مبادئ باريس تشتمل على المعايير المرتبطة بالمؤسسات الوطنية لحماية حقوق الإنسان والنهوض بها، وقد تبلورت في أعقاب اجتماع دولي عقد بباريس سنة 1991 وتمت المصادقة على نتائجه بالإجماع سنة 1992 من لدن لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والمرفقة بقرار للجمعية العامة للأمم المتحدة في دجنبر 1993 . هذه المبادئ حددت الاختصاصات والمسؤوليات المنوطة بهذا النوع من المؤسسات وطرق تشكيلها التي تضمن لها الاستقلالية والتعددية والفعالية. وقد حظيت آليات تشكيل هذه المؤسسات بنقاشات مستفيضة داخل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بدءا من الأساس القانوني لإخراج هذه المؤسسات والذي ينبغي أن يستند على الدستور بينما يتولى قانون تنظيمي أو قانون عادي تدقيق جميع الإجراءات المرتبطة بتركيبة المؤسسة واختصاصاتها وطرق التعيين فيها وجهة التعيين والشروط التي ينبغي توفرها في الأعضاء ومصادر التمويل، وقد شددت مبادئ باريس المعتمدة من قبل الأممالمتحدة على شرط التعددية الفكرية والسياسية لمكونات المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان. في الحالة المغربية، ورغم الإشارة في ديباجة القانون المحدث للمجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى المبادئ المنظمة للمؤسسات الوطنية للنهوض بحقوق الإنسان وحمايتها، المعروفة ب"مبادئ باريس"، فإن هذا القانون لم يحترم هذه المبادئ في العديد من المقتضيات الواردة فيه. فمنذ البداية صدر القانون المحدث للمجلس بمقتض الفصل 19 من دستور 1996، وهو الفصل الذي أثار الكثير من النقاشات في التاريخ الدستوري المغربي لأن ممارسته أبانت عن خلل واضح يمس بمبدأ الفصل بين السلطات ويخول للملك القيام بوظيفة التشريع على حساب مؤسسة البرلمان. ظهير فاتح مارس 2011 المحدث للمجلس الوطني لحقوق الإنسان منح للملك سلطة تعيين جميع أعضاء المجلس : 8 منهم بصفة مباشرة و11 باقتراح من المنظمات غير الحكومية و8 باقتراح من رئيسي مجلسي البرلمان، وعضوان من قبل المؤسسات الدينية العليا وواحد من قبل الودادية الحسنية للقضاة، وهو ما يجعل سلطة التعيين تؤول في النهاية بشكل مطلق إلى الملك، وهو ما يمثل أكبر تعارض مع مبادئ باريس التي تعتبر بأن آليات التعيين في هذه المؤسسة ينبغي أن يكون وفقا لإجراءات تنطوي على جميع الضمانات اللازمة لكفالة التمثيل التعددي للقوى الاجتماعية (في المجتمع المدني) المعنية بحماية حقوق الإنسان وتعزيزها، لاسيما بسلطات تسمح بإقامة تعاون فعال مع ممثلي المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان والنقابات، والهيئات الاجتماعية والمهنية المعنية، والتيارات في الفكر الفلسفي والديني. والجامعات والخبراء المؤهلون والبرلمان و الإدارات الحكومية (وفي حالة حضور ممثلين لها، فإنهم لا يشتركون في المناقشات إلا بصفة استشارية). وطبعا، طريقة التعيين المنصوص عليها في ظهير فاتح مارس 2011 لا تمنح الضمانات اللازمة لتحقيق أغراض التعددية والاستقلالية المطلوبة. وقد انعكس هذا الخلل الأساسي على مجموعة من المقتضيات الأخرى التي تكبل تحرك المجلس وتجعله مرتهنا بإرادة من يملك سلطة التعيين، ومن أمثلة ذلك أن القانون الداخلي الذي يضعه الرئيس ويناقش من قبل المجلس لا يصبح ساري المفعول إلا بعد مصادقة الملك، كما أن الرئيس لا يملك أن يقترح على المجلس إحداث لجنة خاصة لبحث قضية معينة تدخل في مجال اختصاصه، إلا بعد استئذان الملك، كما أن جميع اجتماعات المجلس تنعقد إما بأمر من الملك أو بعد استئذانه، كما أن جدول أعمال دورات المجلس يتطلب مصادقة الملك، بالإضافة إلى أن نتائج أعمال المجلس ترفع في النهاية إلى الملك... إننا أمام حضور قوي للفصل 19 من الدستور السابق في ثنايا القانون المحدث لمؤسسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو ما تجلت بصماته بشكل واضح في النسخة المعلنة لتركيبة أعضاء المجلس.. والجدير بالذكر أن توصيات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لا تحبذ أسلوب التعيين المباشر من طرف السلطة التنفيذية، وتعتبر بالمقابل أن أعضاء المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان يمكن تسميتهم من قبل رئيس الدولة بعدما يتم اختيارهم من طرف مؤسسات مستقلة عن السلطة التنفيذية، وبصفة خاصة من طرف منظمات المجتمع المدني بما يعكس التنوع والتعددية في التمثيلية مع الإقرار بصعوبة إرضاء جميع مكونات المجتمع المدني ، طبعا في الحالة المغربية كان هناك حضور لافت لبعض الحساسيات الفكرية والسياسية وإقصاء تام لحساسيات أخرى، وهو ما يضرب شرط التعددية الذي تنص عليه مبادئ باريس والتوصيات الأممية في هذا الباب. وهناك دور ممكن لمؤسسة البرلمان التي تسهر وفق آليات معينة على اختيار أعضاء المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان إما من داخل المؤسسة البرلمانية عبر اعتماد معيار التناسبية والتمثيلية السياسية أو عبر فتح طلب ترشيحات أمام منظمات المجتمع المدني، واختيار من تتوفر فيهم معايير معينة من قبيل معيار الشرعية الشعبية والكفاءة والنضال الميداني في مجال حقوق الإنسان، أو عبر الصيغتين معا. وهناك أيضا دور للجهاز القضائي الذي بإمكانه ترشيح أعضاء من داخله، لكن في الحالة المغربية تم اعتماد الودادية الحسنية للقضاة التي تتمتع بتاريخ حافل من المواقف التي تطعن في استقلاليتها عن السلطة التنفيذية وكأنها المعبر الرسمي عن صوت القضاة وهو ما يتعارض مع مبادئ باريس بل ويتعارض أيضا مع دستور 2011 . والخلاصة إن النسخة الحالية من المجلس الوطني لحقوق الإنسان هي امتداد لدستور 1996 بكل دلالاته السلطوية، أما نسخة دستور 2011 فتتطلب مراجعة شاملة للقانون المحدث لهذه المؤسسة من طرف البرلمان القادم، وهو ما يبدو أفقا بعيد المنال بعدما ظهرت مؤشرات إفراغ الدستور الحالي من دلالاته الديموقراطية وشحنه بالتأويل السلطوي عبر ممارسات متخلفة تنتمي إلى ما قبل، قبل ، دستور1996.....