منذ فترة طويلة وأنا أبحث عن مبرر مقنع أو سبب منطقي، كفيل بتفسير السلوك الإعلامي، الذي تنهجه مجموعة من وسائل الإعلام تجاه المغرب، بما فيها تلك التي تنتمي إلى الجوار الجغرافي، وتحديدا الصحافة الجزائرية. انثالت علي عشرات الأسئلة، وطوقتني الأعذار الممكنة والمستحيلة، استحضرت البعد الجغرافي والحساسيات التي قد تولدها عوامل وحسابات السياسة، لكن مع ذلك لم أهتد إلى جواب يشفي الغليل، ويبدد الغمة التي لا يستسيغها ولا يتحملها المغاربة. الأدهى في المسألة أن بعض وسائل الإعلام في الجار الشرقي تتابع بشكل متحامل ومبالغ فيه ما يحدث حتى في قرية صغيرة، في منطقة هامشية، وتوليه العناية اللازمة، ولا تدخر جهدا في تهويل الأمور وتضخيم وقائع وأحداث قد تبدو عادية وطبيعية في مسار تطور وتحول أي بلد صاعد بالمعنى السياسي والاقتصادي. تساءلت في قرارة نفسي قائلا: أيكون أداء صحافتنا، ومحدودية انتشارها وفعاليتها وتنافسيتها وإغراقها في المحلية، هو ما يدفع عددا من الصحف والقنوات إلى توجيه ضربات إلى المغرب، والطعن في طموحاته الديمقراطية وتطلعاته السياسية ورهاناته الاقتصادية، والسعي بشكل ملغوم وملتبس إلى تسويق خطاب سلبي وعدائي عن المغرب، بدوافع غامضة، فيها جرعة كبيرة من التحامل والتضليل والتشفي؟ ورغم أننا في المغرب نمعن في جلد ذواتنا وتعذيبها إلى حد المبالغة، فإنه، في المقابل، لا يجب أن نقلل من قيمة المجهود الذي تبذله بعض وسائل الإعلام المغربية. ولا أتصور، كيفما كانت التبريرات والتفسيرات، أن تكون دول في المنطقة العربية ما زالت ترى في المؤسسات والقوانين والاستشارات الشعبية والمساواة أشباحا مخيفة تقض المضاجع وتهتز لها الفرائص، أقدر على الإنتاج والعطاء الإعلامي. بالمقابل، فإن المغرب، الذي حقق، بحكم عوامل تاريخية وسياسية وثقافية وديمقراطية وتضحيات نضالية، طفرة لا يستهان بها، على صعيد حرية التعبير والرأي والتعددية السياسية والثقافية، وبات من الأمور العادية الخوض في قضايا وموضوعات لم تعد تنطوي على هالة من القداسة والخوف، مثلما كان الأمر عليه في السنوات الماضية، يقدم أي المغرب وكأنه بلد عقيم لا يلد أفكارا ولا يقدم حلولا، ولا يعيش دينامية سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية، آخرها تدشين القطار فائق السرعة كأول منجز في القارة الأفريقية، أو كأنه لا يعرف نقاشا جادا حول عدد من الملفات المصيرية والظواهر والممارسات التي تعيق تطور الممارسة الديمقراطية وتحديث المجتمع وإحداث القطائع الكبرى التي تعتبر ضرورة حاسمة لإنهاء التردد في التعاطي مع مجموعة من الاختيارات والقيم . من المؤكد أن لدى المغرب هفوات وأخطاء، كما أن لديه نقط قوة وإنجازات يجب أن تتعامل معها وسائل الإعلام، سواء في الشقيقة الجزائر أو غيرها، التي تحركها أجندة معينة، بصورة مهنية ونزيهة. لكن هذا الصنف من الصحافة غالبا ما يلهث وراء النقط السوداء لتعميم اليأس وإشاعة الإحباط، وتبخيس حتى المبادرات ذات البعد الاستراتيجي والتاريخي. تابعت الطريقة