على إثر إطلاق حملة مقاطعة (بالأمازيغية: "أسبدي" و"تبايت") منتوجات أفريقيا وسنطرال وسيدي علي ظهرت عدة ردود فعل غرفت من انزلاقات لغوية وتعبيرية أدت إلى احتدام وتيرة المقاطعة، ومن بين هذه الانزلاقات التعبيرية لا للحصر المرور من الحقل الدلالي للانتماء من قبيل: "المغاربة" و"المواطنون" و"الشعب المغربي" و"المواطنون المغاربة" إلى حقول دلالية تحيل تارة على خاصية سلوكية قدحية "المداويخ"، وتارة على وصم اجتماعي وسياسي "الخونة"، وتارة أخرى على حقل دلالي حيواني: "القطيع" أو حقل دلالي يحيل على عادات اجتماعية مقيتة "الجيعَانِين اللي ما كَيشربوش الحليب" و"المنافقين"، وأخرى إقصائية تسحب البساط الهوياتي عن أصحاب المقاطعة "ليسوا مغاربة"، وتلصق أوصافا راقية بمن لم ينخرطوا في المقاطعة "أصحاب المهمات الصعبة". كما تظل لفظة "القطيع" اللفظة الوحيدة بصيغة الجمع، التي لا تحتمل صيغة المفرد على عكس لفظة "الخونة" و"المداويخ" و"الجيعانين" والمنافقين"، التي هي ألفاظ تجيز صيغة المفرد. فبين "المداويخ" و"القطيع" هناك فكرة التوجيه (Instrumentalisation) ، أما لفظة الخونة فتحيل على فعل مفكر فيه ينضوي على فكرة أو مشروع شخصي فردي. ففي سياق المقاطعة أضحت مفردات "التخوين" و"الدوخة" و"النفاق" و"الجوع" ترمز إلى نسق مضاد لنسق "الوطنية"، فمن هذا المنظور يوجب منطق "التمغربيت" على الأفراد مقاطعة كل ما هو أجنبي ودعم كل ما هو وطني على أساس أن مقاطعة السلع الوطنية ستضر بمواطنين مغاربة. ما يهم في هذه التوصيفات أن مصادرها متعددة، منها ما يحسب على الحكومة، ومنها ما يمكن أن يحسب على البرلمان، ومنها ما يمكن أن يحسب على الشركات المعنية، ومنها ما يمكن أن يحسب على عالم الفن والغناء. وتبقى في غالبيتها ردود أفعال شخصية تحيل على الصفات المعنوية لأصحابها. ولكن الملاحظ حتى الآن بعد مرور أزيد من 20 يوما من المقاطعة، التي ابتدأت يوم 20 أبريل، لم تظهر هناك فئة مناوئة، مع استثناء بعض المواطنين العزل الذين قاموا ب"مهاجمة" صوتية وكتابية للمقاطعين عبر فيديوهات أو رسائل خطية. وهذا ما يشكل اختلافا مقارنة بالاحتجاجات السابقة، لا سيما منها احتجاجات الحسيمة التي أفرزت فريقين، فريق "الأحرار" و"الحرائر" وفريق "العياشة". والسؤال: هل هذا التباين يعود إلى طبيعة الاحتجاج، فالأول احتجاج ترابي واقعي والثاني احتجاج رقمي افتراضي؟ أم هل يشكل الافتراضي أداة للإقناع والتوافق والانخراط الجماعي، فيما يشكل الواقعي أداة للتشكيك وللتشتيت وعدم الإجماع؟ وهل سيتم الانتقال الاجتماعي عبر التحول من مواطنة واقعية إلى مواطنة افتراضية تستمد قوتها من تأثيرها في السياسيات العمومية؟ ولماذا لم تنجح المقاطعات الاقتصادية السابقة بالمغرب فيما يتعلق بمنتوجات أجنبية (ماكدونالد أو آرييل..)؟ هل لأن أصحابها ليس لهم ارتباط بالدينامية السياسية بالمغرب أم أن البضائع موضوع المقاطعة لا تدخل في السلوكات الاستهلاكية للشعب والمواطنين المغاربة؟ للإجابة عن هذه التساؤلات، ومع التسليم بأن المقاطعة الافتراضية ستسفر عن مقاطعة واقعية، هل سيؤدي العصيان الافتراضي إلى عصيان واقعي؟ يمكن الإقرار بأن جل الخطابات الافتراضية حول موضوع المقاطعة تنحو منحى التملك والترصيد ("مدوخ وأفتخر") من خلال تمكين يرتكز على يقظة ورقابة مواطنة شغلها الشاغل هو إنجاح الدينامية الاحتجاجية، والانتقال بها إلى تحدي مختلف يلخصه مفهوم جديد "مستمرون" عبر تعبئة صاعدة ترتكز على هاشتاغات من قبيل: "مستمرون خليه يروب (يريب)" و"كلنا مستمرون ولسنطرال مقاطعون" و"#حليبكم خليه يريب" و"#ماكوم دوشو بيه" و"#مازوطكم حرقوه" و"#خلي الزرواطة تغمل". فمن تمثلات اجتماعية وسياسية ومعيشية تم الانتقال إلى تمثلات قيمية، حيث إن شراء المنتوجات موضوع المقاطعة يدخل في مصفوفة "حشومة" و"عيب" ("حشومة تشرب سيدي علي".. "عيب تهزو ف يديك"). فالفئة الأولى المحتجة والمبادرة، أي فئة "المقاطعين"، تحولت إلى فئة ذات تطلعات مغايرة تحت مسمى "مستمرون"، ويظل السؤال: هل الفئتان تتشكلان من الأشخاص أنفسهم ومن التركيبة الاجتماعية نفسها أم هناك وافدون جدد سيغيرون الدينامية الاحتجاجية؟ وهذا ما لوحظ، مؤخرا، مع بروز نداءات لمقاطعة عدة "منتوجات"، منها ما هو رمزي (مقاطعة الانتخابات والحكومة..)، ومنها ما هو مادي، فقد انضم مغاربة العالم بعد ما كانوا مساندين وداعمين للمقاطعة وتقوية دوافع المقاطعة، لا سيما مع إنتاج خطاب المقارنة مع بلدان الإقامة، أصبحوا مشاركين عبر دعوتهم إلى مقاطعة "لارام" (#لارام_خليها_ترتاح). هل سيتم الوعي والانخراط في السياسي والمجتمعي عبر الانتقال من الواقعي إلى الافتراضي؟ فالافتراضي له منطقه وله دينامياته، فقد ابتدأت المقاطعة مشخصنة لتنتقل إلى الشركات وترسو على منظومة اقتصادية تحت مسميات عديدة، من قبيل الاحتكار الاقتصادي والزيادة في الأثمنة.. فالمقاطعة الافتراضية تمثل جيلا جديدا من الاحتجاج الشبابي بالمغرب، وأدت إلى فرملة وتحييد الوساطة السياسية والمدنية وظهور هويات جديدة: "مْدَاوِيخْ" وَنَفْتَخِر! وهي ذات طبيعة مختلفة عن الهويات الطبيعية، فهي هويات مكتسبة أنتجها سياق المقاطعة وتم احتضانها وتطويرها، بل المرافعة عنها من طرف المواطنين الافتراضيين، فتم المرور الافتراضي من مقولة "التمغربيت" إلى مقولة "المداويخ" من خلال التحول من مجتمع التواصل (Communicating people) إلى مجتمع الاتصال (Connecting people). ف"المداويخ" أفراد متصلون همهم تشارك متن بارودي (Parodie) ومحتوى افتراضي متعدد الوسائط: شعارات، أغان، رسوم، كاريكاتيرات، فيديوهات، طرولز، صور حية، فيديوهات مباشرة ووصلات فنية محضرة بشكل يسائل الذكاء الجماعي للمغاربة للبرهنة على أن فعل المقاطعة الافتراضي صار هو الضامن لاستمرارية فعل المقاطعة