"على هامش إصدار الكاتبة أحلام مستغانمي لكتابها الجديد: "شهيًّا كفراق" تلقيتُ الإصدار الأخير للكاتبة المقتدرة "أحلام مستغانمي" بلهفة كبيرة بعد انتظار شاق. كان الكتاب الجديد موسوما بعنوان شائق ماتع: "شهيًّا كفراق"..كانت لهفتي له كبيرة، لما أكنه لهذه الكاتبة من احترام وإكبار، كونها امرأة عربية استطاعت بقلمها المتمرس أن تصنع اسما روائيا كبيرا على مساحة الوطن العربي _ على الأقل _، الوطن العربي الذي لا يقرأ مواطنون إلا قليلا وكُتّابه ومبدعوه قلة!. إنها نموذج ناجح كسّر النموذج الشائع عن المرأة العربية التي تعاني فشل التطلع إلى قمة الهرم الناجح، خاصة في ميدان الكتابة الروائية، فقلما لدينا روائيات ناجحات كالسيدة أحلام..لقد أحرزت إصداراتها الروائية معدلات قراءة هائلة وقياسية، تكاد تنافس الكبيرات من الكاتبات والكُتّاب العالميين. ولأن الكاتبة تتميز بأسلوب ولغة كافيين لسحر القارئ وشدّه شدًّا لمتابعة إصداراتها، فقد كنتُ أنتظر كتابها "شهيا كفراق"، ربما كغيري من ملايين المنتظرين، وكنت أتابع بشغف كبير تبشيرها بصدوره على صفحتها على "فيسبوك". الكتاب يقع في 253 صفحة عن "دار نوفل"، التي اعتادت السيدة أحلام أن تصدر رواياتها عن طريقها. كتابٌ أنيق فاخر، حُلّتُه جميلة في إخراجها وانتقاء غلافه وصوره كان موفقا جدا. سيميائيا يمكن أن نقول إن دار النشر نجحت إلى حد كبير في إخراجه بمكر تجاري كبير.."شهيا كفراق".. كُتِب العنوان بخط عربي متقن زاد من فخامة الغلاف. إلى حد الآن يمكن القول إن الكتاب رائع بامتياز. الكتاب أتى بعد "صيام" عن الكتابة دام خمس سنوات _ على الأقل _ كما صرحت السيدة أحلام في إصدارها الجديد. أيضا جنس الكتاب كان مفاجئا لي وغير متوقع، إذ كنت كغيري من القراء والمتابعين أنتظر صدور الجزء الثاني من "الأسود يليق بك"، الرواية التي خلّفت لديّ انطباعا جميلا ورائعا من حيث لغتها الماتعة والراقية، والموغلة في الأدبية اللذيذة!. كنت أعلم _ من خلال متابعاتي _ عنوان الكتاب، وكنت أتوقع أن يكون "رواية"، لأنني أعرف السيدة أحلام روائية بارعة، لكن أول ملاحظة استفزتني أنه لم يُكتب على غلافه _ رواية _ ! حينها تساءلت بشدة: كيف يكون جنس الكتاب القادم للسيدة أحلام، هل هو رواية أم ديوان شعر...!؟. على مدى شهرين تقريبا كنت أتابع حفلاتٍ لتوقيعه في دول عربية، وفي معارض دولية للكتاب كانت القاعات تغص في طابور طويل تنتظر توقيع السيدة أحلام، وكنت أتشوق للحصول على نسختي بشوق كبير؛ ذات مساء ظفرت بها، كانت نسخة يتيمة بأحد أكشاك بيع الجرائد، تلقفتها من يد البائع الذي اندهش لأنني لم أناقشه في سعر الكتاب (90 أورو تقريبا)، كان مرتفع الثمن نسبيا!. بعد دقائق فتحت الكتاب وتصفحته بلهفة وإعجاب، وبدأت فورا بقراءته على عجل، وكانت صدمتي الأولى؛ لم يكن الكتاب رواية!!..وتساءلت: هل خدعتنا السيدة أحلام مستغانمي؟ هل انتهى زمن الرواية لديها؟ وما الذي جعلها لا تصدر رواية أخرى واكتفت بكتاب؟ وماذا عسى الراوية المتألقة أن تكتب بين دفتي كتاب..؟!. توالت صدماتي الجميلة مع الكتاب، كانت لغته، كما اعتدت من كاتبتنا المبدعة، لذيذة بسيطة وصعبة المنال أيضا _ متمنعة _، متسقة ذات استعارات جميلة، تأخذ من عالم الأنترنت، وتمتح من عالم الاقتباسات لكبار الأدباء والفنانين والروائيين، إذ احتوى الكتاب أُضمُومة جميلة ورائعة من اقتباسات انتقتها السيدة أحلام بعناية رصّعت جنبات الكتاب الشهي وزادته تميزا، كونه موغلا في التنوع ومرصعا بمعلومات نادرة أعلمها لأول وهلة كهاته: "بلغت إصدارات الكاتبة أجاتا كريستي مليارات النسخ _ كان الإلهام يزورها حين كانت تغسل الأطباق _ بلغت رسائل الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا متيران ثلاثة مجلدات..."..التهمتُ منه بضع صفحات على عَجَل وأوقفتُ القراءة فجأة مخافة أن أستنفد صفحاته فتضيع متعتي ! كنت أستبقي من الطبق الشهي لي، إذ كان طازجا، فاخرا، سليما من الدسم المضر!..شرعتُ أكتب تاريخ اقتنائه بخط مرتجل، كتبت اسمي الذي أختاره مكونا من ثلاثة #يوسف بنطاهر النويني، وكتبت دون سابق تفكير في الأسفل عبارة: "حينما تنتظر كتابا جديدا كما تنتظر مولودا عزيزا، فاعلم أنك غرقت في عالم القراءة حد الجنون...!". تلقيته شهيّا كلقاء منتظر، احتضنته قريبا مني على مدى أسبوعين، لم أشأ إنهاءه استبقاءً للمتعة والأنس بكتاب انتظرته منذ زمن على شوق كبير ! كنت أستدفئ به في ليالي برد شتاء قاسية، كنت ألتهم منه كل وقت متأخر من ليل صفحات قليلة كحلوى فاخرة غالية ثمن أخاف انتهاءها رغم اشتهائها على علتي..! أول انطباع رهيب أصابني؛ ما هذا الانقلاب الرهيب _أيتها السيدة أحلام مستغانمي_ من الحب ودروبه ومغامراته اللذيذة في الروايات السابقة إلى الفراق الشهي المحتم...؟!..فأجد الجواب بين ثنايا الكتاب تصريحا لا تلميحا: كل الوطن العربي يعاني ألم الفراق قسرا أو طوعا...".. إنه _ في نظري _ انقلاب في موقفها من الحب بدرجة الزاوية المنفرجة ! وتساءلت وأنا أتمم في صمت: هل هو ذكاء رواية متمرسة!؟ أم هو مكر تجاري من الناشر أن يقترح موضوعا جديدا /قديما بالنسبة لقراء السيدة أحلام، والتي مافتئت تعطي وصفات جميلة، وتنسج أحداثا على مدى صفحات رواياتها حول الحب وقصصه..في هذا الكتاب سرعان ما تخلت عن ذلك وتبرأت من أول صفحة من أدب الوصفات بما فيها "كيف تكون روائيا بكتاب!"، أو كيف تقضي على المال في دقائق!. أسقطتُ عن السيدة أحلام "تهمة المكر التجاري" وألصقتها _ ربما_ بالناشر، بما قد صرحت بأن هذا الكتاب الشهي جاء بعد إلحاح منه، وطلب معزز وكفيل بتوفير جميع إمكانياته للخروج إلى الناس في وقت ينتظر الجميع ثمرة أخرى من قلم السيدة _كاتبتنا المقتدرة_. توقعت أن الكتاب كان فسحةً من كتابة، أو ملء فراغ كاتب مشهور ينتظر قراؤه المزيد منه ولا يشبعون.. لقد كان تجديد عهد مع القراء الذين سئموا الانتظار فتمخّض الحمل الطويل عن كتاب شهي لذيذ عن الفراق الشهي كما أرادته لنا كاتبتنا المحترمة أحلام. على طول صفحات منه، أو على الأقل جلها، احتفت بأبطال "ذاكرة الجسد"، و"الأسود يليق بك" و"عابر سرير"، وكان لكتابها _ أو روايتها "نسيان.كم" حظ من الكتاب أيضا، إذ كان إقناعا حميميا، ووصفة للنسيان داخل رواية لصديقتها "كامي"، بالتخلي عن حبيبها، ونسيانه..