دخل مشروع التنظيم القضائي رقم 15/38 منعطفا تاريخيا بعد المصادقة عليه من طرف مجلس المستشارين بتاريخ 27 يوليوز 2018، بعد الإفراج عنه من طرف لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، وعقب نقاشات وتجاذبات عدة بين الفرقاء السياسيين، وبعد مقترحات وتعديلات عديدة من طرف الهيئات المهنية القضائية والنقابية، سواء في صفوف القضاة أو الإدارة المركزية أو هيئة كتابة الضبط. جاء هذا التنظيم القضائي الجديد ليعكس طموحات وتطلعات كل المتدخلين في القطاع ويشكل حلقة في سلسلة من التدشينات القانونية التي كان من أهمها القانون التنظيمي الخاص بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وقانون نقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى رئيس النيابة العامة رقم 33/17 بعد تعيين الأستاذ عبد النبوي وكيلا عاما للملك رئيسا للنيابة العامة من طرف جلالة الملك، ثم النظام الأساسي الخاص بالقضاة، والقانون الأساسي الخاص بموظفي المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والمرسوم الحكومي القاضي بتغيير الخريطة القضائية في المغرب وإحداث محاكم استئناف جديدة والارتقاء ب 12 مركز قاضٍ مقيم وإحداث محاكم جديدة لأول مرة وتغيير الاختصاص المكاني لسبعة محاكم ابتدائية. هذه الديناميكية القانونية والتنظيمية عجلت بإخراج التنظيم القضائي الجديد ليواكب ويكمل مسلسل الإصلاحات القضائية على اعتبار أنه جوهر الإصلاح وقطب الرحى في عملية إصلاح منظومة العدالة. وتكمن أهمية التنظيم القضائي أمام هذه الترسانة القانونية في اعتباره اللبنة الأساسية لعمل المحاكم، والمحدد لقواعد سيرها وضبط اختصاصات ومسؤوليات كل من السلطة القضائية والإدارة القضائية والأدوار المنوطة بهما، سعيا الى الرقي بجودة الخدمة القضائية وتقريبها من المتقاضين. فما هي إذن أهم مستجدات التنظيم القضائي الجديد؟ وما دورها في تعزيز وضمان استقلالية الإدارة القضائية؟ لا تفصلنا إلا أيام معدودات على دخول قانون التنظيم القضائي الجديد حيز التطبيق في صيغته النهائية المصادق عليها من طرف مجلس المستشارين، ولا نعتقد في هذا الصدد أن تكون هناك قراءة ثانية بحكم إجماع كل الفرقاء السياسيين والمهنيين على الصيغة الحالية لأنها ترضي طموحات وتطلعات الفاعلين في منظومة العادلة ولو بشكل متفاوت. وقد جاء هذا القانون الجديد اسما على مسمى؛ فهو جديد من حيث أنه يقطع مع سابقه مع الإبقاء على بعض البنود والمواد السابقة، ولكونه جاء بمقتضيات جديدة وتصورات جديدة أيضا تعكس الرؤية الشمولية لإصطلاح منظومة العدالة كما أرادها جلالة الملك، وتنزيلا لتوصيات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة. ولعل أهم المستجدات التي جاء بها التنظيم القضائي الجديد من حيث الشكل، التنصيص لأول مرة على مصطلح الإدارة القضائية في المادة 25 منه، وكذا الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان التنظيم الإداري لمحكمة النقض ومصالح الإدارة القضائية بها، كما أنه أفرد فصلا كاملا من الباب الثاني تحت اسم منظومة التدبير، وكأن المشرع بذلك أراد أن يرسل إشارة قوية إلى أن العمل التدبيري والإداري منفصل تماما عن العمل القضائي، وهو ما تؤكده المادة 4 والمادة 21 من القانون نفسه في صيغته الأخيرة، حيث تم التنصيص على استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والتنفيذية. أما من حيث الموضوع، فقد تم توحيد عمل كتابة الضبط، كما تم التنصيص على التفتيش الإداري والمالي للمحاكم وإحداث مكتب المحكمة، وغيرها من المستجدات والتعديلات. ويبقى أهم مستجد هو إحداث منصب الكاتب العام للمحكمة. فبعد جدال طويل حول هذا المنصب، سيتم لأول مرة إحداث هذا المنصب على اعتبار أنها مؤسسة جديدة تضاف إلى مؤسسة الرئيس ومؤسسة وكيل الملك وباقي المؤسسات الأخرى داخل المحكمة، سواء درجة أولى أو درجة ثانية، ليصبح بذلك عمل المحاكم مقسما بين ثلاث مؤسسات لكل منها أدوارها واختصاصاتها، تشتغل في انسجام وتناغم تامين بين مكوناتها. ويأتي إحداث هذه المؤسسة لتعكس المبدأ الدستوري