدفعنا إلى عدم تكرار ما وقع في الماضي خلال الحاضر والمستقبل، فمثلما يمكن أن يكون عائقا، يمكن أن يكون ذخرا، الدولة لدى المغاربة استمرت 12 قرنا، والمجتمع بالتركيبة الحالية والزوايا والمذهب استمروا، وبالتالي نحن مثقلون بهذا، لذلك فالخدمة التي يمكن أن تسديها الرواية للبلاد هي الكتابة حول تاريخه، يمكن أن تُكتب رواية أخرى بمنظور آخر، فأنا في النهاية محكوم بتاريخ المنطقة التي أعرفها جيدا، وهي تادلة. أنت لا تخفي تأثرك بالكاتب الأورجواياني إدواردو كاليانو، الذي عاش جل حياته منفيا قسرا بين إسبانيا والأرجنتين بسبب مواقفه السياسية، هل يمكن أن نفهم من التزام الجويطي ببني ملال منفى اختياريا هربا من المركز وسياساته؟ سؤال جميل، وأول مرة أسأل حول علاقتي بإدواردو غاليانو، قرأت بشكل مبكر كل كتبه قبل أن يصبح موضة، كانت تعجبني الطريقة التي يتناول بها تاريخ بلده، هو لا يكتب، يأخذ مقتطفات من الأساطير، وتبنى الرواية كمحفل كبير للأصوات. طبعا أنا ولدت في نفس المدينة ودرست واشتغلت فيها، وحتى لما نقلت نحو مدينة أخرى، طلبت الإعفاء، فأنا لا أستطيع العيش داخل مدينة أخرى غير بني ملال، كما بورخيس الذي يقول إن في حياته عادة سيئة، هي ارتباطه ب"بيونيس ايريس"، وأنا أيضا لي نفس العادة السيئة بارتباطي ببني ملال، حيث لا أتنفس، وأحس بأنني في المكان الخطأ إذا غادرتها. أنا الآن في الدارالبيضاء، وأحس بأنها تقول لي عد أدراجك إلى بني ملال، ولما أعود إلى مدينتي، وأتجاوز هضبة الفوسفاط، تتراءى لي ملامحها، أحس براحة داخلية، هذا أنا، بني ملال شيء عميق داخلي، مثل شجرة جذورها عميقة، لا يمكن أن تجتث، فبدون بني ملال حياتي بدون معنى، رغم أنني أقطن حاليا بعيدا عنها ب12 كيلومترا، إلا أنها تسكنني. يمكن أن تتفق معي بأن المغاربة ينظرون بكثير من اليقينية صوب تاريخهم وأحداثه على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي، هل يمكن اعتبار رواية "المغاربة" حجرة في بركة اليقينيات التاريخية المغربية؟ يمكن أن أجيبك من خلال تلقي المغاربة، أعتقد أنني ألفت نصوصا في تجربة متواضعة لكن محترمة، كتبت "كتيبة الخراب"، و"زغاريد الموت"، و"ليل الشمس"، لكن لم تحظ ب10 في المائة من الاهتمام مقارنة ب"المغاربة"، لأن هذه الأخيرة أحس أن القراء من خلالها لامسوا شيئا عميقا، وما يفرحني في الحقيقة ليس عدد الطبعات والصدى الهائل على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، بل إن كل من التقيته يحدثني أنه طالعها مرتين أو ثلاث مرات، وهذا هو المهم. أن يحرك النص هذه الرغبة في قراءة أخرى هو ما ينبغي أن يتمناه كل كاتب، حيث يظل النص محتفظا بجوانب خفية يعود إليها القارئ على الدوام، فاليوم ونحن قد برمجنا اللقاء من أجل هذا الحوار، التقيت بالعديد من القراء ممن أخبروني بأنهم طالعو الرواية مرات عدة، وهناك من يقول إنه يفتحها بشكل يومي ويطالعها. داخل روايتك، كل الشخوص البارزة جاءت بشكل يتضمن عطبا معينا، لكن أفدح عطب بالنسبة لي هو "العمى"، هل يمكن أن نفهم من الأمر أن "المغاربة" شعب أعمى بدون وجهة مستقبلية محددة، هل الأمر يتعلق بشعب دون بوصلة؟ يمكن أن تقرأ هذه القراءة، وقرأت في هذا الاتجاه، بمعنى أن تاريخنا ينتج العجز، سواء في شكل العمى أو أعطاب أخرى. كنت أفكر بأن العمى في الرواية رمزي وواقعي، والرمزي يحيل إلى أن الناس لا ينظرون إلى الأخطار المحدقة بالبلد، حيث لا نتخذ ما ينبغي اتخاده من حزم في قضايا معينة، هناك كثير من التسويف، ونترك الحبل على الغارب، مثلا بوادر التعرض لعمليات إرهابية كانت واضحة من خلال بعض خطب الجمعة وخطابات التكفير المنتشرة، فإذا خلق هذا المناخ وتساهلنا معه، فالنتيجة واضحة. قلت في العديد من المرات إن نهاية مسؤولياتك داخل وزارة الثقافة جعلتك تكتب بأريحية أكبر، هل يمكن القول إن منصب المسؤولية، وإن كان يفترض أن يصله أهله من علية القوم، يجعل كل من فيه يتحفظ عن كتابة شجاعة؟ لما تكون مسؤولا يجب أن تراعي العديد من الأمور، فعندما تكتب وأنت في منصب المسؤولية عادة ما يحسب ما تكتبه على المؤسسة التي تشتغل بها. حين تتحرر من المسؤولية، تكون لك حرية كتابة أشياء دون أن تحسب على مؤسستك، لأنه في النهاية المسؤولية هي احترام للدور الذي نقوم به وللأشخاص الذين نشتغل معهم، وليس من الميسر لي الخوض في أشياء هي من صميم السر المهني أو ما يدخل في نطاق العمل، لكن أهم شيء هو أنني دائما ما أكتب ما أومن به بشكل صادق وفي احترام تام للقراء ولنفسي. رغم كل ما ذكرته أستاذ جويطي، نجد العديد من الكتاب ممن هم دون مسؤوليات يفتقدون لعنصر الشجاعة، هل الأمر يعود إلى عوامل نفسية مثل الرقابة الذاتية؟ بصيغة أخرى، كيف يمكن تحقيق استقلالية الكاتب؟ في المجتمع المغربي هناك رقابات متعددة، الذاتية والمجتمعية والمؤسسات والناشرين، فأحيانا تَكتب بشكل حر ولا تجد من ينشر، لكن من يحترم مهنته أعتقد أنه إذا آمن بشيء يجب أن يكتبه بغض النظر عن أي سلطة، سواء كانت الأسرة أو المجتمع، أو السلط العديدة الأخرى. نحن في حاجة للكتابة بشجاعة وبجرأة لما فيها من إضافة للثقافة الوطنية وللإبداع الوطني. في النهاية، النصوص المتقاعسة لا تخدم لا الثقافة التي تُكتَبُ فيها، حيث إن الكاتب مثل سكير ولج حفلة زفاف، يقول كلاما يرفضه الحاضرون، وذاك هو الدور الحقيقي للكتاب، أن يكون مزعجا، لكن ليس بالشكل التافه والمبتذل، واستخدام الكلمات النابية أو مهاجمة الأشخاص، بل وجب لمس البنيات الخامدة، والأشياء البالية، وكل ما يتواطأ الجميع من أجل إخفائه. ختاما أستاذ جويطي، أريد كلمات منك بخصوص اسمين: إدواردو غاليانو كاتب عظيم، اشتغل على المجتمع الذي ينتمي إليه، وأنتج نصوصا رائعة، أنا أحبه لأنني أعشق مثله كرة القدم، وأتمنى أن أكتب كتابا في هذا الاتجاه، له كتاب جميل ورائع "كرة القدم بين الشمس والظل"، وهو كتاب أنصح من لم يطالعه بمطالعته، هذا الكتاب هو من أسس لعلاقتي مع إدواردو كاليانو. محمد الأشعري صديق عزيز، التقينا كلانا في المعرض، سأقدم روايته الرابعة، وهي رواية مهمة وإضافة نوعية للأدب المغربي، اقتسمت معه العمل لما كان رئيسا لاتحاد كتاب المغرب، ونظمنا العديد من الأنشطة في بني ملال، كما اشتغلت بجواره في وزارة الثقافة، وعلاقتنا دامت 30 سنة بنفس الوفاء والصدق والمحبة. نحن لا نختار أهلنا لكننا نختار أصدقاءنا، ونجاحنا في هذا الأمر بالذات يعطينا هيبة عظيمة في الحياة، لما يكون لك شخص يمكن أن تقاسمه النصوص والأفكار ومشاريعك، بل حتى الأمور اليومية، فذلك مسألة عظيمة، بعض الصداقات تجعلك تثق في الصداقة، بل تجعلها تمتد حتى تصبح متجددة كل مرة.