يعتبر الذكاء المالي من بين الذكاءات التي لقيت اهتماما كبيرا لدى المتخصصين وغير المتخصصين في الآونة الأخيرة، نظرا لشيوع وانتشار كتب وكبسولات النجاح التي توفر وصفات جاهزة للاغتناء السريع والمفاجئ، والتي غالبا ما تتخذ من كتابات روبرت كيوزاكي ونابليون هيل مرجعا لها، فهؤلاء هم أبرز رواد المدرسة النفسية الأمريكية في الذكاء المالي. في حقيقة الأمر، يقتصر اشتغال رواد هذه المدرسة على المستوى النفسي فحسب، ويهملون الجانب الاقتصادي والاجتماعي للعبة المال، ويؤكد الدكتور إدريس أوهلال: "أن المال لعبة اجتماعية "، أو بتعبير آخر، فهذه المدرسة تقتصر على جانب الاستعدادات الذاتية وطرق نمذجة سلوك الناجحين ماليا وأنماط التفكير الأشخاص الناجحين في مجال المال والأعمال. من بين أهم الأفكار التي نود إيصالها من خلال هذه المقالة العلمية الحديث عن المستوى الاقتصادي والاجتماعي للعبة المال، وكذا نقل لخبراتنا وتجارب الآخرين للاستفادة منها من أجل تكوين وعي جديد عن المال، بهدف تغيير منظورنا عن المال، وتكوين منظور جديد يستجيب لحاجيات السوق. كما أنني سأعتمد في هذه المقالة العلمية خلفيتي التقنية كمتخصص في هندسة المعلوميات، وكذا خلفيتي الاجتماعية كدارس وباحث في علم الاجتماع؛ فالمختصون في الذكاء المالي يدركون أهمية التحليل الاجتماعي، وأن المشتغلين في التحليل الاجتماعي أقدر على تقديم وصف دقيق ومفصل للمال أكثر ممن يشتغلون في مجال الاقتصاد أو ريادة الأعمال.. يمكن القول، إذن، إن الذكاء المالي ليس ظاهرة نفسية فحسب، بل تجاوز لها إلى ما يمكن أن نسميها؛ ظاهرة اقتصادية واجتماعية.. بطبيعة الحال، فهي معقدة ومتشابكة تشابكا عميقا، قد يصعب الفصل بين العناصر المكونة للذكاء المالي، وهذا التركيب والتعقيد ناتج عن تداخل مكوناته التي تتألف من الجانب النفسي، الاقتصادي والاجتماعي. إن الذكاء المالي ليس استعدادا نفسيا وفقط، بقدر ما هو قوة الرساميل التي يستخدمها الفاعل للولوج إلى عالم المال والأعمال، وكذا فهم عميق ومتجذر لقواعد وقوانين اشتغال لعبة المال. وإذا أردنا أن نلقي الضوء على برامج التنمية الذاتية التي تقدم في مجال الذكاء المالي، سنجد أنها تقتصر على تقديم هذه وصفات التحفيز السريعة، بعض نماذج لأشخاص نجحوا في مجال المال في أمريكا، وتقنيات الذكاء العاطفي لتحفيز الإرادات ولتغييب ذلك الوعي العميق تجاه المال، كمحدد للحياة الاجتماعية، كما تحدث عنه عالم الاجتماع، الفرنسي بيير بورديو، فالتحفيز مهم وأساسي لكنه ليس كل شيء، بقدر ما هو إلا بوابة للدخول إلى عالم المال والأعمال الذكية. كما أن تقنيات التحفيز السريعة هي تقنيات ذات منفعة وذات ضرر في الوقت نفسه، ولكنها غير مجدية في كثير من الأحيان. أما بالنسبة إلى قوة الرساميل التي يستخدمها الذي يعتزم الدخول إلى هذا العالم الصعب والمتغير، فهي رساميل متعددة. وقد فصل في هذا الموضوع عالم الاجتماع بيير بورديو، باعتبار أن هذه الرساميل هي المحدد لطبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فأكد على أهمية الرأسمال الثقافي باعتباره رمزا من رموز الهيمنة وترسيخ التمايز بين الأشخاص فيما بينهم، في حين أنه تحدث أيضا عن أهمية الاستعدادات الذاتية، وأن البيئة عامل مهم وحاسم في عملية التنشئة الاجتماعية.. مثلا، فأبناء الأسر الغنية يختلفون عن أبناء الأسر الفقيرة، من حيث البنية ونوعية المعارف التي يتلقونها، وقد يصل تأثير البيئة إلى الاختلاف في الاختيارات الذاتية في المستقبل القريب، اللهم إن لم تكن هناك استثناءات بسيطة، نتيجة اشتغال الشخص على تطوير إمكاناته وقدراته الذاتية... وبتعبير آخر، فالرساميل معناها المهارات والكفايات التي يتعلمها الفرد داخل الأسرة قبل المدرسة، وتترجم إلى سلوكيات وأفعال، هي نتيجة لقيم ومعتقدات مكتسبة تحدد تفاعلاتنا مع الكون والحياة والإنسان. ومن ثم، تحدد مصيرنا وموقعنا في خريطة الحياة.. إذن، فهذه الرساميل هي كتلة من المعتقدات والقيم والأفكار والخبرات والتجارب، فحسب قوتها وشدتها يستطيع المرء أن يلج إلى عالم المال والأعمال الذكية محمولا بمستندات ودعائم تجنبه إخفاقات البدايات، وتساعده على تحقيق أكبر قدر من الإنجازات مع جهد أقل، وسيكون لنا إن شاء في المقال المقبل حديث متسلسل عن الذكاء المالي، طبيعته، أهميته. *مدرب متخصص في تطوير الذات