في الثانويات الأمريكية تجد عددا كبيرا من الأندية، تتوزع بين الأنشطة العلمية والأدبية والرحلات الاستكشافية، وبعضها تكون له شراكات مع جامعات كبرى. وهي تلعب دورا كبيرا في تأهيل وتوجيه وإبراز الكفاءات. لكن المثير أن بعض الثانويات، التي توجد فيها أقلية عربية إسلامية، نجد الاهتمام فيها ينصب في اتجاه تأسيس أندية إسلامية، هدفها التعريف بالدين، واجتماع المنتمين إلى هذه الديانة لممارسة بعض طقوس العبادة، مع تغييب، أو بالأحرى انعدام أي وعي بالخطابات الفنية والجمالية والأدبية. لذلك تصبح هذه الأندية ظلا للجوامع، وامتدادا لثقافة الإحسان والصدقات التي يتأسس عليها خطاب الجامع. قبل أيام، في إحدى ثانويات بوسطن (علما أن طقس بوسطن في الشتاء لا تنفع معه سوى المآوى التي تتوفر على التدفئة!)، دخل مجموعة من التلاميذ المنتمين إلى "نادي التلاميذ المسلمين" أحد الأقسام من أجل جمع التبرعات لمساعدة المتشردين بأغطية تقيهم من البرد، مرددين أن الإسلام دين التسامح والمحبة. فقام أحد التلاميذ، وهو مسلم من أصل مغربي، واقترح على جامعي التبرعات فكرة مفادها أنه من الأفضل أن يأتي كل متصدق بغطاء، لأن ذلك سيكون أوفر للوقت وأنجع، مادام الهدف واضحا ومحددا. لم يستسغ ممثلو النادي الإسلامي بالثانوية هذا الاقتراح، وتوجهوا فورا نحو الإدارة، متهمين صاحب المقترح بالعنصرية وكراهية الدين الإسلامي. وطالبوا المسؤولين بإيقاع أقسى العقوبات عليه. وللعلم، فإن القوانين الأمريكية صارمة للغاية، إذ تترتب عن كل من ثبت في حقه أي سلوك عنصري عقوبات قاسية قد تدمر مستقبله مدى حياته. ومادام التلميذ صاحب هذا الاقتراح ينتمي إلى الأقلية نفسها، ومادام برّأ نفسه، بحكم انتمائه الديني والثقافي، بدءا بالاسم وانتهاء بانتمائه إلى أسرة مغربية مهاجرة، فقد كان مصير شكاية هؤلاء هو القمامة. تقودنا هذه الواقعة إلى استخلاص عدة استنتاجات تلخص سلوكات هذه الأقلية داخل السياق الأمريكي، وتدعونا إلى رصد عدد هائل من الاختلالات التي صارت تشكل علامة واضحة، وتعطي صورة عن المفارقات اللامعقولة التي تحياها فئة عريضة من الأقلية العربية الإسلامية في أمريكا. أدخل المكتبات فأرى صور المحجبات على أغلفة آخر الإصدارات. أتصفح المجلات الثقافية فأقرأ تحليلا للواقع العربي الإسلامي. أسافر إلى أقصى الغرب الأمريكي فأرى محلات الحلال. داخل أحد أكبر كازينوهات لاس فيغاس صورة محجبة على واجهة إحدى الماركات العالمية. أتجول في قاعات الكازينو المفتوحة للعموم فأرى محجبات يتجولن ويلتقطن الصور، وفي إحدى جنبات الفضاء راقصات شبه عاريات على طاولة يداعبن العامود. أدخل كازينو آخر فأقرأ اسم محل للأكلات السريعة Hallal Guys. في كل مدينة يزداد عدد المساجد كالفطر. صارت ماركة "حلال" إيتيكيتا يوضع على العديد من المنتوجات، حتى البطاطس والحلويات، وهي مذيلة بعبارة "يخلو من مواد مستخلصة من لحم الخنزير". بينما الأطفال يلتهمون حلويات الجيلاتين، وقد كتبت في السطر الأول من مكوناتها "لحم الخنزير"! كل شيء حلال. محلات للحلاقة (حلال) للمحجبات. محلات بيع الملابس الإسلامية والحجاب. سهرات ال"دي جي" DG حلال للمحجبات. لكن كل شيء يجوز عند هذه الأقلية، بدءا بإعطاء بيانات كاذبة ووشايات كاذبة تهدف