في الفاتح من يونيو الجاري حجبَ أو سحبَ البرلمان الإسباني الثقة عن رئيس الحكومة الإسبانية المحافظ "ماريانو راخوي"، بعد إدانة حزبه بسلسلة من فضائح الفساد الإدارية المتوالية، وعمليات تبييض الأموال، واختلاسها، وتهريبها خارج إسبانيا، والحصول عليها بطرقٍ ووسائل غير مشروعة؛ فضلاً عن التلاعب بصفقات مالية سرية كبرى غير واضحة المصدر داخل الحزب. وقد طفح الكيل بفضيحة الفساد الشهيرة التي أطلق عليها "غورتل"، والتي كانت القضية التي قصمت ظهر البعير، إذ واجه حزب راخوي فضائح فساد لا حصر لها، أدين فيها على نطاق واسع العديد من الوزراء وكبار المسؤولين الإسبان السابقين المنتمين إلى الحزب الشعبي الحاكم حتى 31 ماي 2018. ولقد تبنىّ البرلمان الإسباني ملتمس سحب الثقة عن ماريانو راخوي - الذي تولىّ منصبه كرئيس للحكومة الإسبانية منذ ما ينيف عن ستّ سنوات- بأغلبية 180 صوتاً من أصل 350 بعد أن أقنع الحزب الاشتراكي مجموعة من الأحزاب اليسارية الراديكالية، في طليعتها حزب "أونيدوس بوديموس"، والانفصاليون الجهويون في كاطالونيا، وحزب الباسكيين القوميين، وحزب اليسار الموحّد، وآخرين. وأصبح راخوي أول رئيس لحكومة يتمّ إسقاطه بملتمس حجب الثقة منذ عودة الديمقراطية إلى إسبانيا سنة 1977. وكانت محكمة إسبانية قضت بالسجن في حق العديد من رجال الأعمال والمسؤولين الإسبان الكبار بعد إدانتهم وتورّطهم في جرائم فساد. وقد طويت بذلك صفحة من تاريخ إسبانيا بعد أن صمد راخوي أمام أزماتٍ ورجّاتٍ متعددّة، ما اضطرّه إلى فرض إجراءات تقشفية، فضلاً عن الشّلل السياسي الذي شهدته البلاد عام 2016، ومواجهته الصّارمة لمحاولات انفصال إقليمكاطالونيا.. كلّ ذلك أفضى إلى إسقاط الحكومة التي كان يرأسها حتى 31 ماي الفارط، وحلول رئيس حكومة جديد مُمثلّا في الكاتب العالم للحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني بيدرو سانشيس . هذه المستجدّات التي تعرفها جارتنا الشمالية تدفعنا إلى معاودة إلقاء إطلالة على بعض المشاكل والقضايا التي لمّا تزلْ عالقة بين البلدين؛ فضلاً عن سبر الماضي المشترك للبلدين الجارين، وموروثاتهما الثقافية والحضارية والتاريخية المتنوّعة التي تقاسمها شعباهما على جانبي الضفّتين الأوربية الجنوبية والإفريقية الشمالية، كنموذج متميّز للتعاون والتفاهم والتقارب بين البلدين في المنطقة للتعايش، واحترام الجوار، والاندماج، واستئثار الحوار، بدل التناوش والتشاكس، وامتطاء حدبة التعنّت والتجنّي..! وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ إسبانيا والمغرب بحكم موقعهما المتميّز، كبلدين جاريْن، يجمعهما "ماضٍ" حضاريّ تقاسماه، و"ثقافةٍ" رفيعةٍ نَسَجَا خيوطها سويّاً، و"إشعاعٍ" متألق انصهرا في بوتقته، وبحكم "الحاضر" الواعد الذي يعيشانه، و"المستقبل" المشترك الذي يتطلّعان إليه، كلّ ذلك يجعل منهما طرفيْن واعييْن كلّ الوعي بالدّور الحيوي الهامّ المنوط بهما لتحقيق المزيد من التقارب، والتعاون، والتفاهم، ونَسْج عُرَى صداقة أوثق، وترسيخ أواصر مودّة أعمق بينهما. إنّ العناصر الصالحة المشتركة، والمكتسبات الهامّة لمورثاتهما الحضارية، والتاريخية، والثقافية، تحفز البلدين في كل