وأنا أقرأ بعض ما يكتبه بعض المثقفين المغاربة عن ”سياسة كرة القدم“، وترديدهم الأعمى للأسطوانات الرسمية التي تحتفي بدخول المغرب في المنافسة من أجل تنظيم ما يسمى ”كأس العالم“، يذهلني التماهي الغريب لبعضهم، وانتقادهم أطرافا صوتت ضد هذا البلد أو ذاك. وإذا كنا نسلم بأهمية التظاهرات الرياضية، فإنه من واجب المثقف أن يرصد تجليات الظاهرة، ثم الكشف عن ”الجوانب السياسية“ التي توظف من أجل ترسيخ ثقافة هذا ”الدين الخطير“ الذي صار أداة سلطوية لإلهاء المجتمعات. وإذا كان العديد من الناس يرون في موقف ما يدعى البلدان الصديقة ضد المغرب، فإنني أرى ذلك حكمة وفضحا لواقع طالما نخفيه بالغربال. أقصد فراغ معنى الأخوة العربية والأشقاء والأصدقاء والوحدة والأمة العربية والإسلامية. فهل فعلا ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا؟ أوليس ما يفرقنا أكثر بكثير مما يجمعنا نحن الذين تغنينا كثيرا وطويلا بتلك الشعارات المثيرة للغثيان، بينما الواقع يسير في اتجاه آخر مغاير؟ هؤلاء الذين يتحدثون عن الخيانات وسياسة الكرة، ألم يلتفتوا إلى ما يجري في الواقع المغربي اليوم؟ دعنا من قضايا حقوق الإنسان والسياسات الفاشلة وتراجع مؤشرات التنمية وتدهورها على كل الأصعدة؛ فهل حقا يحتمل الواقع المغربي المتردي تنظيم أي تظاهرة عالمية، بينما العالم اليوم يشهد اتساع الفجوة الحضارية والعلمية والتنموية بين المغرب وأوروبا، بل وبينه وبين بعض الدول التي كانت تصنف بالدول النامية إلى عهد قريب؟ من أين ينطلق هؤلاء؟ وعن أي واقع يتحدثون، وهم أكثر من أي شخص آخر يعرفون هذه الفجوة، ما داموا لا يتوقفون عن تسول التأشيرات والتنقل بين عواصم العالم؟ هل نحن بحاجة إلى تنمية بنياتنا التحتية والقيمية والفكرية والاقتصادية، وإنضاج أفكار يكون بمقدورها إنتاج تحول اجتماعي يتولد عنه تطور اقتصادي وتعليمي، أم نحن في حاجة إلى المزيد من النفخ في بالونات التفاهة وقرع طبول السياسات الرسمية التي لا همّ لها سوى صناعة الأوهام المدمرة لأحلام المجتمعات، ما دام أن الهدف هو ”إلهاء“ الناس عن التأمل في حالهم وراهنيتهم. إذا كان النظام واعيا بما يفعله وهو يشتغل وفق سياسة لها منظروها وخبراؤها، وإن كانت فاشلة، ما دام همه هو الحفاظ على ”الاستقرار المؤقت“، فإن من واجب المثقف أن يعري ويقاوم هذه الشراسة المفزعة التي تنحرف عن المسارات التي ينبغي سلكها من أجل الرفع من مستوى المجتمع. ترى هل يجهل هذا المثقف الذي صارت كل همومه هي الحصول على امتيازات، مهما قلت قيمتها، أن الذين يصنعون التاريخ الراهن، نقصد الغرب، جعلوا من كل مناحي الحياة سياسة، وجعلوا لذلك نسقا فكريا معقدا تتضافر فيه مكونات لا تميز بين السياسي والاقتصادي والتاريخي والرياضي؟ هل هذا المثقف، اليوم، يعرف جيدا واقعه وقيمته ومكانته في السياق العالمي؟ إن أسوأ ما يمكن أن يعيشه المرء هو أن يبني حساباته ويدخل في صراع أو جدل مع الآخرين من خلفيات محكومة بوهم ”فهم الواقع“، بينما الآخر يتفرج عليه وهو ”يستعمله“ كأداة للمزيد من الضبط والسيطرة! نفهم أوهام الساسة، لكن لا مبرر لأوهام المثقف حين يتعلق الأمر بالواقع؛ خصوصا إذا كان مرتبطا ب“إتلاف“ حقائق هي وحدها الكفيلة بإنقاذ هذا الواقع من التفاهة والعنف والتراجعات الخطيرة. ولعل ما قاله مصطفى حجازي له قيمته في هذا السياق، إذ يرى ”أنه في بلاد الهدر، يبرز بين الكتل الشبابية الهائلة والمهيمنة نجم أو أكثر يتمتع بالقدم السحرية، ويقفز فوق حاجز البؤس إلى عالم المجد والمتعة وتحقيق الأحلام. كم من كتل من شباب الظل تفرج عن إحباطاتها واحتقاناتها الوجودية، وتداوي هدرها أو تخدره في لعبة الكرة في الساحات والخلاء أو على الشواطئ، على أمل الحلم بالقفز فوق حاجز البؤس والحرمان، وانفتاح أبواب الحظ وتحول المصير من خلال مهارة القدم السحرية؟ أو ليس ذلك هو الحلم المتبقي لمن لا حلم لهم، وأمل الخلاص لمن هم في مأزق وجودي/معيش لا مخرج لهم منه بالجهد وبناء المكانة؟ ذلك هو المقصود بالدين الجديد الذي يداوي الهدر الفعلي، في الآن عينه الذي يعمل فيه على ديمومته. ليس غريبا إذا أن تصبح الفيفا أكثر شهرة من اليونسكو، ونجوم الكرة أكثر شهرة من العلماء والمفكرين والفنانين، وأن تصبح رعاية الفريق الوطني أهم إنجازات الحاكم، التي تعطيه مشروعيته“ (سيكولوجية الإنسان المهدور. ص. 235- 236). أيها المثقف! ”لتكن لك الجرأة والشجاعة على استعمال عقلك“ ضدا على هذه الانهيارات التي تتم في واضحة النهار، بينما أنت منشغل بالتزلف بانتهازية مفضوحة!!