دعونا نتفق أولاً أن تركيا بنهضتها الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، وتوجّهاتها السياسية منذ تولي الإسلاميين الحكم فيها، أصبحت دولة تزعج الغرب وعدداً من الدول العربية؛ وهذا ما يفسّر استهدافها بكل تلك الحملات المعلنة وغير المعلنة، بهدف تقييدها وتكبيلها، وإرجاعها إلى دائرة التبعية والوصاية والانقلابات. فلا تكاد تركيا تخرج من أزمة حتى تدخل في أخرى، إذ تتحدث أنقرة هذه المرة عن مؤامرة دولية لضرب اقتصاد البلاد، من خلال انهيار الليرة التركية أمام الدولار إلى أدنى مستوياتها التاريخية. فما مدى صحة هذا التآمر؟ وهل لهذه الحرب الاقتصادية علاقة مباشرة بتدهور العملة الوطنية لتركيا؟. لفهم الموضوع من زوايا متعددة - وبعيداً عن العاطفة التي تتحكم في كثير من الأحيان في عملية التحليل والتقييم - سأحاول من خلال هذا المقال - من منطلق اقتصادي محض – إبراز الأسباب الحقيقية وراء هذه الأزمة. القراءة الموضوعية للتجربة الاقتصادية التركية على مدى ثلاثين سنةً تؤكد أن الدولة، بقدر ما تسعى إلى تثبيت نفسها ضمن الدول الأقوى اقتصاديا، بقدر ما لحقت بها بعض الاختلالات التي تعرفها الاقتصاديات الناشئة ذات التكثيف الرأسمالي القائم على الانفتاح الاقتصادي وتحرير الأسواق. فقد تبدو المؤشرات الماكرو-اقتصاية لتركيا جيدة ظاهريا، إلا أن بنيتها الاقتصادية تعاني من اختلالات هيكلية، تعد السبب الرئيسي في تدهور الليرة. وهذه أبرز الاختلالات: تحرير أسواق المال أدت سياسة التوسّع النقدي، وتدويل أسواق المال التركية، وتحرير حركة رأس المال عبر إلغاء القيود على استثمارات الأجانب في الأسهم والأوراق المالية، منذ ثمانينيات القرن الماضي؛ (أدّت) إلى تدفق ما يسمى الأموال الساخنة (Hot money) إلى الأسواق التركية، وهي أموال انتهازية، قصيرة الأجل، تستثمر في سندات وأذونات الخزينة من أجل سد عجز الموازنة العامة للدولة، مستفيدة من تدني سعر العملة المحلية مقابل الدولار أو ارتفاع الفائدة. لذا فإن اعتماد الدولة على هذا النوع من الاستثمارات "الشبح"، نظرا لاستحالة التحكم فيها، هو ما جعل الاقتصاد التركي رهينا بتقلباتها، وضعيفا أمام المضاربين بها، ما أدى إلى أزمات مالية متتالية بتركيا، منذ أوائل التسعينيات إلى الآن. تعويم العملة تسببت هذه الأزمات المالية المتتالية في تعميق العجز على مستوى الموازنة العامة للدولة، والميزان التجاري، والمدفوعات، وارتفاع نسبة التضخم لتصل إلى رقم قياسي بلغ 70% سنة 2001، ما اضطر الدولة إلى خوصصة عدد من الشركات الوطنية الإستراتيجية، وارتكابها للخطأ القاتل بتخليها عن نظام الصرف الثابت ولجوئها إلى تعويم عملتها في 2001 تحت ضغوط صندوق النقد الدولي، المعروف بسياسته "النفط مقابل الغذاء" (القروض)، الأمر الذي دفع الليرة التركية إلى مزيد من الانحدار قبل تعديلها وبعده في يناير 2005، لتصبح الليرة الجديدة تعادل 1 دولار، إلى أن وصل تراجعها الحاد إلى 7.24 ليرة مقابل الدولار الواحد (الأحد 12 غشت 2018)، أي انخفضت بنسبة 624% على مدى العقدين الأخيرين. فعلى المواطنين الأتراك المفتخرين والمعتزين بالليرة التركية أن يعلموا ألا سيادة لهم على عملتهم الوطنية منذ أن تم تحريرها ورهن قيمتها بتقلبات السوق. نمو مدفوع بالديون تضاعف حجم الاقتصاد التركي 4 مرات تقريبا