مناسبة على وضع قاطرة التعاون الثنائي بينهما على السكّة الصّحيحة، لتقريب المسافات، واستغلال كلّ العناصر الإيجابية بينهما، في عصرٍ أصبحت التكتّلات الاقتصاديّة، والسياسيّة، والبشريّة، والاجتماعية، والسياحية، والإنسانيّة بين الدّول والشعوب تتبلور بشكل لم يسبق له مثيل؛ وذلك لزيادة تقوية الأرضية الصّلبة لعلاقاتهما المتينة في مختلف مرافق الحياة، وتعزيز أوجه التعاون بينهما في مختلف المجالات. كلّ ذلك ينبغي أن يواكبه تبادلٌ ثقافيٌّ خِصب متنوّع، وتعاون علمي مكثّف يزيد البلدين تعارفاً وتقارباً. ويشكّلّ الموروث التاريخي، والثقافي، والحضاري المشترك الزّاخر بين البلدين أرضية صلبة، وحقلًا خصباً، ما جعلهما ينفردان بخصوصّيات قلّما نجدها لدى سواهما من البلدان الأخرى، ما أفضي إلى خلق نوع من الاستمرارية والتواصل الدائمين في علاقاتهما منذ عدّة قرون، إذ يرجع التبادل الدبلوماسي بينهما منذ القرن السّابع عشر، إذ بدأ بشكلٍ انفرد به المغرب، وكان له قصب السّبق في ذلك. أفكار جاهزة وأحكام مُسبّقة ما فتئ المثقفون الإسبان والمغاربة يؤكّدون على الدّور المحوري الذي تلعبه الثقافة على وجه الخصوص في توثيق العلاقات بين البلدين، إذ اضطلع المثقفون بالفعل في العقود الأخيرة بدور طلائعي في تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الثنائية بينهما منذ تأسيس "مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة"، التي ضمّت صفوةً من الكتّاب، والأدباء، المغاربة والإسبان؛ 40 مثقفاً من المغرب (منهم كاتب هذه السّطور) و46 مثقفاً من إسبانيا، طالبوا بضرورة تحريك العلاقات الإسبانية المغربية، وإعطائها نفساً جديداً، وإذكاء روح التفاهم والحوار بينهما، وتصحيح الصورة النمطية الخاطئة لدى السّواد الأعظم من الإسبان حول المغرب والعالم العربي بشكل عام. لقد أصبح الاهتمام في الضفتين بثقافة البلدين يتنامى اليوم بشكلٍ مُرضٍ بينهما، خصوصاً في أوساط النّخب الثقافية، وكذا عند فئات واسعة من الجمهور. إنّ الإقبال المتزايد للإسبان على زيارة المغرب وإقامة الكثير من المغاربة بإسبانيا من شأنه أن ينسج جسورَ الاهتمام لمعرفة واقع وثقافة وتاريخ البلد الآخر. وينبغي على الطرفيْن التصدّي للأفكار الجاهزة، والأحكام المسبّقة الخاطئة التي لا تقدّم صّورتهما الحقيقية، والتي تنتشر أساساً لدى الشرائح ذات الثقافة المحدودة؛ وبالتالي فالوسيلة الوحيدة لمحو هذه التصوّرات هي العمل سوياً على واجهات التربية، والإعلام، والثقافة، والفنون. إنه مجال يتطلب منّا بذل مَجهودٍ مُضنٍ من أجل تعبئة مختلف وسائل الإعلام قصد نشر الصّورة الحقيقية عن كلا البلدين، وصقلها، وتقديمها بالشكل الصّحيح غير المغلوط . الحوار بين البلدين يعتبر المغرب أقرب بلد من إسبانيا جغرافياً، وتاريخياً، وثقافياً، واجتماعياً. ولا شكّ أنّ التبادل الثقافي بين البلدين سيزداد زخماً ومتانة بين الأجيال الجديدة في أفق بلورة فضاء مشترك يتقاسمه الشّعبان على مختلف الواجهات.. ينبغي عليهما والحالة هذه البحث عن الوسائل الناجعة والآليات العاجلة لزيادة إثراء الحوار القائم بينهما لإقرار أرضية صلبة للتفاهم بينهما في مختلف المجالات؛ السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والثقافية، والعلمية، والتي تتماشى وتتناغم مع المعطيات التاريخية، والموروثات الثقافية المشتركة بينهما، واقتناعهما بالتأثير الإيجابي المتبادل بينهما على امتداد القرون، ما جعل من منطقة حوض المتوسّط عبر التاريخ فضاءً ثقافياً خصباً، كان له تأثير بليغ على أوربّا، وشمال إفريقيا؛ كما جعلت "الأندلس" في عزّ أوجها منهما بلدين متلاحمين ومتقاربين في العديد من المظاهر الحضارية، والثقافية، واللغوية، والأدبية، والإبداعية، وفي مختلف الأشكال الفنيّة، والتصاميم المعمارية، والهندسية، ومرافق الحياة الأخرى، إذ أصبح المغرب ينفرد بعلائق تاريخية فريدة وخصوصيّات ثقافية مميّزة مع جارته في الشمال. العلاقات الثنائية بين البلدين مع عودة "الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني" للحكم في إسبانيا، والذي تربط المغرب علاقات وطيدة مع العديد من زعمائه السّابقين الذين تعاقبوا على رئاسة حكومات اشتركية، أمثال غونساليس، وساباطيرو، وروبالكابا، وسواهم، ما يدعونا إلى ضرورة تحسين، وتطوير، وتقوية العلاقات الثنائية بين البلدين؛ فالظرفية الحالية التي يجتازانها في مختلف المجالات السياسية، والأمنية، والاقتصادية، ومحاربة الإرهاب، ومكافحة الجريمة المنظَّمة، والاتّجار بالمخدرات، ومُعضلة الضغط المتزايد للهجرة غير الشرعية من إفريقيا جنوب الصّحراء ومكافحتها، والقضاء على آفة البطالة، والتقريب بين الفوارق الاجتماعية، وضمان الحريّات العامّة، والضرورة المُلحّة لصَوْن حقوق الإنسان بشكلٍ جدّي وشفّاف، والدفاع عن المصالح العليا للبلدين. وتجدر الإشارة إلى أنّ العلاقات المغربية الإسبانية في عهد الحزب الشعبي الإسباني كذلك شهدت تطوراً كبيراً في السنوات الأخيرة، أملته حاجة البلدين لرفع التحديّات، نظراً للاضطرابات الخطيرة التي عرفتها بعض البلدان العربية المجاورة، والأزمة الاقتصادية، والعولمة. ولا يألو المغرب وُسْعاً لبذل جهوده الدؤوبة على هذه الجبهات. كلّ ذلك وسواها من المعطيات يحتم على البلدين أن يعملا متلاحمين يداً في يد من أجل التغلب على التحدّيات، وتجاوز الإكراهات التي تفرض نفسها عليهما على وجه الخصوص، وعلى المنطقة بشكل عام. وبغضّ النظر عن اللون السياسي السّائد في إسبانيا، فإن البلدين مطالبان بالعمل سويّاً من أجل استشراف آفاق المستقبل، أخذاً بعين الاعتبار الموقع الجيو- إستراتيجي الممتاز للمغرب كبوّابة لإفريقيا والعالم العربي، وكذلك الموقع المتميّز لإسبانيا كبوّابة لأوربا، والعمل من أجل إعطاء دفعة قوية للعلاقات الثنائية بينهما في شتىّ المجالات؛ فإسبانيا تربطها بالمغاربة العديد من الأواصر التاريخية الوثقى، والثقافية، والإنسانية، والاقتصادية؛ والخصائص المشتركة بينهما تقدّم الدليل على أنّ عوائق المدّ والجزر، والأخذ والردّ، والفتق والرّتق التي قد تعرفهما العلاقات الثنائية في بعض الأحيان لا يمكن أن تؤثّر على الثوابت التي تقوم عليها روابط البلدين. ولا شكّ أنّ الرّغبة لدي الطرفين الإسباني والمغربي ملحّة وأكيدة لإضفاء دينامية جديدة على العلاقات الثنائية، وسبر آفاق التعاون، وتوطيد دعائم شراكة إستراتيجية للمستقبل في مختلف