التي تفاعل بها جزء كبير من الصحافة الجزائرية مع مبادرة جلالة الملك محمد السادس لحل كل الخلافات مع الجار الشرقي، ورصدت من خلال قراءة كم هائل مما نشر في معظم الصحف، بالعربية والفرنسية، أن هناك موقفا تم إملاؤه حرفيا من طرف الجهة التي يهمها الأمر، بشكل جعل مختلف المنابر الإعلامية تصرف نفس الموقف بنفس النعوت والأوصاف للخطاب، مع بعض التنويع في الصياغة. وهكذا انعقد الإجماع على أن المبادرة غير بريئة، هدفها ربح الوقت. وهناك من اعتبر أن الخطاب الذي تضمن الدعوة إلى حل الخلافات الثنائية تجاوزته المعطيات الميدانية والسياسية، وأن العرض المغربي جاء لتحويل أنظار المغاربة والتنفيس عن الأزمة الاقتصادية. ومنهم من وصف المبادرة بمناورة جديدة، وأن التوقيت الذي اختير لها ينطوي على حسابات يأتي في طليعتها السعي إلى تحويل الجزائر إلى طرف مباشر في نزاع الصحراء، في الوقت الذي تتمسك هذه الأخيرة بصفة ملاحظ. كما أن هناك من اعتبر أن المبادرة لو وردت في خطاب العرش، مثلا، لكان لها وقع آخر في الجزائر. أنا لن أدخل في سجال مع الأشقاء في الجزائر، ولن أتهم أحدا بتفخيخ وتأجيج الوضع في المنطقة. لكن في جميع الأحوال، الرسائل المسمومة التي تنقلها وسائل الإعلام في الجزائر الشقيقة، والمقالات والأخبار المشحونة والتضليلية، التي تنشر في أغلبية الصحف والقنوات، والتي يهدف محرروها إلى تهييج الرأي العام وإقناعه بأطروحة "المغرب-فوبيا"، هي كون المغرب هو البلد الذي يشكل خطرا داهما على الجزائر. إن ممارسة من هذا القبيل لا يمكن إلا أن تكرس حالة الجمود والتوتر وكلفة سياسية واقتصادية واجتماعية بسبب غياب الاتحاد المغاربي، وترسيخ مشاعر الشك وتربية وتغذية الكراهية. إن منطق التاريخ والمصالح المشتركة يدعو الأشقاء إلى أن يضعوا الماضي خلفهم كي يسهل التحرك نحو المستقبل، مثلما فعلت دول كثيرة، كان آخرها المصالحة التي تمت بين إثيوبيا وإريتريا، رغم سنوات من الحروب الضارية والمدمرة التي خاضها جيشا البلدين. إن سلوكا إعلاميا على هذا المنوال لا يمكن إلا أن يرفض الاحتكام إلى صراحة الوقائع ووضوح الواقع ومعيار المهنية، علما أن القيمين على بعض وسائل الإعلام التقليدية والبديلة يعرفون كثيرا من الحقائق الصارخة والمعطيات الصحيحة، لكنهم يرفضون النظر إلى استحقاقات التاريخ ومقتضيات الجغرافية من شرفة الواقعية والبراغماتية، ويقفزون دون مبرر مقنع على ما يحبل به المغرب من أحداث وتحولات، وما يعتمل في نسيجه السياسي والاجتماعي والثقافي من تفاعلات ونقاشات وتطورات ودعوات صادقة لإحداث قطيعة جريئة مع ترسبات الماضي. وكان من الأجدر أن تتابع المؤسسات، التي يديرونها بطريقة نزيهة، المشهد المغربي الذي تتصارع فيه تيارات وخيارات، صراعا قد يكون حادا وشرسا في بعض الأحيان، لبلورة أرضيات وتصورات تلتقط ذبذبات ونبضات المجتمع، لا أن تختزل تلك المؤسسات الإعلامية، وحتى السياسية، المغرب وتحولاته في بعض الممارسات والظواهر والمشاهد السلبية. وما يثير الانتباه في هذا المضمار