إلى إيذاء بعض أفراد الأقلية نفسها بسبب خصومات، وانتهاء بالعلاقات غير الشرعية، وصفقات الزواج الأبيض، والحمل غير الشرعي. وحده تجنب لحم الخنزير الذي يتم الالتزام به بشكل يكاد يكون مطلقا! بعض المساجد، في رمضان، لا تسمح لكل المصلين بالجلوس إلى موائد الإفطار إلا لمن دفع، بينما نجد في صناديق بريدنا رسائل من كنائس وجمعيات مسيحية، خارج المؤسسات، دعوة لحضور إفطار أو عشاء رمضاني مخصص لفائدة المسلمين بالمجان. يُطلب فقط حجز مكان عبر الاتصال الهاتفي! في المساجد، أيام الأعياد الدينية، تقام "حفلات" جمع التبرعات. وبعد أن يشهروا فتاواهم في تحريم الربا، توزع على المتبرعين استمارات لملئها، ومن بين المعلومات المطلوبة تلك التي تخص "بطاقة الائتمان". وحين تلتفت إلى من بجانبك بتساؤل تفضح هذا الانفصام اللامعقول، يتحد الجميع على أن "للضرورة أحكام"!!! تتفرخ المساجد بشكل مثير. توازي هذه الكثرة حروب "بيانات" و"بيانات مضادة". طوائف وملل ونحل، وتهم بالاستبداد والفساد والتلاعب بالأموال المتبرع بها "لبيت الله"! يتم اللجوء إلى السلطات الوصية، التي تدون محاضر رسمية بإشهاد الشرطة التي تحضر إلى المساجد التي يتم فيها الصراع. يتحدثون عن أزمة في مالية المساجد، بينما المشرفون يتقاضون مبالغ فلكية، أغلبها غير مصرح به تجنبا للضرائب. تتوقف في ملتقى الطرق، في المناسبات والأعياد، فلا تجد غير المنتمين إلى هذه الأقلية الذين يبيعون الورد. تسمع صوت رجل يقول لزميله إن "مناسبة أعياد الميلاد هي فرصتنا لكسب المال"، وهو يقطع الطريق جيئة وذهابا، فيرد عليه صاحبه: "ليس عيدنا، إنه عيد الكفار". يحتفل "الكفار" ويتبادلون الورود والهدايا، بينما أصحابنا يدمرون صحتهم في البرد القطبي القاتل مقابل أموال لا قيمة لها! مع كثرة الحديث عن الحداثة والمطالب الحقوقية داخل البلدان العربية الإسلامية، من أجل فصل الدين عن الدولة وحرية المعتقد، صارت العلمانية العدو الأكبر، والمنادين بها شياطين ينبغي مواجهتهم. لا يتوقف حتى تلاميذ هذه الأندية المدرسية عن نقد العلمانية والسخرية من المنادين بها، بينما الأغلبية المسيحية في بلد لا يشكل فيه المسلمون سوى 3 بالمائة من مجموع السكان، تشكل العلمانية مصدرا فكريا للمؤسسات، التي تجعل من العنصرية المؤسسة على الدين أو العقيدة جريمة، والمدارس بعلمانيتها لا تدرج ضمن برامجها التعليمية مواد دينية، بينما الأندية تنظم، على الهامش، لقاءات الوعظ والإرشاد، وتحول الملاعب إلى منتزهات "للأقليات في مناسبات دينية"، وتحول الملاعب الرياضية إلى مساجد تقام فيها الشعائر الدينية. يهللون ويكبرون جماعات حين "يدخل بعض صغار الأمريكان الإسلام"، ويعتبرون ذلك أعظم إنجاز، بينما يتناسون أن عدد المهاجرين عكسيا في اتجاه المعتقدات الأخرى، يتضاعف يوما بعد يوم، مرات ومرات، مقابل من أقاموا لهم ولائم النصر! عدد كبير من أفراد هذه الأقلية ينتمون إلى أندية YMCA (وهي اختصار لاسم منظمة الشباب المسيحي)، الهدف منها ترجمة المبادئ المسيحية على أرض الواقع، من خلال الاعتناء بالصحة الجسدية والروحية. بل كثيرون يقدمون بيانات غير حقيقية حتى يستفيد الأبناء من الخدمات الرياضية شبه المجانية، بينما التعاليم والأفكار لا تتسلل إلى البنية