يُفترض أن يعكس التنظيم القضائي مستوى رقي الدولة في سلم الحقوق المكفولة لمواطنيها. فالقوانين وحدها تبقى باردة لا تكفي لبث دفء الاطمئنان في قلوب المخاطبين بنصوصها الجامدة، ولكن ينبغي تحديد الجهة القضائية المؤهلة لتنزيلها بما تملكه من استقلالية ونزاهة واحترافية. من هنا لا يُختزَل التنظيم القضائي في مجرد توزيع للاختصاص أو تقسيم للسلط داخل شُعب وأقسام المحكمة، ولكن فلسفته أعمق من ذلك بكثير. إنه على الأقل الجواب التشريعي الأمثل عن مدى احترام حق المواطن في مقاضاة الدولة، وحق المستثمر والأجير والأسرة والحدث الجانح وغيرهم من الفئات في قضاء محترف بتخصصه. فضلا عن حق القاضي الناطق الأول بالقانون في تدبير فضاء اشتغاله بشفافية وديمقراطية بعيدا عن تدخل أي سلطة غير قضائية، وباستقلالية كاملة عن السلطة التنفيذية، ولا سيما وصايتها الإدارية والمالية. وإذا كانت المؤيدات الدستورية، والتراكمات الحقوقية، والتحولات السوسيواقتصادية لمغرب هنا والآن، هي من النضج لإنتاج تنظيم قضائي متقدم، فإن مشروع القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي، كما وافقت عليه لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس المستشارين بتاريخ 24 يوليوز 2018، لم يستطع أن يستوعب أهم الطموحات المهنية لشعب القضاة في تكريس مزيد من الشفافية على مستوى توزيع الأعباء داخل المحكمة تكريسا للحكامة الجيدة، مثلما بقي دون سقف التطلعات الحقوقية المشروعة للعديد من المتتبعين. تسمح القراءة الأولية لمقتضياته في تقديم أمثلة دالة على معالم هذا التقييم. فعندما تنص الفقرة الأولى من المادة 5، مثلا، على أن التنظيم القضائي يرتكز على مبدأ وحدة القضاء، وقمته محكمة النقض، فإن ذلك يعد ترسيما للقطيعة مع مبدأ الازدواجية بين القضاء العادي والإداري، التي تؤطر قضاء دولة الحق بضمان سيادة القانون ومساواة الجميع أمام أحكامه خلال مختلف درجات التقاضي. كما أن التشريع لإمكانية الاكتفاء بغرف إدارية وتجارية في محاكم أولى وثاني درجة هو شرود غير مبرر عن قرار مولوي سامٍ أعلن عنه منذ 15/12/2009، بمناسبة افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء، بالزيادة في المحاكم التجارية والإدارية وإحداث مجلس للدولة. لا يقتصر شعورك بالإحباط بسبب لغة النص المترهلة، ولا بسبب هزالة المضمون، وتكرار مقتضيات مقننة في نصوص متفرقة عجز عن اقتفائها، ولكن أساسا بسبب خجله في اقتحام إشكالات عويصة أنتجتها الممارسة، وانشغاله بهاجس فرملة التغييرات الجذرية في الممارسة المسنودة بوعي قضائي جديد ومتنام كنتيجة حتمية للتشبيب المتزايد في التركيبة البشرية لشعب القضاة، واحتواء المطالب المتزايدة بجعل الجمعية العمومية أعلى سلطة تقريرية داخل المحكمة بعيدا عن أي وصاية باسم النجاعة تارة، وباسم المسؤولية أو الولاء تارة أخرى. من منظور تقني صرف، ليس التشريع صناعة خالصة للحكومة أو البرلمان، ولكنه أداة تعين الممارسين على توزيع العدالة بكل نجاعة وفعالية، لذلك يغدو رأيهم حاسما في كثير من الأحيان، فالخبرة العملية سابقة على الممارسة النظرية، والوقائع تسبق دوما من يشرع لها. وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن نعلق الأمل على المادة 10 لتجيبنا عن إشكالية الاختصاص النوعي لرئيس المحكمة الابتدائية الزجرية، وما إذا كان له سند قانوني يتكئ عليه لمباشرة دعاوى الاستعجال والأوامر المبنية على طلب في المادة الجنحية. كما أن المادة 12 تحتاج إلى ملاءمة مع المادة 35 من مسودة مشروع المسطرة المدنية، لتبيان ما إذا كان حكمها المنظم للدفع بعدم الاختصاص النوعي يسري