منذ عام 2002، معتمدا بذلك على نمو مدفوع بالديون، إذ نهجت الدولة سياسات تهدف إلى التشجيع على الاقتراض بتخفيض نسبة الفائدة وإصدار ضمانات حكومية، آخرها (70 مليار دولار) كانت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 للإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان، ما أدى إلى تسجيل مستويات مرتفعة في حجم الدين العام )الحكومي والشركات والأسر(، إذ بلغ نسبة 104% من الناتج الداخلي الإجمالي برسم سنة 2015. وكانت النتيجة نشوء اختلالات على مستويين: طبيعة النمو (7.4% الأعلى عالميا في سنة 2017): إذ وُجّهت معظم هذه الديون إلى قطاعات الإنشاءات والبناء، ما أدى إلى تضخم الفقاعة العقارية وخلق ما يصطلح عليه بالازدهار الكاذب، الذي سرعان ما ينقلب إلى انكماش وكساد بمجرد حدوث أزمات اقتصادية، تدفع المستثمرين في الاقتصاد الحقيقي) الاستثمار الأجنبي المباشر الحقيقي الطويل الأجل( الذي يتركز في قطاعات إنتاجية ذات قيمة مضافة عالية، إلى فقدان الثقة في الاقتصاد ككل، وبالتالي ينعكس ذلك سلبا على عدد من المؤشرات الماكرو-اقتصادية، من بينها قيمة العملة الوطنية. طبيعة المديونية: خلافا للاقتصاديين الذين يقولون بضرورة تقييم الدين الخارجي بقيمته الإجمالية، والذي بلغ حجمه في حالة تركيا 466.67 مليار دولار متم الربع الأول من 2018، أرى أنه - تفاديا لتضخيم حجم الدين الخارجي - يجب تقييم هذا الأخير بقيمته الصافية، أي بعد طرح مجموع قيمة الأصول النقدية والثابتة المستحقة، خصوصا أن الأمر يتعلّق بدولة ذات اقتصاد منفتح كتركيا، إذ سجل صافي دينها الخارجي نحو 303.2 مليار دولار عند متم الربع الأول من 2018، أي 34% من الناتج الداخلي الإجمالي، فاعتماد اقتصاد تركيا على الاقتراض الخارجي، أي ديون يتم تسديدها بالعملات الأجنبية، وأغلبها بالدولار الأمريكي، زاد الوضع تأزما بعد تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب برفع أسعار الفائدة الأميركية؛ لأن رفع أسعار الفائدة يعني زيادة تكلفة الدين الخارجي، وارتفاع هذه الأخيرة يعني المزيد من الانخفاض في التصنيف الائتماني، ما سيشكل عائقا أمام الوصول إلى رؤوس أموال خارجية لسد حاجيات اقتصاد البلد من التمويل، خصوصا أن مستوى ديون الشركات المالية وغير المالية، والذي يمثل حوالي ثلثي الدين الخارجي، وصل إلى معدلات تدوير (rollover ratio) فاقت 100%، مهددا بذلك قدرتها على الاستمرار في الاقتراض. وبالتالي فإن كل هذه العناصر تؤثر بشكل سلبي على ثقة المستثمرين والمؤسسات المالية، لينعكس ذلك على قيمة الليرة التركية. لكن يبقى السؤال هنا هو لماذا - في ظل كل هذه المعطيات المقلقة - لا حديث للإدارة التركية إلا على مؤامرة وحرب اقتصادية لضرب استقرار البلاد وتقويض سيادتها؟ للإجابة على هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن دراسة الأوضاع الاقتصادية لتركيا بمعزل عن أوضاعها السياسية، فالاختلالات الاقتصادية التي تم التطرق إليها في هذا المقال، بالإضافة إلى الأوضاع السياسية المضطربة التي عرفتها تركيا على مدى العقدين الأخيرين، ما هي إلا نقاط ضعف تقدّم على طبق من ذهب إلى اللوبيات السياسية تارة، وتارة أخرى إلى اللوبيات الاقتصادية لتنفيذ مشروعها الإمبريالي وبسط سيطرتها على الدولة. * باحث في العلوم الاقتصادية