لم يُعرف سجن في العالم ويشتهر كما عُرف واشتهر "الكاتراز"، صاحب الميزة والموقع على جزيرة بولاية سانفرانسييكو الجميلة. ظل السجن قلعة حصينة منيعة إلى أن أغلِق تماما في ستّينات القرن الماضي، وهو الذي عرف بأمّ السجون وأشهرها على الإطلاق في جميع الولايات المتّحدة الأمريكيّة. يقضي فيه أخطر المجرمين وأعتاهم ممّن يشكّلون خطرا على النزلاء في بقيّة السجون الأخرى فترة العقوبة دون رحمة. وقد ساعد على اختياره منزلا لهم تخوّف إدارة السّجون من إمكانيّة هروبهم، نظرا لإمكانيات الاختفاء والهروب المجرّبة، فقد كان "الكاتراز" عكس بقيّة السّجون معزولا بالمياه من جميع الجهات والنواحي. كان إقفال سجن "ألكتراز" منذ عقود استجابة لصيحات الإنسانيّة المرتفعة ضده، وإن بدا ظاهره محاولة لتحسين السّلوك. غير أنّ الحكومة الدنماركية، بزعامة اليمين المتطرف، قد تجاهلت تلكم الصيحات-كما يبدو-فباتت مصرّة على إعادة فتحه، باستحداث نظيره وإعادة استنساخ التجربة الفاشلة هناك في جزيرة "لندهولم" Lindholm الدنماركية الموحشة، ذات السبعة هكتارات، وسط الأمواج المظلمة العاتية الغاضبة. لا تخصّصها للمجرمين تأديبا لهم، كما فعلت السلطات الأمريكيّة مع المجرمين العتاة، ولكن تستعملها لإيواء الذين استجاروا بها من ظلم حكّامهم وسطوتهم عليهم، إرضاء لهوى سياسة مناهضة المهاجرين التي توخّتها الحكومة الحاليّة إرضاء لحزب الشعب الدنماركي المتطرّف. فقد وافقت الحكومة والحزب الشعبي الدنماركي المتطرف المناهض للمهاجرين، في أواخر نوفمبر الماضي، على قانون الماليّة الجديد لعام 2019، الذي يحدّد القيمة الماليّة التي ستنفقها الدولة على قطاعات مختلفة، كقطاعي الصحّة والأجانب على سبيل المثال... وقد كان من بين البنود الواردة في قانون الماليّة الجديد، بند مثير للجدل، مفاده: إجبار الأجانب الذين ارتكبوا جرائم وصدر في حقّهم حكم التسفير بعد قضاء فترة حكمهم، واللاجئين الذين رُفضت طلباتهم وصدرت في حقّهم قرارات التسفير، الإقامة الجبريّة المعزولة عن الحياة العامّة في الدنمارك بجزيرة ليندهولم Lindholm لفترة غير محددة وغير معروفة. يجب على المجرمين واللاجئين معا البقاء في الجزيرة ريثما يتمّ ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية؛ فهي إذن محطة مؤقتة مفتوحة الأجل، وهي الإشكاليّة القانونيّة التي تواجه السلطات الدنماركيّة؛ إذ كيف يمكن ترحيل من هم معرّضون للمتابعات القانونيّة والتعذيب في بلدانهم الأصليّة، ومنهم من لا وطن له أصلا. يقول المحرر السّياسي لصحيفة بيتي الدنماركية Andreas Karker الذي قام بجولة وخرج بانطباع له عن الجزيرة: "هنا جوّ بارد وغائم وثقيل الرّطوبة"، ويتابع: "الجزيرة تتمتع بمناظر خلّابة، لكنّني لا أعتقد أنّه سيكون من الممتع والمناسب أن يعيش النّاس على أرضها لفترة غير محددة"، في إشارة إلى السكّان الجدد الذين تخطّط الحكومة لنقلهم إليها. جزيرة صغيرة جدا تصل مساحتها حوالي سبعة هكتارات فحسب، وتنتمي إلى بلدية Vordingborg بجزيرة شيلاند. تقول الدكتورة Annette Bøtner، التي عملت في معهد "DTU" في Lindholm لمدّة تزيد عن ثلاثين عاما: "كنت مندهشة ومصدومة للغاية عندما سمعت في الأخبار أنّ الجزيرة ستكون مكانا لإيواء الأجانب!". كما خلق هذا القرار جوّا من النّقاش المتشنّج بين رافض وموافق ومتوقّف، بين أوساط الطبقات المختلفة من المجتمع الدنماركي. كانت الجزيرة، إلى حدود الموافقة على تحويلها مأوى للاجئين والمجرمين من قريب، موطنا للمعهد الوطني البيطري (DTU) للبحث الفيروسي، ومحطة تجريبيّة لأمراض الحمى القلاعيّة. هناك، يتم إجراء البحوث حول الأمراض الحيوانيّة، وقد تم إجراء محطة اختبار لمرض الحمى القلاعيّة. وعلى الجزيرة، بعيدا عن السكان، يجري الاختبار لمختلف أنواع الحيوانات تجنبا للعدوى. الحدث جعل وسائل الإعلام المحليّة بجميع أشكالها وأنواعها، والدوليّة كذلك، ومنها "نيويورك تايمز" وصحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست" وغيرها من أكبر وأشهر المنابر الإعلامية، تكتب وتعلق على كيفية عزل الدنمارك لبشر لا ذنب لهم إلّا أنّهم مهاجرون غير مرغوب فيهم، في جزيرة صغيرة كانت تعد حقل تجارب للحيوانات المختلفة؟! وليس جديدا في الدنمارك على حكومات تقودها أحزاب اليمين المتطرف إبداء كل أنواع العداء الممكنة للأجانب، وقد استمرّت بذلك منذ 2001 في التماهي مع أحزاب اليمين المتطرف، مجتهدة في ابتكار قوانين قاهرة غاية في التشدّد، ترهق الأجانب واللاجئين على حد سواء، بدءًا من التمييز العنصري في سوق العمل، وانتهاءً بمحاربتهم في أماكن السّكن التي صدرت مؤخرا على شكل قانون يجيز الهدم، ومن ثمّ تفريقهم وتوزيعهم هنا وهناك، دون مراعاة للمتضررين ماديّا ومعنويّا. يبدو أنّ سياسة التضييق والتهميش للأجانب في الدنمارك قد غلبت وطغت على باقي السياسات الأخرى، ومن فرطها، حصل ارتباك وتخبّط في أوساط السياسيّين، حيث رفضت وزيرة الهجرة الدنماركيّة Inger Støjberg المشاركة في المؤتمر الدّولي للهجرة والتنميّة الذي تحتضنه مدينة مرّاكش المغربيّة يومي العاشر والحادي عشر من شهر دجنبر 2018، وما ذلك إلّا لأنّها تدرك حجم الأسئلة المحرجة التي ستتلقّاها في المؤتمر من طرف المؤتمرين، فآثرت عدم المشاركة ظنّا منها أنّ ذلك يخرجها من المأزق والحرج الدولي؛ ما جعل رئيس وزرائها Lars Løkke Rasmussen يعوّضها في المهمّة ويسافر على مضض بنفسه إلى مراكش.