المجالات. ولذلك فليس من باب الصّدفة أن يصبح المغرب شريكاً اقتصادياً إستراتيجياً مرموقاً لإسبانيا على المستوى الإفريقي، كما أنه ليس اعتباطاً من جهةٍ أخرى أن تصبح إسبانيا الشريك الأوّل للمغرب على المستوى الخارجي، وواحدة من المستثمرين الرئيسييّن فيه، متقدمةً حتى على فرنسا التي كانت حتى الأمس القريب "الوِجهة المشهورة، والواجهة المأثورة" التي لا محيد للمغرب عنها بشكل مبالغ فيه. ولقد حققت إسبانيا هذه الغاية بفضل الفرص الهائلة التي يوفّرها المغرب، البلد المنفتح على العالم، لفائدة المقاولين، والصنّاع، والمستثمرين الإسبان وغير الإسبان. هذا الزّخم في العلاقات القائمة في الوقت الراهن بين البلدين يعكسه كذلك تطوّر ملموس وهائل في تعاونهما الثنائي في مختلف المجالات، وهما في إطار العولمة يستشرفان آفاقاً جديدة للتعاون لرفع التحدّيات العديدة للقرن الذي يعيشان في كنفه. وقد وقّع كلٌّ من المغرب وإسبانيا مؤخراً على عددٍ من اتفاقيات التعاون الثنائي في مجالات التنمية، والتعاون الثقافي، والتعليمي، والرياضي، وأخرى في المجالات الدبلوماسية، والسياحية، والطاقة، والكهرباء، والنقل، والإدارة الإلكترونية، وسواها من الميادين الحيوية الأخرى؛ وذلك نظراً لتقاسم البلدين لرؤىً سياسية متناغمة بشأن مختلف القضايا الإقليمية، والدولية، ومراعاة منهما لمصالحهما المشتركة. قضايا شائكة وأمورٌ عالقة وحتى لا ننأى عن الواقع في هذا الطّرح، تجدر الإشارة إلى أنّه على الرّغم من هذا الزّخم الهائل الذي يطبع العلاقات الثنائية بين البلدين، والبريق اللمّاع الذي يضيئها، ويوحي للعيان أنّها على خير ما يُرام في مختلف المرافق، والقطاعات، والقضايا، والتي رصدنا بعضاً من جوانبها آنفاً، فإنه ينبغي ألاّ نغفل أو ندير ظهورَنا لقضايا أخرى ثنائية هامّة عالقة وشائكة، وإكراهات مُؤرقة مازالت تثقل كواهلنا، وهي تواجهنا بإلحاح، ولا ينبغي لنا أن نتّبع حيالها سياسةَ النّعامة في إخفاء رؤوسنا في الرّمال، وعدم رؤية الواقع الحقيقي الذي نعيشه، ونلمسه، ويتجسّد نصب أعيننا بوضوح. من هذه القضايا: 1-الصّحراء المغربية تحتل قضية الصحراء المغربية - كما هو معروف- عن كلّ جدارة مكان الصدارة في السياسة المغربية على الصعيديْن الداخلي والخارجي، ومع وصول الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني إلى الحكم لا بدّ أن يأخذ المغرب زمام المبادرة في البحث عن الوسائل الناجعة والآليات الضرورية للحفاظ على المكتسبات الهامة التي حققها على الصعيد الدولي، وعلى مستوى العلاقات الممتازة التي تربطه مع إسبانيا حول مطالبه العادلة والمشروعة في صحرائه، وحول مختلف المجالات الثنائية الأخرى، خاصّة أن الحكومة الإسبانية الجديدة المُقبلة ستكون فسيفسائية الطابع، فالحزب الاشتراكي الإسباني الذي أتخذ زمام المبادة للإطاحة بحكومة الحزب الشعبي لا يتوفر سوى على 84 مقعداً في البرلمان في الوقت الراهن. والحالة هذه لابدّ لرئيس الحكومة الجديد (بيدرو سانشيس) التوصّل إلى تحقيق التوافق مع سائر الأحزاب اليسارية، والقومية، والانفصالية التي ساعدته في الوصول إلى الحكم من أجل تنفيذ برنامجه الحكومي؛ وفى طليعة هذه التجمّعات الحزبية الإسبانية التي دعمته بقوّة حزب "أونيدوس بوديموس"، ذو الميول اليسارية الذي يرأسه الراديكالي بابلو إغليسياس، والذي لم يتسنّ له ولا لحزبه بعد استيعاب بعمق وبشكلٍ سليم وعقلاني مطالب المغرب العادلة، وتفهّم حقوقه التاريخية المشروعة في صحرائه المُسترجعة . 