أثارت تصريحات حامي الدين، القيادي في حزب العدالة والتنمية، بشأن الملكية ردود أفعال مختلفة. وإذا كنا نعتبر، مبدئيا، أنه من حق الفاعل السياسي والباحث الأكاديمي أن يصدر أحكاما نقدية تخص مكونات النسق السياسي، وطبيعة اشتغال المؤسسات- والملكية جزء من هذه المؤسسات ومكون من مكوناتها-، فإن ردنا على حامي الدين ينطلق أساسا من توظيفه بعض المفاهيم، التي تعكس جوهر التصور السياسي للمسألة الديمقراطية عند العدالة والتنمية. وهو تصور متعارض في العمق مع قواعد ومتطلبات التعددية السياسية، ومستلزمات الخيار الديمقراطي. ولعل توظيفه مفهوم "التفاوض" مع الملكية بشأن طبيعة النظام السياسي يطرح إشكالا حقيقيا على اعتبار أن التفاوض يقوم بين طرفي نزاع أو أكثر، بين دول أو تنظيمات من أجل التوصل إلى صيغ تسوية أو اتفاق كتبادل الأسرى أو إقرار اتفاقية سلام أو هدنة لوقف إطلاق النار أو تسليم رهائن..الخ. والحال أن الدعوة إلى تحديث النظام السياسي القائم، مع افتراض وجود مطالب إصلاحية بشأنه، تتأسس على مفهوم التعاقد، الذي تنخرط فيه سلميا كل مكونات المجتمع السياسي بدون تمييز أو غلبة أو هيمنة. وهو ما يتجسد في الوثيقة الدستورية بوصفها نتاجا موضوعيا لروح التوافقات الكبرى، التي تحدد طبيعة اشتغال المؤسسات الدستورية، وتوزيع السلط والوظائف والاختصاصات. غير أن اعتماد مفهوم "التفاوض"، كما ورد على لسان حامي الدين، يستند على ما أسماه "الشرعية الانتخابية" لحزب العدالة والتنمية، التي يعتبرها "شرعية شعبية" تبرر مطالبته ب"التفاوض" مع الملكية. نحن، إذن، أمام توظيف مفاهيمي يستند على رؤية سياسية شمولية (توتاليتارية) تنطلق من مفهوم "الهيمنة" على باقي الأطراف، وتنحية كل مكونات المجتمع وتعبيراته السياسية والمدنية والثقافية باسم "الشعب". وحتى مع الافتراض بأن هناك مطالب دستورية تخص توزيع السلط وتوازنها، ومطالب سياسية تخص تحديث النسق السياسي ككل، فالأمر لا يمر عبر المفاوضات، فنحن لسنا في حالة حرب أو نزاع أو تضارب مصالح بين منظمات وهيئات للتوصل إلى تسوية نزاع. بل حتى في السنوات الطويلة، التي عرفت توترا عنيفا بين النظام وعموم الحركة الديمقراطية، لم يكن الحديث يوما عن المفاوضات مع القصر، بل ظل المعجم السياسي المتداول يرتبط بمطالب الإصلاح الدستوري عبر المذكرات أو من خلال الحوار مع باقي الفرقاء السياسيين. ولن يكون حامي الدين، والحالة هاته، حالما بالملكية البرلمانية أكثر من العديد من رفاقنا في اليسار، ومع ذلك لم أقرأ ولم أسمع يوما بأن اليسار يريد التفاوض مع الملكية، بل كان دائما يطرح فكرة التعاقد الدستوري، شأنه في ذلك شأن عموم الحركة الديمقراطية، التي ناضلت طويلا من أجل إقرار الإصلاحات السياسية الكبرى في البلاد، ومع ذلك لم تطرح يوما فكرة "التفاوض" مع الملكية. والقول إن العدالة والتنمية له "تفويض شعبي" للتفاوض باسم الشعب حول طبيعة النظام الملكي، حسب ما ورد في تصريحات حامي الدين، يعكس جوهر التمثلات السياسية في المشروع الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية، والذي لا يؤمن بصناديق الاقتراع ولا بالمؤسسات إلا كأدوات للاستفراد بالسلطة والتحكم في نموذج الدولة، التي يحلم بها المشروع الإيديولوجي الدعوي، الذي يتأسس عليه حزب العدالة والتنمية. إن مفهوم "التفويض الشعبي" كمقدمة نظرية لتبرير التفاوض حول نظام الحكم وطبيعته يتردد كثيرا في معجم العدالة والتنمية، وبموجبه يعتقد "البيجيديون" أنهم يمثلون الشعب. وعلى الرغم من أن الحزب يدعي بأنه قام بمراجعات نظرية وفكرية "أفضت إلى تبني المفاهيم الحديثة في الخطاب، مثل الديمقراطية، والقبول بالآخر، والتعددية الحزبية، والتداول على السلطة.. والتبني النهائي للعمل المدني والمؤسساتي"، فإن العديد من المحطات تسمح بالكشف عن الورطة الإيديولوجية التي يتخبط فيها الحزب.