ربما يكون الدور جاء هذه المرة على مجال التعليم الأولي بغية توجيه البوصلة صوبه وإعطائه الأولوية التي فقدت معناها أكثر فأكثر، بالنظر إلى كون أغلب المشاريع المسطرة في المجال التعليمي يرفع لها دائما شعار أولوية الأولويات، لكن النتائج تبقى بعيدة عما هو مسطر ومأمول. حديثنا هذا يأتي في سياق انطلاق البرنامج الوطني لتطوير وتعميم التعليم الأولي، سعيا منه إلى تحقيق نسبة 100% من التعميم في حدود الموسم الدراسي 2027/2028، وصولا إلى الرفع من نسبة النجاح المدرسي، وتقليص مستويات الهدر المدرسي، وكذا المساهمة في إنعاش مجال التشغيل في هذا المجال. صحيح أن تعميم التعليم الأولي، خصوصا في العالم القروي الذي يعرف خصاصا حادا مقارنة مع الحضري وشبه الحضري، سيساهم إلى حد مهم في تكافؤ الفرص بين المتعلمين، وإعدادهم لمستويات التعليم الابتدائي، وبالتالي تقليص الفوارق التي كانت تسجل عند انتقالهم للدراسة بالعالم الحضري وشبه الحضري. قد نتساءل عن المبررات التي دفعت الوزارة الوصية إلى تركيز اهتمامها لمجال التعليم الأولي، ربما قد تجد فيه المشروع المنقذ لتردي جودة التعليم، وتراهن عليه ليكون عنوانا للمرحلة المقبلة، خاصة وأن قدوم وزير جديد سيحتاج لبرامج تتزامن مع ولايته، حتى يبصم هو الآخر بصمته، ويبقى المشروع لصيقا بمرحلته. التعليم الأولي ببلادنا انطلق منذ بداية الألفية الجديدة من خلال صدور القانون رقم 00.05 بشأن النظام الأساسي للتعليم الأولي، الذي حدد الشريحة العمرية المستهدفة، التي تتراوح أعمارها بين أربع سنوات كاملة وست سنوات، بهدف ضمان تكافؤ الفرص لجميع الأطفال المغاربة قصد ولوج التعليم المدرسي وتيسير نموهم البدني والعقلي والوجداني وتحقيق استقلاليتهم وتنشئتهم الاجتماعية، كما جاء في مقتضيات مادته الأولى. هناك من يعتبر أن التعليم الأولي هو بمثابة حاجة اجتماعية تزداد أهميتها أكثر فأكثر مع مرور الوقت بخروج المرأة للعمل، وحاجة الأسر لوضع أبنائها في مأوى خاص لرعايتهم وتربيتهم، وهي مسايرة لسياق دولي ديدنه التحولات المتلاحقة في الأدوار الاجتماعية للرجل والمرأة، وكذا تسارع وتيرة التقدم التكنولوجي، والاكتساح الهائل للمعلومات، مما حتم على الأطفال تسريع إيقاع تعلمهم منذ المراحل الأولى المتقدمة من أعمارهم، في خضم جو من التنافس الشديد، سعيا إلى ضمان المستقبل في عالم الشغل. إذا استدعينا أدبيات علم النفس، فإن التعليم الأولي للأطفال الصغار، بهذا المعنى، هو الدفع المبكر لأولئك البراعم إلى عالم المدرسة، وكأننا نفصلهم عن حضن أسرهم، ونبعدهم عن دفئ أمهاتهم، لنرميهم إلى إحدى مؤسسات المجتمع، في وقت هم في حاجة ماسة إلى الرعاية بجانب ذويهم. يمكن أن نتفق من حيث المبدأ على أهمية هذا البرنامج الوطني، الذي يهدف إلى تطوير آفاق التعليم الأولي، لكن الغوص في دهاليز التفاصيل وتشريح الأمور بدقة سيطرح العديد من الإشكالات، تنطوي أساسا على أن المقاربة الكمية التي راهنت عليها الخطط والمشاريع السابقة تخفي في جوهرها صعوبات من حيث الكيف تبدأ من