2-سبتة ومليلية عندما يثار الحديث عن سبتة ومليلية يقفز إلى الذهن على الفور البيت جاء في كتاب " أزهار الريّاض في أخبار القاضي عياض"، والذي يقول الشاعر فيه عند تحيته لمدينته سبتة : (سلام على سبتة المَغربِ / أخيّة مكّةَ ويثربِ). المدينتان المغربيتان السليبتان سبتة ومليلية، والجزر الجعفرية، وصخرة النكور، والجزر الصغيرة المحاذية لرمال شاطئ "الصّفيحة" بأجدير (قرب الحسيمة)، وجزيرة بادس، وجزيرة ليلى تورة، كلها مازالت تذكّرنا عند انبلاج كل صباح بأنّه مازالت هناك قضايا تاريخية جادّة عالقة، ومواضيع ثنائية هامّة بين البلدين تمسّ السّيادة الوطنية في الًّصّميم . ومداخل ومخارج المدينتين خيرُ مثال على الوجه الآخر لهذه العلاقات، والشّعور بالحَسْرة في نفس كلِّ مواطنٍ عندما يَعْبُرُ هاذين المَعبرين ذهاباً أو إيّاباً، واللذين يفصلان بقعةً جغرافيةً واحدةً متماسكة، ويشطرانها شطرين تنشطر معهما أهواءُ السكّان الآمنين، وتتضاعف معاناتُهم، ومشاعرُهم، وأحاسيسُهم، وتطلعاتُهم لعناق إخوانهم في الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة، أو الأسوار العالية، التي تفصل بينهما، في زمنٍ تهاوت كلّ الجُدران مهما كان علوّها، وعتوّها، وارتفاعها. 3-الغازات السامّة في الرّيف لقد أصبح موقف إسبانيا من استعمالها للغازات السامّة والأسلحة الكيماوية المحظورة في حرب الرّيف يُثار بإلحاح في المدّة الأخيرة داخل المغرب وخارجه؛ بل إنّه أمسى يُثار حتى في إسبانيا نفسها. وقد تعرّض لهذا الموضوع وزير الخارجية الإسباني السابق (في حكومة راخوي) مؤخراً، فهل في مقدور جارتنا الأوربيّة اليوم - على عهد الحزب الاشتراكي المستلم سدّة الحكم- الإقدام على اتّخاذ خطوة تاريخية جريئة للمصالحة النهائيّة مع ماضيها المعتم، بتقديمها اعتذارٍ شجاع للشّعب المغربي، بشكلٍ عام، ولأهل الرّيف على وجه الخصوص، أيّ للمتضرّرين الفعلييّن، من السكّان الآمنين، وتعويضهم إنسانيًّا، وحضاريّاً - حسب ما تمليه القوانين الدّولية في هذا القبيل- عن هذه الجريمة النكراء؟. وقد أصبح هذا الموضوع الحيوي يستأثر بحدّة باهتمام الرّأي العام المغربي والمتعلق بالتظّلم المُجحف والأضرار الجسيمة التي حاقت بالعديد من الأسر التي مازالت تُعاني في مختلف مناطق الرّيف من الآثار الوخيمة ل"أوبئة السرطان اللعين" التي خلفتها جريمة استعمال هذه الأسلحة الكيماوية الفتّاكة من طرف إسبانيا بعد الهزائم المنكرة التي تكبّدتها في حرب الرّيف التحرّرية الماجدة؟. 