من عدمه أثناء إثارته أمام محكمة ابتدائية أو تجارية لفائدة محكمة إدارية أو العكس. وإذا كانت لغة الوثائق ومآل الدعوى شكلت منذ أزيد من عقدين محور نقاش قانوني رصين بين النقيب عبد الرحمن بن عمرو والمستشار رشيد مشقاقة إثر صدور قرار للمجلس الأعلى قصّر استعمال اللغة العربية على المرافعات والأحكام دون الوثائق المرفقة بالمقالات، فإن المادة 14 من القانون، وإن سعت إلى الحسم في هذا النقاش فإنها لم تخبرنا عما إذا كانت الوثائق والمستندات التي يجب ترجمتها إلى اللغة العربية تقتصر على تلك المقدمة للمحكمة (الرئاسة)، أم تشمل حتى تلك الموجهة إلى النيابة العامة بمناسبة إيداع شكاية مثلا. كما لا تقول لنا كيف يمكن للمحاكم التجارية، وهي تفصل بين متقاضين أغلب وثائقهم باللغة الفرنسية، أن ترهقهم بترجمتها، والحال أن معرفة الفرنسية شرط لازم للولوج إلى القضاء، مثلما سيطرح التساؤل حول الأجرأة العملية للنص في جانبه المتعلق بالموافقة المسبقة للمحكمة على إرفاق مقال الدعوى بوثائق محررة بلغة أجنبية، قبل أن يعرض عليها في جلسة نظامية. لقد أغرق القانون في الإحالات الغامضة، إحالات على المجهول، للخروج من مأزق التقنين المرهق، الذي يستدعي نوعا من التأني والإصغاء إلى إكراهات واقع الممارسة القضائية، لذلك ستولد الفقرة 3 من المادة 15 رغم نبل غايتها ميتة. فهي إذ ترفض تسويغ النطق بالأحكام دون أن تكون محررة، لم تستثن بشكل واضح الملفات الزجرية التلبسية المحجوزة للتأمل أو المداولة في آخر الجلسة بالعشرات، ولا ملفات الجنايات التي لا يمكن لأعضاء هيئتها مغادرة قاعة المداولات قبل النطق بالأحكام، دون الحديث عن قضايا المال العام التي تعد أوراق ملفاتها بالآلاف، فكيف للقاضي أن يتأمل أو يتداول ساعات في عشرات الملفات بما يشكله ذلك من استنزاف ذهني وبدني رهيبين، ثم نطالبه بإيداع الحكم محررا بمجرد النطق به. إن الشفافية التي استدعت التنصيص في المادة 16 على توثيق الرأي المخالف أثناء المداولة في محضر ممهور بتوقيع أعضاء الهيئة، لا ينبغي أن تتوقف بوأد هذا المحضر في خزانة رئيس المحكمة، وحجب مضمونه عن العموم بأي صيغة كانت، تحت طائلة اعتبار إذاعته خطأ جسيما، وإلا انتفت الغاية من توثيقه، والتي لا ينبغي أن تقف عند حدود حماية القاضي المخالف من فجائع الخطر القادم من المفتشية، لأن قصر الأمر على هذه الغاية لا يُقرأ إلا كتمهيد تشريعي محدد للمسؤولية عند المساءلة عن ظروف إصدار الحكم. في حين أن الهدف من توثيق الرأي المخالف أسمى من ذلك بكثير، لا سيما في الأنظمة المقارنة التي أخذت به (خاصة النظام الأنجلوساكسوني، حيث يتم تضمين رأي القاضي المخالف في صلب الحكم)، فهو من جهة إقرار بواقع اختلاف القضاة عند التداول، ومن جهة أخرى تحفيز على الرقي بتعليل الحكم حتى لا ينال من قوة أسانيده، التي رجحت الانتصار له عند مؤيديه ما اشتمل عليه من رأي معارضيه. وإذا كان توحيد المادة 19 لكتابة الضبط لا يدعو فقط إلى الاستفهام حول دواعي هذا الاختيار، فإنه يبدو خيارا غير عملي لخصوصية واختلاف الإجراءات بين النيابة والرئاسة، فمثلما لكلا الجهازين (النيابة والرئاسة) رئيس، يتعين أن يستقل كل منهما بموظفيه، اللهم إذا كان توحيدهما وإخضاعهما إداريا للكاتب العام، الذي سيأتمر بتعليمات السلطة الإدارية، التي عينته مدخلا مدروسا للتحكم في مخرجات القرار القضائي. إن هاجس الضبط ووأد أي تفكير في إعادة إنتاج وقفات احتجاجية بالبذلة هو الذي جعل الفقرة الأولى من المادة 20 تقصر ارتداء البذلة على الجلسة فقط، متغافلة عرفا تاريخيا تضمنه المنشور رقم 845 حول كيفية عقد الجلسات الرسمية