كانت الندوة التي نظمتها لجنة الحقيقة والعدالة في قضية الصحافي توفيق لوعشرين مناسبة لمناقشة هذه القضية من زوايا وأبعاد مختلفة، وكما اختار المنظمون لها أن تكون مدخلا لطرح أسئلة عديدة والاستماع إلى مختلف الإجابات في شأنها، فإن ذات الندوة أثارت العديد من ردود الأفعال من طرف بعض المشتكيات والجهات المدافعة عنهن، وكذلك عدد من المواقع الالكترونية التي اختارت منذ اعتقال الصحافي توفيق بوعشرين أن تنخرط في حملة التشويه والاساءة المعنوية له، بتحريض من جهات عليا أو لتصفية حسابات سياسية كانت متواجدة قبل فتح هذا الملف. ومنذ بداية تأسيس اللجنة نأينا بأنفسنا عن الخوض في نقاشات جانبية لا علاقة لها بجوهر تأسيس اللجنة، أو الرد على الاتهامات المجانية القائمة على التشكيك في نوايا اللجنة وأهدافها في مصادرة كاملة للحق في التعبير والانخراط في البحث عن فهم أوسع لقضية شغلت كل المغاربة والرأي العام الوطني، أخذا بعين الاعتبار بأن هذا الاستهذاف تم من طرف أشخاص من المفترض أن رسالتهم الاعلامية وخلفياتهم السياسية تفرض عليهم القبول بالرأي المخالف، والحكم على الأشياء على أساس حسن النوايا، بل ولم لا الاشتغال جنبا إلى جنب إذا كان الجميع ينشد العدالة في هذا الملف. وإيمانا من كل أعضاء اللجنة التي تم تأسيسها مؤخرا من أجل الحقيقة والعدالة في هذا الملف، ومن منطلق أساسي يتمثل في كوننا لا نحتكر الرأي وإنما نسهم إلى جانب غيرنا في توضيح ملابسات هذا الملف، فإنه قررنا تنظيم الندوة في فضاء عمومي، وتوجيه الدعوة إلى العموم بدون استثناء أو اعتمادا على موقفه من هذه القضية، كما أن اختيار المتدخلين في الندوة جاء بناء على نقاشات مستفيضة بين أعضاء اللجنة في أجواء تميزت بالحوار الحر والصريح، وحسن تدبير الاختلاف. وفي غير مرة، تم طرح تساؤلات حول ما إذا جاءت بعض المشتكيات والمطالبات بالحق المدني، أو بعض المدافعات عنهن، وقررن أخذ الكلمة لتوضيح مواقفهن وتقديم شهاداتهن، وكان الجواب دائما هو أن تعدد الآراء في هذه الندوة هو فرصة للجميع من أجل أن يطلع على وجهات النظر لكل الأطراف حتى تتكون فكرة واضحة عن الملف تبنى على منطق الاقناع وتقديم الحجج الدامغة التي تدين المتهم أو تبرؤه، في احترام تام لإنسانية الأشخاص ودون تشويه أو إساءة لكل الأطراف والمتدخلين في القضية. بعد الندوة التي كان الهدف منها وضع الرأي العام في معطيات عامة حول الملف وتقديم قراءة قانونية حقوقية أكاديمية للقضية بشكل مجرد، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الجوانب الذاتية والانسانية لا يمكن إغفالها أو تجاوزها، لكونها مرتبطة بسلوك الأشخاص لكنها تبقى فرعا من أصل، وآراء خاصة لا تؤثر على الطابع العام للندوة. يأتي المدخل الثاني من أجل البحث عن الحقيقة، وهو الاستماع إلى شهادات كل الأطراف في احترام تام لخصوصيتها وقدرتها على تقديم وجهات نظرها بكل شجاعة وحرية، وهذا ينبغي أن لا يمس بقرينة براءة المتهم، أو التشكيك في رواية المشتكيات المكفول لهن مجتمعيا الحق في تقديم شكاياتهن لكل الأطراف ما دمن قد اخترن بشجاعة أن يخرجن إلى العلن من أجل الافصاح عن معاناتهن. ويبقى المدخل الموالي هو تفحص الأدلة والحجج المعروضة من طرف دفاع كل الأطراف أو النيابة العامة أو سواء التي تبرئ المتهم أو تدينه بشكل علمي ومجرد، من حيث صدقيتها وبنائها القانوني وحجيتها الدامغة، حتى لا يكون المتهم مدانا بغير دليل أو اعتمادا فقط على الشهادات الواردة دون إثبات. وقد يقول البعض وهذا مربط الفرس أن هذا من صميم عمل القضاء، وماذا لو أن هذا الأخير أصدر حكما مخالفا ومجانبا لبعض جوانب الحقيقة التي يمكن أن تصل إليها اللجنة، نقول في هذا الصدد، وبكل احترام لسلطة القضاء، لا توجد جهة مقدسة في هذا الملف، ولولا ما رأيناه من تعتيم وتمييز في التعامل مع هذه القضية، لكنا التزمنا الصمت وقررنا عدم الدخول في أمر موكل إلى أصحابه، ومن الأجدر أنه إذا كانت نوايا الجميع حسنة وتنطلق من تأويل حقوقي للنصوص القانونية المعمول بها في هذه القضية، خلافا لمبدأ الاشتباه الذي يؤطر عمل النيابة العامة، سنصل إلى حقيقة واحدة يقرها الجميع ويعترف بها كل الأطراف، وشخصيا لن أجد حرجا في الاقرار بذلك، والاعتذار لكل من اعتقد أننا شككنا في روايته أو مسسنا بقرينة براءته. وأما إذا استمر المس بضمانات المحاكمة العادلة من قرينة البراءة، واستمرار الاعتقال الاستثنائي دون تلبس، وعدم تطبيق القانون الأصلح للمتهم ، وخرق مبدأ علنية المحاكمات، سنكون مجبرين على تحدي الجهات التي تعتم على هذا الملف وتريد تقديم الصحافي توفيق بوعشرين كبش فداء في طريق دفن الحقيقة الضائعة والتضييق على حرية الصحافة بشكل مفضوح. فالندوة إذن - حتى لا يزداد هيجان من انفجر غاضبا لنجاحها-، ليست إلا أحد المداخل لتوضيح حيثيات الملف، لا تمثل الحقيقة كاملة، ولا تدعي امتلاكها بالمطلق، لكن في غياب آراء علمية وقانونية تواجه المعطيات المقدمة لصالح المتهم بالدلائل والحجج الدامغة والاكتفاء فقط بلغة التخوين والتشكيك في نوايا أعضاء اللجنة، أو إفراغ مختلف مفردات القاموس الجنسي في حق المتهم، سيكون الرأي العام المغربي مضطرا للاحتكام إلى لغة الاقناع والمنهج السليم في محاولة لفهم ما يقع في مجتمعه بشكل واع ومسؤول، واستحضار لتفاصيل تاريخ الدولة الذي لم يمح بعد، وقراءة متأنية لمسار التراجعات، في هذه الحالة يمكن للقضاء أن يدين بوعشرين وأن يبرأه المجتمع، أو أن يرفض القضاء مطالب المشتكيات بجرائم الاغتصاب والتجارة بالبشر في مقابل أن يعترف المجتمع بأحقيتهن في ذلك وجرأتهن على فضح المستور، وبين هذا وذاك فإن سلطة المجتمع أقوى من سلطة الدولة ومن سلطة القضاء.