جودة التعلمات، مرورا بتعدد المتدخلين والشركاء، وصولا إلى الإمكانات المادية واللوجستيكية المخصصة للبرنامج. المقاربة الكمية في التعاطي مع ملف التعليم الأولي تسلط الضوء أكثر فأكثر على التغطية العددية لمجموع التراب الوطني، من خلال عدد الحجرات المخصصة للتعليم الأولي، ولا تهتم بحقيقة هذه الحجرات، التي في الغالب لا تخرج عن نطاق دور سكنية يتم تحويلها إلى فضاءات لاستقبال الأطفال، حيث تغيب فيها الشروط الضرورية التي يتطلبها الفضاء المخصص للبراعم، من اتساع وتهوية، والبعد الجمالي، ومرافق صحية مناسبة، وطاولات ومقاعد تناسب أعمارهم، ناهيك عن الوسائل التعليمية، من سمعية وبصرية، تساعدهم على تطوير الفكر والمخيلة. ما الذي نريده من أطفال مستويات التعليم الأولي؟ وفي ظل أي منهاج سيتم تدريسهم؟ ووفق أية استراتيجية متبعة؟ وعلى أساس أية أرضية للتكوين تستهدف الموارد البشرية المخول لها تربية تلك الأجيال؟ هذه الأسئلة تطرح بإلحاح في ضوء مقاربتنا لهذا الموضوع، فالمضامين التي يتم تمريرها للأطفال بمستويات التعليم الأولي، عبر مناهج الكتب المدرسية المقررة، لا يتم الالتزام بها في أحيان عديدة، وتخضع في كثير من الأحيان إلى مزاجية الأطر المشرفة على تدريس التعليم الأولي، فمثلا القانون 00.05 بشأن النظام الأساسي للتعليم الأولي ينص في مادته الأولى على أن الأطفال في تلك المستويات يتم إعدادهم لتعلم القراءة والكتابة باللغة العربية من خلال ضبط التعبير الشفوي، مع الاستئناس بالأمازيغية أو أي لهجة محلية أخرى؛ وذلك لتيسير الشروع في القراءة والكتابة، إلا أن واقع الحال يختلف تماما، ففي أحيان عدة، خصوصا في العالم الحضري، يتم اعتماد اللغات الأجنبية في تدريس الأطفال، كالفرنسية والانجليزية، وهنا سيصبح المجال أكثر ضبابية في ما يخص الأهداف المسطرة. على هذا الأساس كانت هناك إشارة واضحة في مضامين الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في اليوم الوطني للتعليم الأولي يوم الأربعاء 19 يوليوز 2018 بالصخيرات، أكدت على ضرورة إعادة النظر في النصوص القانونية والتنظيمية المتعلقة بتأطير هذا المجال وفق رؤية حديثة، وفي انسجام تام مع سياسة الإصلاح. ربما في ظل هذه المتغيرات الجديدة ستكون الوزارة الوصية ملزمة بإعادة النظر في المناهج التعليمية، ما دام أن الطفل يكون قد تمكن من الإلمام بأبجديات القراءة والكتابة في مرحلة التعليم الأولي، وبالتالي فمن المتوقع أن تساير مناهج ومقررات التعليم الابتدائي هذا الإيقاع، لتجاوز النسخ المكررة من المضامين التي اكتسبها الطفل في مرحلة التعليم الأولي، حتى تتماشى المناهج الدراسية مع مبدأ الاستمرارية في الانتقال السلس من مرحلة إلى أخرى. عندما نتحدث عن إشراك مختلف الشركاء في تعميم وتطوير التعليم الأولي والرفع من جودته، فهو في حد ذاته سيف ذو حدين، فمن جهة يتغيى تسخير مجهودات وطاقات أكبر عدد ممكن من مكونات المجتمع للمساهمة في تجويد وتحسين أداء التعليم الأولي، ومن جهة أخرى فتعدد الشركاء يطرح إشكالية سبل