من بين أخطر العاهات، التي يمكنها التربص بالمثقف، ثم تسقطه صريعا بين طيات حبائلها المشينة، تلك المتمثلة في الكذب والتضليل والادعاء. وضع وجودي زائف، مشوه، يجعل ذاته مهشمة تحت وقع مفارقات مرضية شاسعة، تتجاذبها تناقضات سيكوباتية، تترسخ عُصابيا مع تعاقب الأيام، بين الشكل والجوهر، الظاهر والباطن، الجسد الروح، العقل واللاوعي. طبعا، الإنسان وحدة كلِّيانية في إطار المختلف اللانهائي، أو ائتلاف المتعدد قياسا للذات الواحدة، والمثقف إنسان قبل أن يكون كذلك. وبالتالي، من حقه ممارسة التعدد مثل باقي أصناف جنسه، لكنه تعدد أضحى مفروضا لديه، بحكم الوظيفة المجتمعية التي ارتآها لنفسه، أن يظل موصولا بقيمتين أخلاقيتين كبيرتين، هما الصدق والشفافية. مثقف صادق وشفاف، يعني التزامه غاية أبعد الحدود، بقناعاته الخاصة والذاتية، منسجما تماما مع أفكاره وتصوراته، حرا في تبني إرادته، واعيا بخطواته وقصدياته، مجتهدا ودؤوبا صوب تفعيل مشروعه. يحكمه فقط لتحقيق مرتكزاته هاجس تعطشه للسؤال المعرفي، مقابل زهده حيال ما تبقى. حين تحقق سعي كهذا، بالفعل، دون عقدة أو كابح، لحظتها يكون المثقف بصدد بلورة أولى خطوات المجد العلمي الخلاق، واضعا أخيرا أنامله على تفاصيل المعادلة السرية، التي تشرِّع أمامه على مصراعيها مغارة التَّمكن والتمكين، الخلق والتوريث، ثم الولوج إلى التاريخ عبر بوابته الواسعة. تُدُووِلت خلال حقبة مضت، على هامش كواليس كل جلسة فكرية جادة، دعابة ساخرة رمزيا، مفادها أن ما كابده حقا المثقف الغربي، فكرا وجسدا، على امتداد قرون، جيلا بعد جيل، منتقلا بتؤدة خلال زمن طويل، مبدعا ومتمثلا صميميا في خضم ذلك، نظريا وتجريبيا ومنهجيا، الرؤى الفكرية والقيمية والإيتيقية لمذاهب انتقلت من الكلاسيكية وصولا إلى العولمة ثم السيبرنيطيقا والأتمتة والروبوتيكية، مرورا بالعقلانية والرومانسية والواقعية ثم الواقعية النقدية والماركسية والانطباعية والوجودية والبنيوية والنسوية والسوريالية والوجودية والعبثية والدادية واللاأدرية والحداثة وما بعد الحداثة… وتضيف الدعابة أنه مقابل كل ذلك الصرح المعرفي المحكم بسياقات تاريخية وبنيوية عميقة، اتسم المثقف عندنا، ومن خلاله الخطاب العربي المعاصر، بالاختزال المبتسر القائم على الادعاء، مما أودى به في نهاية المطاف إلى السقوط في اللاتاريخية المتوهِمة، وقذف واقعه الموضوعي بتأويلات بعيدة عن حقيقة ما يعتمل داخليا. مسار أوروبا طيلة ستة قرون على الأقل، اختصره المثقف العربي في خمسين سنة على الأكثر، وفقط نظريا، هكذا ينطلق الواحد منهم ليبراليا عقلانيا ثم ماركسيا ثوريا فوجوديا بوهيميا، وينتهي لزوما ووجوبا بعد كل شيء، إلى "مرفأ الأمان"، أي متدينا أصوليا يوصي على شاهدة قبره، ندما على ما فات، بحرق جل كتاباته السابقة، مميزا بين التأملات الشاردة لهذيان الشباب، وصحوة الوعي أخيرا. رويدا رويدا، نتيجة انكماش السعي النهضوي، إن صح التعبير، بل اضمحلاله التام حاليا، مقابل انتصار جلي لمنظومة الهزيمة بكل تفاصيل مرجعياتها الانتهازية، ازدهر نمط جديد من الادعاء، طبعا أكثر ابتذالا من الأول، يقوم على رياء ثقافة السمع، حيث تتناثر إلى عنان السماء تسميات :''الهيدغيرية'' و''النيتشوية'' و''الغرامشية'' و"الرشدية'' و"الغيفارية'' و"الكافكاوية" و"الكانطية"…ويتحدث جميعنا- مزهوا بالثقافة- على أن محمود درويش أعظم شاعر حديثا والمتنبي قديما ونجيب محفوظ الكبير وأدونيس الموسوعة ومدن الملح لعبد الرحمن منيف… ومحمد شكري باعتباره أشهر كاتب مغربي عالمي…. قد تكون الوصفة صحيحة! لكن السؤال الغائب، ماذا قرأنا حقا لهؤلاء؟ وهل تحلينا بالقدرة المكابِدة، كي نتسامى لأيام ليست بالقصيرة، عن غباء ما يحيط بنا وننصت فقط لصوت هؤلاء المبدعين؟ هل تعتبر تقييماتنا تلك، عين خلاصات محض اجتهادات ديكارتية، ذاتية، أم لأن الموضة الجارية اقتضت القول! أسائل نفسي مرارا بنوع من جلد الذات: ما هو موقعي ضمن سياق العودة إلى أصول المعرفة الحقَّة، بغير رياء ثقافة العناوين الجاهزة والاكتفاء بالهوامش السهلة للحواشي المدرسية الميسرة؟ كم من ديوان شعري أدمنته قراءة مهذِّبة، بثلاث لغات على الأقل، دون ادعاء للاستهلاك المجاني العمومي، أني منتصر باستمرار لقيم الشعر؟ بل ما مستويات حضور الشعري عموما والفلسفي والثوري والإنساني والأخلاقي، ثم تجليات المعرفي على نتاج سلوكاتي اليومية مع الآخر؟ ما هي حدود شجاعتي للدفاع عن قناعاتي غاية الرضا الذاتي بصدق، دون هذيان حربائي؟.