4-الجالية المغربية في إسبانيا تُعاني الجالية المغربية المقيمة في إسبانيا التي أصبحت تقارب المليون نسمة من ضائقة خانقة في خضمّ الأزمة العويصة التي تعيشها إسبانيا اليوم، والتي تنعكس سلباً على الجاليات المغربية والعربية المقيمة في هذه الديار، والتي أصبحت عرضة للتسريح المجحف. وحسب الخبراء فإنّ الحلول لا تبدو في الأفق القريب، نظراً لانعدام تواصل هذه الجالية مع النّخبة السياسية الإسبانية، وعدم توفّر وسائل الدفاع عنها وعن حقوقها. وقد دفعت هذه الأزمة الحكومة الإسبانية السابقة إلى المصادقة على قانون جديد للهجرة غيرِ منصفٍ بالنسبة للمغاربة، مقابل السياسة التفضيلية التي يحظى بها مواطنو بلدان أمريكا اللاتينية في هذا القبيل. والحالة هذه ينبغي للمغرب أن ينظر مع المسؤولين الإسبان الجدد بعين الاعتبار إلى وضعيتهم الصّعبة لمعالجة مثل هذه القضايا، وتحسين ظروفهم بالديار الإسبانية. 5-الهجرة غير الشرعيّة على الرّغم من الجهود الحثيثة المبذولة في هذا المجال لجعل حدّ للهجرة السريّة واللاّشرعية التي تفاقمت بشكل مهول في المدّة الأخيرة، ما فتئت التساؤلات تترى وتطرح عن الإجراءات، والخطوات التي اتّخذها أو ينوي اتخاذها المغرب لإيجاد الحلول المناسبة العاجلة لمواجهة هذه المعضلة الإنسانية التي اتّخذت من المغرب جسراً وممرّاً، ومقرّاً، ومستقرّاً لها من مختلف الجهات، والوِجهات. ماذا تمّ حتى الآن في هذا القبيل لمواجهة هذا الزّحف نحو المغرب وإسبانيا الذي أمسىَ ينذر بعواقب قد لا تُحمد عقباها على المدى القريب في مختلف الواجهات الأمنية، والإرهابية، والاجتماعية، والإنسانية، والصحّية وسواها..؟ خاصة بعد أن اتّضح أنّ "المغرب يتجه إلى تغيير راديكالي في سياسة الهجرة واللجوء بعد المبادرة التاريخية التي أطلقها الملك محمد السادس لملاءمة القوانين والتشريعات الوطنية حتى تتسنّى للمهاجرين الذين استقرّوا في المغرب الاستفادة من جميع الخدمات مثلهم مثل أيّ مواطن مغربي". 6- طرد الموريسكييّن إشكالية طرد "الموريسكيّين" الأندلسيّين المسلمين "المُهَجَّرين" و"المُبْعَدين" قهراً وقسراً من مواطنهم بإسبانيا، والذين استقرّ معظمُهم في المغرب، وفى الجزائر وتونس، ما فتئت تثير غير قليل من التساؤلات، (معروف أنّ العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل سبق له أن قدّم اعتذاراً لليهود (السيفارديم) الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا، ولم يقم هو ولا خلفُه العاهل الإسباني فليبي السادس بنفس البادرة التاريخية حتى الآن مع المسلمين). ينبغي لإسبانيا أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية حيال هذا الحيف والتظلّم اللذين لحقا بهذا الموضوع الشائك. ويعتبر المؤتمر الدولي (عقب الموريسكيّين والسيفاراديم بين التشريع الإسباني والقانون الدّولي)، الذي نظّم مؤخراً بالرباط من طرف "مؤسّسة ذاكرة الأندلسييّن"، والذي كان لي شرف المشاركة فيه، خطوة رائدة في هذا القبيل، وقد أزاح غير قليل من مظاهر التظلم، والإجحاف، الذي طال أجدادَنا في الأندلس الذين تعرّضوا لعمليات طرد جماعي من إسبانيا. وما انفكّ العديد من المثقفين الإسبان والمغاربة يثيرون هذا الموضوع بلا هوادة، لعلّ إسبانيا تخطو هذه الخُطوة الشجاعة حياله!. الطريق إذن على ما يبدو بين البلدين ليس مفروشاً بالورود دائماً، بل تعلوه كذلك مطبّات، وفجوات ينبغي تذليلها، وتجاوزها، والتغلّب عليها بإرادة سياسية قويّة، وحكمةٍ، ورزانةٍ وتبصّر بين الطرفين. * كاتب من المغرب عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - (كولومبيا)