التنسيق في ما بينهم، ومدى انسجام الأهداف المسطرة. صحيح أن جمعيات المجتمع المدني هي بمثابة شريك مهم في مجال النهوض بالتعليم الأولي، لكن في الوقت نفسه أصبح هذا المجال وسيلة مفضلة لهاته الجمعيات تمكنها من تلقي الدعم المالي، خصوصا من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الشيء الذي يطرح أسئلة عديدة حول تتبع مصير تلك الأموال، ومدى تحقيقها للأهداف المسطرة. في السياق ذاته، مازالت مساهمة المجالس المنتخبة في تنمية مجال التعليم الأولي ضعيفة، ولا ترقى إلى الطموحات المطلوبة، خصوصا في ظل تنامي أدوارها وصلاحياتها مع ورش تفعيل الجهوية المتقدمة. من جهة أخرى، إذا كان البرنامج الوطني لتعميم التعليم الأولي يسعى إلى إعطائه بعدا إلزاميا، وإدماجه في المؤسسات التعليمية العمومية الابتدائية، فهل هذا يعني إزاحة البساط عن مجموع الجمعيات المشتغلة في هذا الإطار؟ إن تكوين الأطر التربوية التي ستسهر على تدريس الأطفال في مراحل التعليم الأولي يبقى من الأوراش الكبيرة التي تنتظر البرنامج الوطني، بالنظر إلى ضعف تكوين هذه الفئات التي لا تملك نسب كبيرة منها الوسائل العلمية البيداغوجية لتدريس فئات الأطفال الصغار، التي تتطلب معاملة خاصة تحتاج إلى إلمام وتجربة مهمة في مجالات علوم النفس والسلوك واللغة. ربما ستكون إلزامية التعليم الأولي للأطفال من طرف الدولة خطوة مرحبا بها في القطاع الخصوصي، خصوصا في المدن والحواضر التي يزحف فيها بثبات هذا القطاع، بالنظر إلى تقلص ملحوظ في نسبة بناء وفتح المؤسسات العمومية بهذه المدن، مما سيدفع الأهالي والأسر اضطرارا إلى اللجوء إلى تدريس أبنائها بمؤسسات التعليم الخصوصي. ثمة قناعة راسخة على أن المجال القروي وشبه الحضري في حاجة ماسة إلى بذل مجهودات أكثر لتقليص الهوة التي تفصله عن المجال الحضري، وبالتالي وأمام صعوبات اتساع المجال الجغرافي في العالم القروي، ووعورة التنقلات، وانتشار معدلات الفقر، ستكون السلطات المختصة مطالبة بإيجاد آليات لإقناع الأسر بجلب أبنائها الصغار للمدرسة قصد استفادتهم من التعليم الأولي، هل سيتم اللجوء إلى التحفيزات المادية في مرحلة أولى، كما هو الأمر مع برنامج تيسير من أجل تشجيع تمدرس الفتيات؟ كيف يمكن توفير النقل لتلك الشريحة من الأطفال للالتحاق بالمدرسة في تلك الظروف الصعبة التي يعيشها العالم القروي. إذا كان قطاع التعليم المدرسي الخصوصي يعتبر نفسه مساهما مهما في تطوير التعليم ببلادنا، وتنشئة مواطن الغد، فإن هذه المساهمة يجب أن تمتد إلى المناطق القروية التي يعاني فيها أبناء مجتمعنا من ضعف في تغطية التعليم والتمدرس، ألا يجب التفكير في إشراك الدولة لهذا القطاع، من خلال دفتر تحملات متوافق عليه، من أجل تشجيعه على الاستثمار في العالم القروي؟ من الواضح أن هذا المشروع المنصب على تعميم وتطوير التعليم الأولي وإلزاميته من التحديات التي لها جانب كبير من الأهمية، وتحمل رؤية حقيقية للإطلالة على المستقبل، وتبقى رهينة مرة أخرى بمدى تطبيقها على أرض الواقع إجرائيا.