لم أرَ ليبيا أبداً. ولم أتخيّل إلى أيّ حدّ يُمكن لحدث سياسي وعسكري مماثل، بكلّ ما لرمزيّةِ تصفيةِ رجل سلطةٍ والتّنكيل بجثته من دلالات، أنْ يُحرّك لديّ شهيّة الكتابة عن أرض لا أعرفها إلاّ من خلال أساطير الإغريق والرّومان، فيلم المخرج مصطفى العقّاد عن المقاوِم عمر المختار، بعض التشابهات الطّريفة بين الدّارجتين اللّيبية والتّونسية، وذكريات مضبّبة أحتفظ بها من عبورٍ سماويٍّ فوق سواحل هاته الصّحراء الدّامية. رأيتُ، كبقية المتفرّجين، أشرطة تتضمّن تفاصيلَ اللّحظات الأخيرة من حياة آخر الأصنام؛ أطلقوا عليه رصاصات قاتلة، جرجروه أرضاً، شدّوا شعره ميّتاً وأتلفوا تماثيله الواقفة في السّاحات العامّة. سمعتُ أحدهم يصرخ في غمرة التّكبير: "تنحّوا جانباً، دعونا نُصوّر"، كما لو كانت مُصادرة الجسد في حدّ ذاتها غير كافية للانفراج، وإنّما تحوّلت حاجة التحرّر إلى رغبة في التّخليد الاحتقاريّ لمشاهد النّزيف والبصق واللّطم. لا يَشِي هذا بالضّغينة والانتقام فقط، بل يستشرف حالة خضوع للحضور الرّمزي المُستمر الذّي رسّخه الجسم وجثّته، وربّما استمرار سطوتهما لسنوات عديدة. وعلى نفس منوال حامل الكاميرا أمام وجه الأسير، استذكرتْ وزيرة الخارجية الأمريكية قولة شهيرة لجول سيزار (Jules César) وحَوَّرَتْهَا كما يلي: "جئنا، رأينا، غلبنا، ولقد ماتَ" (Veni, vidi, vici). إنّ تواطؤ الصّورة الجُوانيّة (التي وثّقت من الدّاخل) والسّلطة البرّانية (التّي تفرّجت من الخارج)، في غياب شبه كامل لمبدأ الصّفح، يكاد يُعلن تكراراً وامتداداً وتحريضاً على تصفيح الأذهان بأكذوبات الأصل والشّبيه. دعونا نُشرّح بعض الأشلاء: لماذا عُرضت الجثّة أمام الحشد إلى أنْ تعفّنت؟ ما دافع الخوض في مراسيم الدّفن بحدّة تفوقُ تعلّق النّاس بالتّقاليد والدّين نفسه؟ ولماذا، كما كتب أحدهم، لم يوضع الجثمان في متحف للفنّ المُعاصر؟ يتحدّث المفكّر الفرنسي ريجيس دوبري (Régis DEBRAY) في كتابه "حياة الصّورة وموتها" عن عادة اتّبعها الفرنسيون بعد وفاة حُكّامهم : كانوا يستعرضون جثّة الملك لمدّة أربعين يوماً يبقى خلالها الهالك قائما بشؤون البلاد، إلى أن تفوح رائحة اللّحم الفاسد منه. ثم يصنعون تمثالاً يقوم مقامه، يستقبل الشخصيات ويُشرف على الولائم والوضائم، فيضحى النّاسخ أكثر أهميّة من المنسُوخ، لأنّ الجسد راحلٌ والتمثال باقٍ. لقد فجّرت مشاهد الاعتقال وما تلاها في الحالة اللّيبية، شئنا أم أبينا، مجداً أسطورياً لصاحبها جعلتني، بإحساس متجرّد عن أيّ رهافة، أستعيد مشاهد قتل المُحارب جيفارا، وبدون مبالغة أيضاً دخلتُ بالتّخمين دائرةَ سرد الطّبري للّقطات التاريخية التّي عاشها الخليفة عثمان بن عفّان حين اغتياله. لا تهمّ القيمة الاعتبارية للأشخاص، وإن كانت رمزيّة سلطتهم حاضرة، فما يشغلني هاهنا يقتصر على استقراء قوّة العبور من حياة حكائيّة إلى حياة تصويريّة : طوال أزيد من أربعين سنة، انحصرت معرفة اللّيبيين لحاكم البلاد في الجانب الاستعراضي (خطابات، جولات في الشوارع،..)