العقلية للأفراد بالشعارات والنصوص و"الوعظ". فتجد العديد من أصحاب سيارات هذه الأقلية يعلقون آية قرآنية وبجانبها "رخصة" ركن السيارة في موقف هذه الأندية! يتعلم الأطفال الصغار، في البيت، من آبائهم وأمهاتهم، ومن أصدقاء عائلاتهم، ومن البرامج التعليمية "الملغومة"، التي تدرس في المدارس الحرة المنتمية إلى المساجد، أن المسيحية دين فاسد ومؤسس على الخطأ، فيسخرون من فكرة الاعتقاد المسيحي بأن عيسى ابن الله، بينما يغضب المنتمون إلى الأقلية الإسلامية إذا ما وجهت إليهم أسئلة حول بعض ما يعتبرونه معجزات لا يتوقفون عن تكراراها بكل الثقل الخرافي غير المبرر أحيانا، والذي تنفيه حتى الحقائق التاريخية الدينية لمصادرهم المعتمدة. والذين يحلو لهم أن يناقشوا، ويجادلوا، وينتقدوا، يتباهون بابن رشد وابن سينا أمام المختلف الآخر، وأفضال علماء العرب المسلمين على الحضارة الغربية، ونظريات الخوارزمي وأثرها على التكنولوجيا، وإعجاز القرآن المتنبئ بكل دقائق الراهن العلمي.، لكن حينما تعرض أطروحات ابن رشد وابن سينا حول قضايا الميتافيزيقا سرعان ما يتنكرون لها! هكذا صار المشهد في أمريكا الشمالية كلها، من أقصى جنوبفلوريدا إلى شواطئ بحيرة واساغا في الشمال الكندي، حيث يحلم بعض المسلمين بإقامة أحياء إسلامية لا يسكنها إلا المنتمون إلى الإسلام (كما حدث في مونريال وتم منعه!)، وحيث الشواطئ مسرح ل"المايو الإسلامي"، والحدائق فضاءات لصلاة الجماعة، يتقدمها الرجال والنساء، اللواتي يتخفين وراء ستار في الخلف. وفي الجهة الأخرى يقف "الآخر"- بصيغة الجمع- مشدوها، مندهشا، يشاهد في صمت وذهول! ترى ماذا يحدث؟ يتزايد أعداد المهاجرين من البلدان الإسلامية في اتجاه أمريكا الشمالية، ويزداد الواقع السياسي والاجتماعي الأمريكي اختلافا وتشددا وتنمطيا لصورة هذه الأقلية، إقصاء، وتهميشا، وارتيابا. سيد قطب الذي أقام في أمريكا مدة سنتين، وتمتع بملذاتها، وعاقر الخمر، عاد إلى وطنه متذمرا مكتئبا منعزلا وكارها للحياة الغربية بمشاعر العداء والكراهية، فعاد ليقيم حضاريا في زمن انتهى ولم يعد يصلح البتة! عدد كبير من المهاجرين الذي جاؤوا إلى أمريكا يكررون العبارة "اللهم تراب بلادي ولا عسل هذه الأرض"!. تزداد كراهيتهم لواقع يعلمون جيدا أنهم يستفيدون من ثماره المادية، لكن الصدمة ترغمهم على الانزواء والرجوع إلى الرحم الأول. يذكرني هذا الواقع، الذي تعيشه الأقلية العربية الإسلامية- والذي لا يختلف عما يقع في الكثير من جوانبه في البلدان الأم- بأجواء مسرح العبث أو اللامعقول، التي طالما استهوتني، واكتشفت فيها قوة التعبير عن البؤس الأنطولوجي، والضياع والمأساة التي يجسدها الوجود الإنساني. فالواقع أن جزءا من هذا الاتجاه يصدق على الواقع العربي الإسلامي المظلم. ففي الشارع الذي يوجد فيه أكبر مسجد/ جامع في إحدى المدن التي تقيم فيها أقلية إسلامية مهمة عدديا، وفي الوقت الذي يهتم المسجد بالدور التقليدي، الذي يجعل العديد من المنتمين إليه يلجؤون إلى خدمات YMCA، تقرأ على واجهة بناية "اتحاد الشباب الصومالي: التعليم مصدر التحول الاجتماعي". إننا أمام انفصام يصل حدا يجعل من الصعب استيعاب كل هذا الخلل! إننا أمام أزمة وعي حضاري لم يسبق لها مثيل في التاريخ!