القاضي بفصل السلط بين ما هو قضائي وما هو تنفيذي "إداري"، وليس كما اعتبرت بعض الجهات أن المحاكم ستدار بثلاثة رؤوس ستعرقل عمل المحاكم، بل إنه التجسيد الفعلي والعملي لاستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. ويعتبر الكاتب العام للمحكمة الرئيس التسلسلي لموظفي كتابة الضبط ورؤساء المصالح التابعين له كما جاء في صريح العبارة في المادة 23 من القانون نفسه في صيغته الحالية؛ إذ يعد المسؤول الأول عن موظفي الإدارة القضائية والمشرف المباشر عنهم من حيث مراقبة وتقيم أدائهم وتنظيم عملهم وتدبير الرخص المتعلقة بهم، وهو بذلك يرفع العبء عن مؤسسة رئيس المحكمة ووكيل الملك في القيام بهذه المهمة التي كانت تثقل كاهلهما في القيام بالعمل القضائي المناط بهما، فكيف يعقل أن ينشغل المسؤول القضائي بمشاكل موظفي الإدارة القضائية وبمراقبة وضبط تجهيز المحاكم ومعاينة بعض الإصلاحات وحتى بعض الأمور التقنية التي لا تدخل في صميم مهامه؟ وبالعودة إلى الجدال الدائر حول منصب الكاتب العام وشروط الولوج إليه، فقد حسم المشرع المغربي هذا الأمر بعدما دافعت بعض الجهات المهنية القضائية على أن يكون هذا المنصب من اختصاص القضاة دون سواهم، وهو ما اعتبرته بعض الأوساط المهنية ضربا لمبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، فكيف يمكن لقاضٍ تولى هذا المنصب أن يجمع بين ما هو قضائي وما هو إداري وتدبيري؟ وقد نص المشرع في الفقرة الأخيرة من المادة 23 على أن يتم تعين الكاتب العام للمحكمة من بين أطر كتابة الضبط، كما قطع الشك باليقين على بعض الجهات التي دعت إلى تعين الكاتب العام للمحكمة من خارج هيئة كتابة الضبط والاستفادة من خبرات وتجارب أطر الإدارات الأخرى غير وزارة العدل. وهنا تكمن أهمية مؤسسة الكاتب العام للمحكمة؛ حيث تم الارتقاء بجهاز كتابة الضبط، وهو ما يشكل انتصارا لإرادة وطموحات الهيئات النقابية، خصوصا الأكثر تمثيلية، بعد دفاعها المستميت عن استقلالية الإدارة القضائية على اعتبار أن مؤسسة الكاتب العام للمحكمة هي مؤسسة مستقلة عن الجهاز القضائي تابعة إداريا بشكل مباشر لسلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، ومدخل بل وضمانة أساسية لاستقلالية الإدارة القضائية عن السلطة القضائية وصمام الأمان. ولا يقصد هنا بالاستقلالية الفصل التام بين الجهازين الإداري "التنفيذي" والقضائي، بل العمل المشترك وفق اختصاصات واضحة لكل جهاز في إطار من التعاون والتوازن والتنسيق بغية تحقيق الهدف المشترك وهو الرقي بجودة الخدمة القضائية وتقريب القضاء من المتقاضين وضمان حقوقهم. لكن ليس كل ما يلمع ذهبا؛ فما يعاب على هذه المادة ال 23 من التنظيم القضائي الجديد هو إشراف المسؤولين القضائيين على مهام الكاتب العام للمحكمة، وهو ما يقزم من دور الكاتب العام، وهذا ما تؤكده الفقرة ما قبل الأخيرة من المادة نفسها التي جاء فيها ما يلي: "(...) يمارس مهامه تحت إشراف المسؤولين القضائيين". لكن تبقى هاته العبارة من هذه الفقرة أكثر حكمة وتبصرا من سابقتها في الصيغة ما قبل الأخيرة من مشروع التنظيم القضائي المصادق عليها من قبل مجلس النواب بتاريخ 7 يونيو 2016 التي كانت تنص عليها المادة 21 (قبل ان تعوضها المادة 23 في الصيغة الأخيرة) في الفقرة الثالثة، والتي جاء فيها "(...) يمارس مهامه تحت السلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين بالمحكمة". وهنا يتضح الفرق بين مصطلح السلطة المباشرة ومصطلح الإشراف؛ فلا مجال للمقارنة بينهما على الرغم من أن مصطلح الإشراف جاء غامضا إلى حد ما؛ الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن حدود هذا الإشراف ومنتهاه، وهو المصطلح نفسه الذي تكرر في المادة 19 من القانون نفسه في صيغته الأخيرة حيث جاء فيه: "يعمل موظفو كتابة الضبط تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، ويمارسون مهامهم تحت إشراف المسؤولين القضائيين بالمحكمة". وهنا يتبين أن المشرع حاول إرضاء كل المتدخلين في القطاع من هيئات مهنية ونقابية؛ الأمر الذي أوقعه في ارتباك تشريعي عوض الحسم في استقلالية مؤسسة الكاتب العام للمحكمة عن السلطة القضائية وتبعيته المباشرة لسلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، مع التنصيص على التنسيق مع المسؤولين القضائيين عوض الإشراف المباشر للمسؤولين القضائيين، فكيف يمكن للكاتب العام للمحكمة أن يكون الرئيس التسلسلي لموظفي كتابة الضبط وفي الوقت نفسه يمارس موظفو الإدارة القضائية مهامهم تحت إشراف المسؤولين القضائيين بالمحكمة؟ وهنا يتضح الارتباك الذي وقع فيه المشرع. وبالعودة إلى مستجدات مشروع قانون التنظيم القضائي الجديد وعلاقته بمؤسسة الكاتب العام للمحكمة، نجد أنه لأول مرة يتم إحداث مكتب المحكمة في المادة 26 منه، الذي يمكن اعتباره هيئة تنظيمية داخل المحكمة مهمته وضع مشروع برنامج تنظيم العمل بالمحكمة. ويتضح هنا أن دور الكاتب العام للمحكمة، سواء بمحاكم درجة أولى أو درجة ثانية أو محكمة النقض أو المحاكم المختصة، لا يعدو أن يكون مجرد صفة استشارية ومقترحاته غير ملزمة، فمهمته تقتصر على إنجاز محضر بأشغال المكتب تدون فيه المناقشات والقرارات المتخذة يوقعه إلى جانب الرئيس، كما أن حضوره في أشغال الجمعية العامة للمحكمة بعد عرضه لتقرير يتضمن ملاحظاته ومقترحاته فيما يرجع لاختصاصاته يكون بصفة استشارية لا غير، وهو الأمر نفسه بالنسبة لمحكمة النقض. ويمكن القول إن مشروع التنظيم القضائي في صيغته الأخيرة المصادق عليه من طرف مجلس المستشارين بعد مقترحات وتعديلات عدة تقدمت بها الحكومة والفرق والمجموعات البرلمانية، البالغة 107 تعديلات، حيث تمت المصادقة من قبل لجنة العدل والتشريع على 75 تعديلا بتاريخ 23 يوليوز 2018، حسب تقرير اللجنة نفسها، (يمكن القول إنه) يشكل قفزة نوعية في مجموع الترسانة القانونية المواكبة لمشروع إصلاح منظومة العدالة. فعلى الرغم من بعض الملاحظات، يبقى هذا القانون جد متميز عن سابقه من حيث التصور والمضامين الجديدة التي تعكس وتترجم مخرجات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، في انتظار ما ستسفر عنه باقي مشاريع الإصلاح القانوني، ونخص بالذكر هنا مشاريع قوانين المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية وكذا القانون الجنائي. وفي سياق ما سيواكب التنزيل الفعلي لقانون التنظيم القضائي الجديد بعد نشره في الجريدة الرسمية ودخوله حيز التطبيق من مراسيم تنظيمية ودوريات ومذكرات، نأمل أن تستدرك وزارة العدل ما أغفله المشرع لتعيد بذلك قطار الإصلاح إلى مساره السليم وسكته المتوازية. ويبقى أن نشيد هنا بأهمية العنصر البشري المتمثل في أطر الإدارة القضائية المؤهلة القادرة على استيعاب مضامين وفلسفة قانون التنظيم القضائي الجديد والدفع باستقلالية الإدارة القضائية نحو تحقيق الأهداف والطموحات المنشودة، وهذا لن يتأتى إلا من خلال الإيمان الراسخ لهذه الأطر بأهمية مؤسسة الكاتب العام للمحكمة ودوره الأساسي والمحوري في ضمان وتعزيز استقلالية الإدارة القضائية. كما لا بد في هذا الصدد من الإسراع في إخراج مشروع المدرسة الوطنية للإدارة القضائية إلى حيز الوجود التي طالبت بها النقابة المهنية الأكثر تمثيلية وكانت محط اهتمام السيد وزير العدل الأستاذ محمد أوجار، الذي وعد في العديد من المحطات واللقاءات التي نظمتها النقابة الديمقراطية للعدل وودادية موظفي العدل، والتي كانت آخرها محطة المؤتمر الدولي للاتحاد الأوروبي لكتاب الضبط المنظم من طرف المكتب المركزي لودادية موظفي العدل بطنجة سنة 2017، (وعد) بأنها سترى النور عما قريب، لتكون مشتلا لإنتاج النخب وأطر الإدارة القضائية المؤهلة والقادرة على تحمل مسؤولية هذه الاستقلالية من خلال إعطاء مؤسسة الكاتب العام للمحكمة الدور الذي تستحقه في أفق ضمان استقلالية الإدارة القضائية عن السلطة القضائية، ولتضطلع بالأدوار الإدارية والتنفيذية المنوطة بها في تقديم خدمة قضائية ذات جودة عالية ضمانا لحقوق المتقاضين ومرتفقي المحاكم بدرجاتها. *منتدب قضائي بالمحكمة الابتدائية بالقصر الكبير.طالب باحث في سلك الدكتوراه جامعة عبد المالك السعدي بطنجة.