، وكما أيّ رعيّة تُجلّ سيّدها –طوعا أو كرها- كان المُتضرّرون من نظامه يتخيّلونه في المرحاض، مريضاً على الفراش أو ميّتاً، أي في أشدّ لحظات الضّعف البشري هواناً؛ عندما أحسّوا بعجزهم عن ملامسة نسج الخيال في واقع الأحداث، حرّضت الصّورة أفكارهم الأكثر سرية، حول غائط القائد ودمه، على ملاحقة بقايا كرّسَ وجودها حيّا (بالقهر والاستخفاف) وخلّدوها له ميّتا (بالحقد والاستهتار). قبل انطلاق الموكب الجنائزيّ، بين دهشة تحلّل الرّمز مع الزّمن والرّغبة في تحنيطه، حارَ المُنتقمون بخصوص إدارة الرّفات : إهمال الأسير/الجريح، قبل خروج الرّوح منه، لكيلا تضيع فرصة الانتقام الآني. وفي المقابل، إحاطة أشياءه بكثير من العناية - حقيبته اليدويّة وما فيها من وثائق هوية (تشبثّ بالأرض/عظمة مجنونة) وهواتفه النقّالة (تواصل مع العالم/قناة الرّأي السّورية) – حتّى تبقى أثراً بارزاً للاءاتٍ سياسيّةٍ مكبوتة لحِقها إفناء وجودي وتصفية تَرِكَة رمزيّة. كأنّي بهم يقولون : "ذا إرثنا، نَبغضُه ونُمجّدُه، وعلى كلّ واحد منّا أن يقتصّ منه ولو بنظرة ازدراء، ولو بصورة عن قرب". ساهم المجتمع الدّولي في حياكة هذا المشهد ودفع بالمؤسسات الصحفية إلى تدويله، لا لإبراز انتصار إرادة شعبيّة بل لإفشال أيّ مسعى للمغفرة لحليفٍ احترقَ في مقابر الحكومات الغربية. فما يهُمّ هؤلاء الإنسانيّين الطّيبيين هو تقسيم التّرِكَة المادية : ثمالة نفطيّة انتزعت الفساد من شرعيّة بائدة وأعادت إحياءه في شرعيّة ناشئة. لم يكُن هذا التلويث الإعلامي سوى حاجز فعليّ أمام تنقية لحظة تاريخية كان المُراد منها، على الأقلّ، لا مسامحة المُجرمين ولا الاستماع إلى زعيمهم بل الانصات لصوت العدالة، مهما خفُضت نبرته وقلّت حيلته. ألم يكن مُتاحاً فهم الحدث –حدث تهاوي الرّجل لا سقوط "النظام"- ما وراء الخير والشر؟ للأسف، انحبست احتمالات التّوبة وانبجست فوقها لحى داكنة، تتكلّم لغة غير الإسلام رغم نداءات التّوحيد والتّكبير، فحجبتْ عن صاحب الطّلاسيم واقعة الموت على الرّغم من اللّغة المشتركة بين الجانبين : تقديم القرابين لإرضاء الآلهة/لسان حال الوثنيّة عذبٌ وقاسٍ. في مُعلّقة طرفة بن العبد شيئان من نازلة اللّيبيّين : أطلال الحبيبة خولة وذكرياتها المحفورة في ظاهر اليد، ثم مضاضة ظلم ذوي القربى وشدّته. لكن عن أيّ قرابة نتحدّث بحقّ؟ من هم، ومن هو؟ وهل لأنّهم يعرفون بعضهم بالقبيلة وباسم العائلة، كما قال ذات مرّة، رموه في البيداء ليتخلصّوا منه، هو وجههم الآخر؟ دعونا، أوّلا، نستشف معالم التّشابه في خطاب الطّرفين. لقد كان القذافي مستعدّاً للتضحية باللّيبيين من أجل الإبقاء على ليبيا التي شيّد عظمتها الحديثة، في نظره. وكان المُتمرّدون، على قدم المساواة في ذلك، قد أعلنوها حرباً مفتوحة تُزيح نظامَ حكم قمعي، وإنْ مات غيرهم من الذّين اختاروا طريقا آخر إلى الحرية، أو العبودية، ثم وجدوا أنفسهم "مُرغمين" على مسايرة مجرى الأحداث. رؤيا النّبي إبراهيم لم تلزمه هو وحده وإنّما ألزمتْ ولده أيضاً، بيد أنّ الحيّز الزّمني الفاصل بين ساعة الرؤية المناميّة ولحظة الذّبح احتوى نقاش ماهية التّضحية. حينئذ بلغ الصّفح، في الحكمة الإبراهيميّة، درجاته العُلويّة وأصبح الذّبيح (ضحيّة الإله) هو فاعل النَّذر (خادم الإله). ما حدث في ليبيا، عاد بالوثنيّة إلى ما قبل إبراهيم أي إلى ما نسمّيه اليوم جريمة ضدّ الإنسانية، بل إنّها الجريمة ضدّ الكائن في أبشع بدائيّتها وبداوتها العصريّة. إنّ إدّعاءات الأخوّة والقُرب ليست دوافع للخضوع وللمُهادنة، وحيثما يكون للضّرر أو للمصلحة تأثير تذوب "أخلاق الجوار" : أخ على فراش الأخ مع زوجته، مضاجعة فرنسا للمغرب قصد إثارة غيرة الجزائر، افتضاض المملكة الشّريفة بكارة موريتانيا التّاريخية، وهكذا. نحن إذن بصدد كوارث تعبر مجالات علم الأخلاق، الأنثربولوجيا والسياسة بغرابة قد لا نفهم منها ولا معها شيئا؛ ف"التّطبيع" مع العدوّ ممكن، وممارسة الحُبّ مع العدوّة مُباح، لكن الصّفح عن القريب بعيد، مؤلم، وغير مُتاح. يبدو لي، باقتراض لغة التّفكيك المعروفة، أنّ ممارسة الصّفح واقعة على خارطة الإستحالة : حيث لا نتخيّل الصّفحَ، يكون هنالك صفحٌ ممكن. عودة إلى النّموذج اللّيبي، نُقرّ أنّ القرابة حاصلة رغم ملامح الغدر فيها، وذي علّة من علل إنمحاء الصّفح هنا. ما الذّي حصل عند قيام التمرد وإبّان اقتراف الجريمة المُزدوجة ؟ يقول القذّافي بأنّ العين حقّ، إخوته العرب حسدوه وحسدوا ليبيا بأكملها، والمتمرّدون يقولون بأنّ سخط الله قد حلّ من كثرة الكبائر. فلنُحضر مجمراً حاميا ولنضع فيه بعض "الشبّة والحرمل" لنفقأ هذه "العين" ونرى بياض العمى في السّحر الأرضي والغضب الإلهي. باستطاعتنا توظيف التقارب الممتع في اللغة الفرنسية لكلمتي سحر (Magie) وصورة (Image)، واضعين "الحقيقة البصريّة" بينهما، بغرض الجواب عن سؤال التّعريف الآنف خارج الصيغة الاعتيادية ("من يكونون؟" و"من يكون؟" عوض "من هم؟" و"من هو؟"). لقد كان العقيد ساحراً، اعتداداً بشعاراته الخطابية لا بروايات إيمانه بالسّحر الأسود، يرى الواقع لامرئيا وغائبا عن الآخرين وبقي مؤمنا بذلك حتى آخر طلقة مميتة أصابته؛ لم يكن السّحر في ممارساته حيلة اجتماعية فحسب ولكن أيضاً قيمة باطنية تُغذّي هالة الصّورة على حساب النّاظر إليها. من ناحية المُتمرّدين، كانت مسألة اختزال "الفضيلة السّحرية" (نور الله الذّي لا تقوى آلة التصوير على التقاطه) في صنم بشري بمثابة فضيحة عقائدية استوجب معها طمس السّحر عبر محاصرة الصّورة لتجميد النورانية الواهمة للعقيد، وتمجيد نورانية الإله الخالد. بِلُغَتِهِمْ، كان القذّافي "شيطانا" (مُشركًا) قبل أن يكون "مؤمنا عاصيا" (مُقترفَ صغائر)، وبالتّالي استلزم حبسه صوتا وصورة (والصّورة نرجسيّة واستعراضية) وتوجّب الاستنجاد بنصوص دينية (عامّة وقاطعة) لإطباع شيء من الوجاهة على الموقف: خطبة القرضاوي في قطر، وفقهاء آخرون من مشارق الأرض ومغاربها، ذهب بعضهم إلى الاستشهاد بتسجيل الشيخ كشك لتبرير تأخير الدّفن، وذا في حقيقة الأمر استخلاص للضّغينة الاجتماعية (الحقيقة الواقعة/المؤلمة) من قلب الخطاب الدّيني (الحقيقة الغائبة/النّاعمة). وعلى الرّغم من أنّ التّصوير مبدئيا "حرام"، في تصوّر عدد كبير من الذّين تمرّدوا على العقيد واعتقلوه، إلاّ أنّهم اختاروا سحر الصّورة (المتلازمةُ الوثنية-الحديثة)، لتحقيق القتل المادّي للأشكال الذّهنية المكرورة، أي ليتحرّروا من عُقد السّياسة والذّات : بإمكانهم إعادة شريط اعتقال الرّجل لل"متعة"، كما نعيد الاستماع لمعزوفات كلاسيكية تُذكّرنا بأمكنة وأشخاص هالكين. ويمكنهم، مثلما فعل بروتستانيّو فرنسا المعادون للتّصوير خلال القرن السادس عشر، طباعة بورتريهات العقيد وتمزيقها لقتله باستمرار. إنّ ما أقدمت عليه جميع الأطراف المتورّطة، من إخراج درامي لهذا "القُدّاس الانتقامي" المُصوّر، هو انتهاك للاستبداد باستبداد آخر، إتلافُ صورة لالتقاط صور جديدة، وتحطيم رمز لخلق رموز موازية لا تقلّ عنه بطشاً. انتظرتُ من المُتمرّدين، وقد أخّروا دفن الجثة إلى أن ساح العفن من طرابلس إلى كلّ العالم، أنْ يكونوا أوّل المدافعين عن فنّ إسلامي معاصر. افترضت، احتمالا، أنّهم سيُخرجون المُخّ من الجمجمة بالشّفط عن طريق الأنف ويُفرغوا تجويف الصّدر ويغلّفونه بلفائف الكتّان المُعطّرة، أو قد يحُثّهم هوس فني ما على حقن زيت الصّنوبر في الأحشاء من خلال فتحة شرج "الزّعيم المنبوذ". إنّنا قتلة بالوراثة، كلُّنا، ننتهك الحروف والأجساد ونُخلّد لتفاهاتنا بجميع الوسائل المتاحة. فالكتابة والرّسم (كما الحرب أو الاقتتال اللفظي) هي حالة عُنف –كما أفهمها- ونحن لا نكون مبدعين إلاّ عندما نصبح شاذّين عن المعتاد، عن كلّ حالة سويّة. ونحن لا نعرف الفنّ في غير الجريمة. لم يَتُبْ القذّافي عمّا اعتبره المتمرّدون غيّا وكفراً، ولم يُسْتَتَب حتّى. قرّروا محوه، جسدا وصورة، ولم يُسامحوه. يقال أنّ الإنسان يُسامح ولا يَنسى، وإذا لم يَصفح مع الأيّام أصبحت ذاكرة الألم أكثر إيلاماً وحِدّة. آلاف القتلى فارقوا الوجود، ولن يعودوا قطعا، يستحيل أن يغفروا للعقيد، لأنّهم أساساً غير موجودين (لا صورة ولا ذكرى غير رومانسية أحزان الموتى). لم يكن من حقّ أيّ كان الانتقام أو الصّفح في مكانهم. صوت خافت وغريب، يشبه صوت العقيد، يهمسم من وسط الرّمال: "لَحْدُ الأرضِ لا يحذف امتدادي، لا يمنعني من الوثب إليكم – لا تغفروا لي، إنّكم بقيّتي واستمرار أثري..نحن الأصل الواحد الذّي لا شبيه له. لا غفران، أشلاء فحسب." *كاتب مغربي