لعل قراءة ما يعيشه الحقل الإعلامي اليوم من تجاذبات وصراعات تحتاج إلى منهجية تتفادى- ما أمكن- الجزئي والهامشي، لتكون مفيدة وتسهم في فرز أفكار واقتراحات قادرة على تعزيز سبل الخروج من الوضعية "الإشكالية" وحالة المتشنجة لذاك الحقل. ومن ثمة ضرورة العودة لطرح القضايا الكبرى للإعلام المغربي فهي ما ينبغي أن يؤطر الصراعات حول وداخل كل أدوات العمل؛ ومنها المجلس الوطني للصحافة، فهو ليس سوى آلية ترنو إلى حل بعض مشاكل الإعلام واختلالا ته. أكبر قضايا الإعلام المغربي تختزلها معادلة ليست مغربية بحثة ولاجديدة، من خلال سؤال أي موقع للإعلام ك"سلطة" بين السلط في البلاد؟ أجل ليس السؤال بالبسيط، إلا أنه أكثر تعقيدا في بلد مثل المغرب، حيث تمرين فصل السلط في بداياته ومعطيات التمرين غير واضحة وأطرافه تبدو "غير معنية". الاستقلالية جزء من المعادلة ومما يكشفه هذا السؤال تحايل الكثيرين لتفادي طرح القضية والمعادلة ولوازم التمرين على الأقل فيما يخص الإعلام. ألم يتم في المغرب تنظيم "الحوار الوطني للإعلام والمجتمع" وكأن الدولة غير معنية؟ وحتى مداهمة دينامية حركة 20 فبراير لهذا "الحوار" لم تؤثر إلا في بعض استنتاجاته، دون أهدافه أو منهجيته. بيد أن معادلة الإعلام والسلطة تعرف عالميا تطورات وامتدادات، بل وتعقيدات جديدة لا قبل لنا بها... ونحن لم ندخل التمرين بكل ما يقتضيه الأمر.. لا يمكن للإعلام اليوم أن يكون إلا سلطة، وتبقى فقط الإجابة عمن يستعملها لصالحه؟ ومن يمتلكها؟ ومن يتلاعب بها؟ ومن يهيمن عليها؟ وبذلك تتزايد ملحاحية مسألة الاستقلالية. وهذا ما أدركه الماسكون بالسلط، ولم يعه جملة من الفاعلين، بمن فيهم الإعلاميون. ولا ريب أن سعي المسؤولين إلى استمرار احتكار الإعلام يوضح أن المسألة في المغرب تكمن في الطين وليس في البلة، إذ كانت وما زالت عناصر المعادلة تعطي الحجم الحقيقي لمحاولات تأطير ذلك الاحتكار ببعض الانفتاح وتغطيته بليبرالية جزء من القوانين، فيتبين أنها مجرد محاولات تفتقد للإرادة وللوعي الاستراتيجي. فبالرغم من عقود من الخطابات وحتى البنود الدستورية والقانونية والمؤسسات؛ ها هو المغرب اليوم أمام إعلام لا يعادل حتى واحد على أربعين من إعلام إسبانيا كما ونوعا، في الوقت الذي على الإعلام المغربي منافسة إعلام جيراننا، بل عليه مواجهته، فأنى له ذلك؟ لئن أبرزت عملية إنشاء وانتخاب المجلس الوطني للصحافة ما يعتري الحقل الإعلامي من ضعف وتشتيت واختلالات وتدهور، فهي أظهرت أيضا نقطة أمل، يمكن الارتكاز عليها لتكون قوة صاعدة في المجال؛ وتجسدت عبر موقفين متكاملين للصحافيين، بالرغم من أنهما عمليا متناقضان: الأول عدم مشاركة أغلبيتهم في العملية، سواء بالنقاش أم بالتصويت أم غيرهما، والثاني هو تلاقي جزء كبير من الآخرين – ولو في آخر لحظة – حول لائحة "حرية، مهنية، نزاهة"، عبر تحالف النقابة الوطنية للصحافة وجامعة الصحافة والإعلام والاتصال ومنتدى الصحافيين الشباب.. فالموقف الأول يؤكد عدم رضا الصحافيين على الوضع، واعتبارهم أن المجلس لن يعالج المعضلات الكبرى التي يعيشونها ويعيشها الإعلام. إنقاذ الإعلام بيد الديمقراطيين والحقيقة أن المجلس لن يكون حلا سحريا لتلك المعضلات، لا سيما بصلاحياته المحدودة في وقاية حرية الإعلام وحمايتها والنهوض بها، وفي حماية الصحافيات والصحافيين؛ وكذا بتركيبته غير المتوازنة، إذ كان المطلوب أن يكون نصف التركيبة للصحافيين والنصف الآخر للناشرين والهيئات الأخرى حتى يجسد أداة فعلية للتنظيم الذاتي. وعلينا أن نسجل هنا أن تشتت الصحافيين من أسباب عدم الوصول إلى تلك الصلاحيات والتركيبة، وعدم انخراط أغلبهم في مسار الدفاع عن مصالحهم المشروعة وهي تتطابق مع مصلحة البلاد في التسلح بإعلام حر، قوي ومتطور. ومن ثمة لا مناص من تطوير كل إمكانات تجميع قوة الصحافيين وتوحيد صفوفهم، ليس فقط لإصلاح وتقوية المجلس في المستقبل، بل أيضا من أجل أن يكونوا عنصرا فاعلا في معادلة الإعلام والسلطة. وبالنظر إلى المرحلة التي يمر منها المغرب وإلى عدد الصحافيين القليل ولتآكل تأثيرهم المعنوي وزعزعة وضعهم الاعتباري... فتلك لن تكون إلا لبنة في طريق بناء عمل مشترك مع كل القطاعات المعنية بالاستقلالية لتكون في خدمة المجتمع بدل خدمة أجهزة السلطة وضمنها مهن القضاء والقضاة والمحامون، وقطاعات الثقافة والفن والكتاب والمبدعون والفنانون، والفعل الجمعوي والفاعلون فيه، والعمل النقابي... وبالعودة إلى جوهر معادلة الإعلام والسلطة، تتجلى – أكثر من ذلك - ضرورة توحيد جهود كافة الساعين قولا وفعلا للديمقراطية والتي لا تتأسس دون حد أدنى من فصل السلط. وإنقاذ الإعلام هو جزء من مهام التغيير الديمقراطي. وبالتالي، لا خيار أمام الإعلام والإعلاميين إلا توطيد العلاقات والعمل جنبا إلى جنب مع الديمقراطيين الحقيقيين. وعلى من يتهرب من هذا السبيل أو يشكك فيه أن يقرأ – ولو عبر العناوين الرئيسية – تجربتي الانتقال الديمقراطي بجارتينا إسبانيا والبرتغال ومكانة الإعلام فيهما.. فليس القول بأن المصلحة في تطوير الإعلام ومصالح الصحافيين في تقاطع بنيوي مع مصلحة البلاد، تضخيما للذات الإعلامية؛ بل إن ذلك التقاطع مطلب للواقع والمستقبل كما أنه عين العقل والمنطق. ومن المؤكد أن تلك المصلحة لا علاقة لها بغنائم صغيرة ولا حتى كبيرة لصحافيين أو عاملين في المجال.. قضية القضايا هي الحرية، وللموضوع بقية . *باحث في الإعلام والاتصال