مرة أخرى يضرب التخلف والتزمت والانغلاق والإقصاء أناس أبرياء، سواء من تدخلت يد الغدر لاغتيالهم بصفة مباشر (السائحتين الإسكندنافيتين (أو بصفة غير مباشرة )سكان منطقة إمليل بالأطلس الكبير خاصة، وباقي المغاربة بصفة عامة). لندع التنديد والإدانة جانبا، فالجميع متفق على الطابع الإجرامي لهذه العمليات التي نستنكرها بشدة، ولنحاول تلمس القضية حتى نفهم ما وقع. عندما نحاول فهم ما جرى ولماذا جرى، فإنه من أجل مساءلة الجميع، والبحث عن الأسباب الحقيقية عوض التحدث عن النتائج، ونعت الإرهابيين بأقبح النعوت، فكل ذلك لن يحمي بلادنا من تكرار مثل هذه الجرائم. أولا لا بد أن نشير إلى أن من يحاول البحث فقط في أسباب ما وصلنا إليه في الخطاب الديني دون سواه، فإنه يجانب الحقيقة، ويجعل الأسباب واحدة، وهي في الحقيقة كثيرة ومعقدة ومتشعبة. فعندما يجد الخطاب الديني تربة خصبة عبارة عن مستنقع من الإقصاء والتهميش والحرمان من كل سبل العيش الآدمي الكريم، فإنه سينمو ويكبر ويصبح مخيفاً وقاتلا للجميع دون استثناء... إن من يعيش هذه الظروف يكون فريسة سهلة لكل دعاة الغلو والتطرف، فهؤلاء الشباب يشعرون بأن لا قيمة لهم في نظر المسؤولين، وبأن الوضع الذي يعيشون فيه هو نتاج فساد المسؤولين واستغلالهم لخيرات البلاد والعباد، وبما أن المستوى الدراسي هزيل لدى "الضحايا"، إن لم يكن منعدما، فإنهم يصبحون صيدا سهلا، وعقولا فارغة، ورغبة في دخول التاريخ والانتقام من هذا المجتمع الذي ظلمهم وأهانهم، وبالتالي فإن الموت أكرم لهم من الحياة. إن أسس التطرف والانحراف ما هي إلا نتائج سياسة الإقصاء والتهميش، ما ينتج عنه فراغ الشباب وصعوبة الاندماج داخل المجتمع، ثم إن غالبة هؤلاء تجد صعوبات كبيرة في إيجاد فرص عمل حقيقية تصون كرامتهم، وتجعلهم يحبون الحياة ويقبلون عنها. فعندما يتوفر للشباب مستوى تعليمي جيد، وشغل قار، وأمل في الحياة، فإنه يصبح من الصعب على التيارات الهدامة استدراجه إلى مستنقع التطرف والتزمت والتكفير. إن النفس البشرية مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، ولعل الإساءة الكبيرة هي حرمانهم من أبسط حقوقهم. هذه الأمور وغيرها تؤدي إلى عدم تعلق الشباب بالوطن، فكثيرا ما نسمع "أش عطاتني هاذ البلاد"، بل قد يتأزم الأمر ويصل حد كره الوطن وبزوغ رغبة الانتقام. إن هذه الجريمة وغيرها ما هي إلا نتائج إفراغ المدرسة العمومية من محتواها القيمي والفلسفي، التنويري، الذي يستخدم المنطق والعقل والتحليل ويؤمن بالتعدد والاختلاف والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لجميع المواطنين. وحتى لا يقال إننا فقط نبحث عن أسباب ما وقع دون محاولة اقتراح ما نراه مناسبا من حلول يمكن أن تكون سدا أمام اجتذاب هؤلاء الشباب إلى أسطورة لعب بطولة مفقودة أو لعب دور أبطال بلا مجد، فإننا سنحاول بلورة مجموعة من الاقتراحات