والعادية، الذي شرف القضاة بارتداء بذلتهم خارج الجلسة وبباب المحكمة عند استقبالهم لصاحب الجلالة أو من عينه الجناب الشريف خصيصا لتمثيل جلالته. يبدو القانون سخيا في إطلاق الوعود التي يحتاج تنفيذها إلى عقود، فالمادة، 25، مثلا، لا توضح لنا مفهوم الإدارة الإلكترونية، ولا طبيعة الإجراءات والمساطر الخاضعة لها، ولا حجية مستخرجاتها، ولا الوسائل اللوجيستيكية المرصودة لها. أما إشكالية حماية المتقاضين تجاه المعالجة الآلية لمعطياتهم الشخصية فليس هناك ما يشي بأنها تحظى بأهمية لدى واضعيه. مثلما لا يبدو معنيا باستلهام القوانين المقارنة الرائدة على مستوى تدبير الشأن الداخلي للمحكمة، ولا الإصغاء إلى مداخلات مسؤولين قضائيين أجانب (بلجيكا، إسبانيا مثلا) حول وصفات إصلاح التنظيم القضائي أمام الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، إلا أنها تصر على نحت صوتها الخاص المنفلت حتى من أسئلة التقرير التركيبي، الذي أعده باقتدار الدكتور عبد المجيد غميجة، بل نكوصا عن توصيات أول ندوة للحوار الوطني بمقر بنك المغرب بالرباط في 1 و12 يونيو 2012 حول تطوير التنظيم القضائي ورفع النجاعة القضائية وتسهيل الولوج إلى القانون والعدالة. ورغم سعيه المحتشم إلى إخفاء الحرج الناتج عن التلبس بشرعنة التحكم في الجمعية العامة، باعتبارها أسمى هيئة تقريرية داخل المحكمة، فقد ظل مع ذلك مسكونا بهاجس الرغبة في إحكام هندسة الضبط الداخلي، عبر إحداث مكتب للمحكمة يسمو، إن لم نقل يلغي، بما له من صلاحيات، أي دور للجمعية العامة، التي تتحول في وجوده إلى مجرد تجمع للقضاة من أجل المصادقة. وإذا كان التنظيم القضائي الحالي منسجما مع نفسه بتنصيصه على مكتب لمحكمة النقض يختص بتوزيع الأقضية والغرف دون وجود لأي جمعية عمومية، فإن المسودة خلقت مكتبا وأبقت على الجمعية العمومية، وتركت العديد من الأسئلة معلقة ومفتوحة على تأويلات لن يحسم فيها إلا منطق موازين القوى المختل داخل المحكمة. فهو (أي القانون) لا يخبرنا عن أي معيار دقيق عند اختيار رؤساء الغرف والأقسام، ولا يلزم أن يتم ذلك اعتمادا على ما للقاضي من أقدمية أو درجة أو كفاءة، وإنما رفعت الحرج وتركت اليد مبسوطة لاختيار من قد يسلس القيادة، ويطمس الإرادة. وعلى خطى الغموض الإيجابي لم تر مناسبا أن تحدد النصاب المطلوب لانعقاد المكتب، ولا حدود اختصاصاته لنرى ما إذا كانت ستمتد لتشمل توزيع الأشغال على نواب وكيل الملك أو الوكيل العام، وما إذا كان يحق لممثل النيابة العامة أن يتدخل في المهام المتصلة برئاسة المحكمة كتعيين رؤساء الأقسام والغرف وتوزيع القضايا، أم يقف عند حدود الأعمال ذات العلاقة بالنيابة العامة؟ وتخفيفا من مظنة التسلط، وإضفاء لشرعية التشاركية على عمله أوصى القانون المسؤول القضائي باستشارة القضاة، ولكنه لم يلزمه بأن تكون هذه الاستشارة كتابة. ومن تجليات الغموض المعتمد كاستراتيجية أن المادة 49، مثلا، لم تحسم في الجهة التي ستتولى تعيين رؤساء الغرف والهيئات ونوابهم: هل مكتب المحكمة أم الجمعية العمومية؟ في حين رسخت سلطة المسؤول في اقتراح تعيين قضاة التوثيق، وقضاة التحقيق، والأحداث، وقضاة تطبيق العقوبات، والقضاة المكلفين بشؤون القاصرين...