هو انخراط عدد من الصحف والقنوات الجزائرية في حملات غير مفهومة للتهجم على التجربة الديمقراطية المغربية، رغم كل الانتقادات التي يمكن أن تؤاخذ عليها، وشيطنة كل مبادرة يطلقها النظام السياسي المغربي، وتشويه هذا النظام، وتحميله كل المآسي التي تقع في شمال إفريقيا، وخاصة تحميله مسؤولية انهيار حلم إقامة الاتحاد المغاربي. وعندما تتناول بعض الصحف والقنوات التلفزية الجزائرية الشؤون المغربية، فإنها تعمد إلى المقاربة الأسوأ، وكأن المغرب بلد يرقد فوق برميل من البارود قابل للانفجار في كل حين، ولا تنتشر على ترابه سوى المآسي وأحزمة الفقر والبؤس، والاحتجاجات التي لا تنتهي، والخروقات المرتكبة ضد حقوق الإنسان، والاضطرابات، والانفلات الأمني، وكل الصور السوداء والقاتمة . أمام هذا السلوك غير الطبيعي لا يمكن للمواطن المغربي إلا أن ينتابه قلق جراء هذه المقاربة، وهذه النظرة، وبالتالي تصنيفها في خانة التحامل الإعلامي، الذي تكون وراءه أحيانا حفنة من المصابين بحساسية تجاه المغرب، أو اللوبيات المسكونة بعقدة المغرب، وهي لوبيات قاصرة في فهمها للأمور، وسريعة التفاعل مع أي رأي يبدو لها معارضا ومنتقدا وراديكاليا. ولا تتردد هذه اللوبيات في استغلال ما تتوفر عليه من مواقع وهوامش للتحرك والمناورة قصد محاصرة المغرب وتشويه سمعته في كل المناسبات والسياقات . هناك مسألة جوهرية يجب أن تتحول إلى قناعة راسخة لدى كل الفاعلين والمسؤولين المغاربة في مختلف المجالات، مفادها أن القضايا والمشاكل التي ينبغي مناقشتها والصور التي ينبغي تسويقها عن وطنهم لا يمكن إلا أن تكون عملا وطنيا وصناعة مغربية. وهذا يحتم فتح ورش تأهيل فعلي وشامل للصرح الإعلامي الوطني بكل مكوناته، وتمكين هذا الصرح من الشروط المهنية والبشرية والتقنية والمالية والقانونية ليحقق النجاح المنشود، وليكون قادرا على المنافسة وصناعة رأي عام إيجابي وفعال، بما في ذلك الشرط المتعلق بخيار الحرية والاستقلالية والمهنية والنزاهة، الضامن الأساسي للإعلام الهادف والمواطن والمؤمن بالتعدد والاختلاف والمساواة والقيم الإيجابية والعيش المشترك، خاصة في ظل مرحلة سياسية ترفع فيها شعارات مؤسسة ومفصلية، كالمصالحات، والإصلاحات الكبرى، ودولة القانون والمؤسسات واحترام حقوق الإنسان، والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والمجالية، والأوراش المهيكلة، والحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، والحداثة والديمقراطية، ومراجعة النموذج التنموي ودولة الجهات. وأم الخلاصات في السياق الذي نتحدث فيه هي أنه يتعين علينا كمغاربة أن نعض بالنواجذ على فرص النجاح والتألق والتقدم كلما أتيحت لنا، لأنها ستمكننا من قطف جملة من الثمار، وتحقيق عدد من الأهداف. وبالمقابل كلما أضعنا فرصة لسبب من الأسباب، رجعنا خطوات إلى الخلف، وحكمنا على شعب يحب الفرح والانتصارات، ويتغنى بأمجاده، ويعتز بانتمائه وتاريخه وحضارته وثقافته، بالغبن والحزن واليأس وعدم الثقة واللانتماء . *صحافي وكاتب