التي نراها من الممكن أن تساهم في تحصين بلادنا من الانزلاق إلى هذا الفكر الهدام، المستورد، الذي لن يؤدي بنا إلا إلى المزيد من الألم والنكبات. وإجمالا يمكن تلخيص ما نقترحه من حلول في التالي: - العمل على جعل القيم الإنسانية، وخاصة كرامة الإنسان وحريته، فوق كل اعتبار، وذلك من خلال رفع التهميش والإقصاء والظلم السياسي والاجتماعي والأسري. - ضرورة الاهتمام بالأسر الفقيرة والمعوزة التي تقطن في البوادي وهوامش المدن في أحياء تنعدم فيها كل سبل العيش الكريم، ولعل منشأ انتحاري سيدي مومن، وأخيرا قتلة السائحتين، دليل على أن هذه المناطق أصبحت بؤرا لتفريغ التشدد والانتقام من النفس ومن المجتمع. - تشجيع الأنشطة المدرسية الموازية من مسرح، وفن تشكيلي، ونواد أدبية وأمسيات ثقافية وندوات فكرية... إن هذه الأنشطة لها دور كبير في تنشئة مواطن مقبل على الحياة، يتقبل الآخر بكل تلاوينه، يقارع الحجة بالحجة والخلق والإبداع، ويؤمن بأن نجاح الفرد في نجاح المجتمع. إن هذه الأنشطة، سواء كانت ثقافية، علمية، رياضية، اجتماعية، أو دينية، تقوم بخدمة المجتمع المدني. فمن خلال هذه الأنشطة تحاول المدرسة أن ترسخ قيم الاحترام والتحلي بالأدب، وقبول الرأي الآخر والعدل والموضوعية عند إصدار الأحكام، والتأكيد على الإحساس بالمسؤولية الفردية والجماعية. ثم إن التعليم يجب أن يتوجه إلى الفتيات، فقد أثبتت الدراسات أن تعليم الطفلات أفضل استثمار اقتصادي واجتماعي لأي بلد؛ إذ كلما ذهبن إلى المدرسة ارتفع مدى حياة الأمهات والرضع، وزادت فرص حصول الأطفال على تربية عالية وقيم المواطنة والمشاركة والاحترام ونكران الذات. رد الاعتبار للثقافة الشعبية، والثقافة الأمازيغية بصفة خاصة، التي كانت دائما رمزا للتسامح، والانفتاح، والاختلاط، وقبول الآخر دون تمييز. وهذه أمور بدأنا نلاحظ أنها بدأت تحارب من طرف الفكر الوهابي المقيت والدخيل على المجتمع المغربي. وقد بدأ تغلغل هذا الفكر الذي أصبح يحرّم الاحتفال بالأعراس على الطريقة الأمازيغية الأصلية، وكذلك إجبار السكان على التخلي عن عاداتهم وتقاليدهم، من "أحيدوس" و"تقرفيت"، التي عشناها ومن خلالها تعلمنا الاحترام التام للمرأة الأمازيغية. ولعل ما أشارت إليه العديد من وسائل الإعلام مؤخرا حول قيام قبيلة في إقليم زاكورة على منع "'الديدجي" و"النكافات" والجوق بالأعراس، بالإضافة إلى تحديد وقت صلاة المغرب كآخر وقت لحضور النساء والفتيات لتلك المناسبات، إذا كان صحيحا، فهو خطير جدا لأنه ينذر بقيام دولة داخل الدولة. القيم الأمازيغية ليست وليدة اليوم، فهي تعود إلى قرون خلت وفيها تداخل بين جميع الديانات، وخاصة الأديان السماوية، بحكم أن الأمازيغ اعتنقوا هذه الديانات. وخلاصة القول إن أمة لا تعرف تاريخها الحقيقي، إنما تعيش حاضرا ممزقا ولا يمكنها أن تبني مستقبلا صلبا، مشرقا يسع الجميع. *فاعل جمعوي