على الرئيس المنتدب. إن محاولة الجمع بين مكتب المحكمة بصلاحيات تقريرية والجمعية العمومية بصلاحيات استشارية يعكس تراجعا عن التنظيم القضائي الحالي، ولا وجود له في قوانين دول القضاء المستقل، فإما أن يستفرد المكتب بالتدبير، ولا داعي لأن يدعى القضاة إلى جمعية عمومية للتزكية، أو أن يظل فقط مجرد هيئة إعدادية لمشاريع قرارات قابلة للنقاش والتعديل. وإذا ما كتب لهذا التوجه أن يحظى بالقبول سيكون لزاما إعداد نظام داخلي للجمعية العمومية يحدد نصاب انعقادها، وتركيبة مكتبها، والشروط المتطلبة لإضافة نقطة إلى جدول أعمالها، والدعوة إليها، وطريقة المناقشة والتصويت السري على قراراتها، ومنحها صلاحيات موسعة، بما في ذلك مناقشة معايير توزيع القضايا، بل حتى إبداء الرأي في مشاريع القوانين ذات العلاقة بمجال العدالة. لقد كان التطور الطبيعي لتراكمات التشريع في مجال التنظيم القضائي، والتي شارفت على الإحدى عشرة محطة منذ بزوغ فجر الاستقلال إلى الآن، أن تتم تقوية الجمعية العمومية، والتنصيص كما هو الحال في فرنسا على جمعية عامة خاصة بقضاة النيابة العامة، وتنزيل توصية اللجنة العليا للحوار الوطني المتعلقة بتمكين الموظفين من جمعية عمومية ترفع تقريرا بنتائج أشغالها إلى رئيس المحكمة الذي يعرضه على الجمعية العمومية. وعلى هذا الأساس تبدو النصوص المحايثة للقانون مخالفة للواقع حين تشير إلى أنها استلهمت توصيات اللجنة العليا للحوار، والحال أن هذه الأخيرة، كما كانت موثقة ومبثوثة على موقع وزارة العدل، أوصت من جملة ما أوصت به: • استكمال الهرم القضائي الإداري بإحداث المحكمة الإدارية العليا (مجلس الدولة) كأعلى هيئة قضائية إدارية بعد أن تم إحداث محاكم استئناف إدارية؛ • إحداث محكمة التنازع للفصل في تنازع الاختصاص ما بين المحاكم العادية والمحاكم الإدارية؛ • سن قانون خاص بالإجراءات المسطرية أمام المحاكم الإدارية؛ • إحداث قضاء اجتماعي متخصص على درجتين؛ • إحداث قضاء للأعمال تكريسا لمبدأ التخصص؛ واضح، إذن، أننا إزاء قفز على توصيات لجنة الحوار، وتعامل انتقائي معها، على النحو الذي يدفع إلى التساؤل حول أسباب هدر الزمن في حوار بدون مخرجات تشريعية. إن مدى انسجام القانون مع مبادئ الاستقلالية يطرح نفسه بقوة مادامت الجمعية العمومية، التي هي أحد المداخل الأساسية لهذه الاستقلالية، غدت مجرد إطار باهت بدون صلاحيات تقريرية في توزيع الأشغال داخل المحكمة، حيث ستتعمق عزلة القاضي في تدبير شؤونه المهنية، أمام مكتب قوي بمسؤوليه القضائيين، وبمن حظي بالتفاتة التعيين إلى جانبهم. وإذا كانت الجمعية العمومية للموظفين، وهي من توصيات لجنة الحوار، لم تجد طريقها إلى القانون فطبيعي ألا تلتفت هذه الأخيرة إلى تنظيم جمعية عمومية خاصة بأعضاء النيابة العامة تتدارس الهيكلة، والعلاقة مع مصالح الشرطة القضائية، ومشروع نظام الجلسات الجنحية، ومعايير توزيع القضايا والنوب بين الغرف. يحتاج القانون 38.15 إلى الكثير من الترميمات ليزعم القدرة على تنزيل مبادئ الاستقلالية على بساط التنظيم القضائي. ولعله يحتاج إلى قراءة ثانية، لا سيما أن الصيغة التي صودق عليها من طرف مجلس النواب، في ماي 2016، ليست هي تلك التي صادق عليها مجلس المستشارين في يوليوز 2018، عسى أن يقع تدارك للإشكالات العملية التي يضيق المقام على تفصيل الحديث فيها، فضلا عن إصلاح الأخطاء المادية الصرفة التي اعترت النص من قبيل: العنونة الخاطئة للفصل الثالث وللفرع الأول من الباب الأول من القسم الثاني (المادة 60 وما يليها) بالمحاكم الابتدائية الإدارية، والحال أنه يتحدث عن المحاكم التجارية، أو إحالة المادة 119 في فقرتها الأولى على المادة 108، التي تنظم سرية وثائق ومعلومات التفتيش القضائي، وهي حتما لا علاقة لها بالإحالة، وإنما المقصود بها المادة 118. وعلى الإجمال لا ينبغي أن ننسى أن التنظيم القضائي من القوانين الصلبة الممتدة في الزمان، والتي تحتاج إلى تأن كبير، واستشارة واسعة مع الممارسين الحقيقيين في الميدان قبل الإصدار. *عضو نادي قضاة المغرب