في تطور جديد، تعتزم الحكومة المركزية الإسبانية البحث عن منفذ للجرائم التي ارتكبتها رفقة حلفائها بمنطقة الريف خلال الفترة الممتدة من 1921 إلى 1926 باستعمال الأسلحة الكيماوية المحظورة دوليا، بعدما بادرت إلى طرح ملف الغازات السامة في البرلمان الإسباني. وتبنّت الحكومة الإسبانية هذه المبادرة غير المسبوقة تحت ضغط العديد من الأحزاب السياسية الوطنية، في مقدمتها حزب "يسار كتالونيا الجمهوري" الذي أثار موضوع استعمال الأسلحة الكيماوية بالريف بمجلس النواب الإسباني منذ أزيد من عقدين، حيث طالب حكومة مدريد بجبر الضرر ماديا ومعنويا للضحايا المدنيين، في إطار ما سُمي ب "قانون الذاكرة التاريخية". وكشفت الحكومة الاشتراكية الإسبانية على لسان جوزيب بوريل، وزير الشؤون الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون الإسباني، استعدادها للاعتراف وتضميد الجراح وطي صفحة مسؤوليتها في الحملات الحربية التي ارتكبت ضد السكان المدنيين بمنطقة الريف. وأثناء مثوله أمام لجنة الخارجية في مجلس النواب، خلال بداية الأسبوع الجاري، بعث وزير الخارجية الإسباني إشارات بإمكانية استغلال مئوية معركة "أنوال" لسنة 1921 من أجل تحقيق "المصالحة التاريخية" مع منطقة الريف، مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف الأضرار التي لحقت بالجانبين. ومازال سكان الريف يعانون من ويلات الأسلحة الكيماوية التي استعملت ضدهم إلى حدود الساعة، نتيجة انتشار مرض السرطان الناتج عن القصف بالغازات السامة سنة 1925 بغية القضاء على ثورة الريفيين، كرد فعل على الانتصار التاريخي في المعركة الشهيرة "أنوال" صيف 1921، التي تسمى في التاريخ العسكري الإسباني ب "كارثة أنوال"، بعدما استطاعت ساكنة المنطقة، بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي، إلحاق الهزيمة بالقوات الإسبانية التي يُرجح أنه قتل منها أكثر من 13 ألف جندي. وفي الوقت الذي تسابق فيه حكومة مدريد الزمن من أجل تسوية هذا الملف الذي عمّر طويلا، تعالت أصوات اليمين الشعبي الذي يرفض "المصالحة" بعدم اعترافه بالأخطاء المرتكبة في منطقة الريف؛ الأمر الذي دفع الحكومة الاشتراكية إلى البحث عن صيغة مشتركة تحفظ ماء وجهها أمام التيارات الحزبية الراديكالية، وتطالب بالتالي بطي صفحة الملف من الطرفين معا، أي مدريد والرباط. وسبق لمركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلام، وهو جمعية مغربية غير حكومية، أن طالب وزير الخارجية الإسباني بمتابعة التعهدات المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيماوية في منطقة الريف خلال الفترة الاستعمارية، بما يتماشى مع اتفاقيات وآليات حقوق الإنسان الخاصة بالعدالة الانتقالية، ودعا إلى إنشاء لجنة تتألف من خبراء قانونيين وحقوقيين من كلا البلدين، لمناقشة الوسائل الكفيلة بمعالجة القضايا القانونية العالقة. محمد الغلبزوري، حقوقي باحث في القانون الدولي، قال إن "وزير الخارجية تحدث على أساس تكوين مصالحة في إطار الذكرى المئوية لمعركة أنوال 1921 التي وصفها بالكارثة، بمعنى أن المصالحة ستأتي في 2021، لكنه شدد على ضرورة أن تكون متبادلة بين الطرفين". وأضاف الغلبزوري، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "التصريح لمّح إلى كون المغرب يتحمل المسؤولية أيضا في المعركة، بمعنى أن السيناريو يتجلى في اعتذار دولة إسبانيا ومنحها التعويضات للمتضررين، في حين يجب على المغرب أن يتعرف بارتكاب أخطاء في معركة أنوال من قبل سكان منطقة الريف، بدعوى أنهم قتلوا الكثير من الجنوب الإسبانيين". وأبرز مؤلف كتاب "إشكاليات التسوية الأممية والدولية للجرائم والجنح الدولية: حالة حرب الريف الكيماوية 1921-1926"، أن "التصريح من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدا، لأنه يروم الوصول إلى مصالحة مشتركة، في الوقت الذي يجب فيه أن تتحمل إسبانيا مسؤوليتها، لأن الذين قتلوا في المعركة عبارة عن جنود رغبوا في غزو المنطقة أثناء الحرب، بينما سقط في الجانب المغربي ضحايا مدنيون". وأردف أن "وزير الخارجية الإسباني يريد أن يدفع الحكومة المغربية إلى الإدلاء بتصريح حول الموضوع، لكن هذه الأخيرة لم تقدم أي موقف رسمي إلى حدود الآن، لأن ذلك يندرج في إطار الحرب الدبلوماسية بفعل الصراعات المتعددة التي تجمع البلدين". وأشار إلى أن "المغرب من حقه طرح الملف والدفاع عنه بمقتضى الحماية الدبلوماسية، لأن المسألة تتعلق بمواطنين مغاربة وقعوا ضحية جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي لا تتقادم أبدا، لذلك وجب عليه أن يطرحه على المستوى الدبلوماسي مع إسبانيا، وإذا تعذر الوصول إلى حل نهائي، من المفروض أن يسلك الطريق القضائي عبر التسوية في محكمة العدل الدولية".