لنلتقي به كبطل احتل كثيرَ صفحات من "شهيّا كفراق" وظفته الكاتبة بذكاء شديد. اتخذت السيدة أحلام صفحة "فيسبوك" كمنصة لركوب موجة حب جارفة سرعان ما تخلت عنها، وعادت بنا إلى الفراق المُشتَهى ! أعادتنا السيدة إلى تذكّر أبطال رواياتها السابقين، وبذكاء "تجاري" شديد لبق، دعت قراءها المفترضين الذين لا يعلمون عن إصداراتها إلى الإقبال عليها لاكتشافها مجددا، أو على الأقل العودة إليها من طرف من قرأها، لا لشيء إلا لأن مؤلفتها عادت لها واشتاقت لأبطالها الذين صنعتهم من حروف فأصبحوا جزءا من حياتها. أحصي مفاجآتي الموالية؛ منها أن كاتبتنا بقفزة غير معهودة تسلقت أدب الرسالة كجنس غير معهود في إصداراتها السابقة، جنس أدبي بسيط ولذيذ وكان أجمل، إذ تزين بالحب وأشواق الحب الذي كادت تتخلى عنه سيدة الحب. دونت السيدة أحلام أزيد من خمس رسائل موجهة إلى صديقتها كاميليا، التي أودعتها "أمانة" كانت عبارة عن حزمة من رسائل لحبيبها الذي منيت بحبه بفراق مفاجئ وبعده تختفي لتعود ك"ست" في شهرها السابع من حمل مرتقب. رسائل دُوِّنت باختزال واختصار لذيذ أيضا، غاصت بنا في قصص مشاهير أصدرت رسائل حبهم مجلدات بعد وفاتهم بعقود، وقصص أخرى للمحبين دونوا ودفنوا حبهم حيا نابضا في رسائل لم تر النور إلا بعد سنوات ! ليختتم الكتاب الشهي بكلام عن غربة الأوطان.. خيبتي التالية التي أنتهي منها أخيرا في مقالي هذا أنني كنت أبحث على طول صفحات الكتاب عن شيء معين، لكنني أتفاجأ أن صفحاته (253) تنتهي دون أن تجيبني عنه ! وذات مساء أنهيته وتمنيت لو لم يتم! لا أخفيكم سرا أنني لم أقدر على إنزاله من يدي، فبقيت أحمله لمدة أقلّب صفحاته من جديد، وأجتر حسرتي على أمل رسمتُه فخِدعت بشهية مكر غير مسبوقة من أميرة الأدباء العرب، وسفيرة اليونسكو من أجل السلام _ أحلام مستغانمي_. أخيرا..كان الكتاب "شهيا كلقاء منتظر"، كان كمن لا يشبع من وجه الحبيب الذي كتب اللقاء معه سريعا ثم أوحى لك بالعودة. كان الكتاب "نخبويا" إلى حد كبير. اختارت السيدة أن تدخل إلى التاريخ جنبا إلى جنب مع "نزار" والدكتور غازي القصيبي، وغيرهما من (الكبار). ظننت لوهلة أن السيدة أحلام كانت وهي تكتب كتابها ككاتب يكتب كتابا أخيرا ليغلق وراءه مشوارا حافلا من الكتابة، ويستسلم لتقاعد مريح مع قطة خاملة في مكتبه ! أو من جانب آخر يمكن القول إن السيدة أحلام تستبقينا على اشتهاء بانتظار الجزء الثاني من "الأسود يليق بك"، أو كتاب آخر _ ربما _ تدور دائرة الأيام لتكتب أحلام عن وصفات الحب وقصصه ! عبارات جميلة لها أختم بها مقالي عن هذا الطبق الشهي: "انتهى زمن الاشتياق" _ "اشتقت لنفسي المبعثرة" _ "تخلصت من أبطال رواياتي لأكتب هذا الكتاب" _ "الوقت ما كناه يوما" _"يكفي أحيانا صديق واحد ليصنع عيدك" _"تحزنني فخاخ المحبة" _ "ليس في حياتي فقدان عاطفي يلهمني كتابا موجعا كما تمنيت". القمر ارتمى على ظهره من الضحك. ماذا تراه يرى ليضحك كلما جئت على ذكرك. أنصحكم بقراءته، وأن تهدوه لشخص عزيز على قلوبكم كما طلبت السيدة أحلام في آخر صفحة منه إيمانا منها بأن "الروايات وحدها تمكننا من تهريب المشاعر وإطالة حياتها بين طيات كتاب!".