الواقعي، فتحولت المقاطعة إلى آلية للممانعة والتعبئة، وبالتالي الضغط والتأثير، مما مكن الحراك الرقمي من تجاوز جميع البنيات السياسية والمدنية، وإعادة تصويب الحراك الاجتماعي. كما أن السبب المباشر في كون المقاطعة أضحت وسيلة جامعة ومؤطرة هو تواري أصحابها إلى الوراء وتجاوزهم وتملكها من طرف جماهير "المكونكطيين". من هذه الزاوية أتاح الافتراضي الفرصة لعدم المواجهة المباشرة لجماهير "المكونكطيين" مع السلطات على أرضية الواقع (معترك الآخر) وتجنب الأعراض الجانبية ( (Collateral Damageمن قبيل العنف والاعتقال. فاختيار الافتراضي هو استدراج للآخر أو الخصم المفترض لمعترك لا قبل له به، وهو معترك خبر الافتراضيون "المداويخ" أعماقه وتلاوينه. فتعدى الأثر الاحتجاجي للمقاطعة جميع البنيات المؤطرة للاحتجاج (الأحزاب السياسية، المجتمع المدني، النقابات، القادة الميدانيون، التنسيقيات..) والمفترض فيها التفاوض مع الأقطاب الاقتصادية والفاعلين المؤسساتيين لإيجاد الحلول والتوافقات الممكنة، لا سيما أن مسألة المقاطعة ترتبط أيضا بإشكالية توزيع الثروات، لا سيما منها الطبيعية. وما يشكل العائق الأساسي للحوار هو انتفاء المحاور على أساس أن المقاطعة يتحكم فيها موقف مجتمعي وليس هيئة أو ريادة معينة. فالعمق التفاوضي للمقاطعة يكمن في رمزيتها وجرأتها على تحدي السلطة السياسية والاقتصادية. وبما أن قوة المقاطعة تتمثل في كونها لا تتعلق بتضليل افتراضي أو أخبار كاذبة أو زائفة ( (Fake newsخلق منها نوعا جديدا من التنشئة الافتراضية، الذي يتأسس على يقظة رقمية، لا سيما في ترصدها لثقافة وخطاب الكراهية، وغرس وترسيخ سلوك الممانعة والاستغناء، والانجرار نحو المواجهة المباشرة مع "الخصم المفترض". لهذا من المستحب مقاربة "فعل" المقاطعة على أساس أنه يشكل تحديا لمنظومة العيش المشترك والتماسك الاجتماعي وليس فقط مسألة ترتبط بأفق رهانات وتداعيات الأرباح أو العائدات أو الخسائر الاقتصادية أو تراجع الأسهم. ف"الفايسبوك" كموقع للحراك الرقمي بالمغرب صار موقعا لمقاومة خطاب الاستهلاك، بل محاربته عبر سلوك المقاطعة والمطالبة بتفعيل وتسريع السياسات العمومية (في الحالة الراهنة على سبيل المثال تفعيل مجلس المنافسة والمجلس الوطني للاستهلاك)، والضغط على تصويب تفاعلات المسؤولين، حيث تم الاعتذار على مفردات "الخيانة" و"القطيع"، وما زال وصم "المداويخ" قائما لعدم الاستجابة لطلبات الاعتذار. هل هذا التأخر في التعبير عن الاعتذار سيقوي فعل المقاطعة أم سيوقفه؟ بل يبدو أن تأخر الاعتذار عن لفظة "المداويخ" دفع بعض المقاطعين إلى تدويل المسألة من خلال إطلاق عريضة دولية عبر موقع "أفاز"، ومطالبة المؤسسة الملكية بإعفاء المسؤول الحكومي الذي وصف المقاطعين ب"المداويخ". وأمام بطء التفاعل الرسمي مع المقاطعة وعدم فاعليته، هل يمكن أن نستشرف "تسونامي مقاطعة" يهم منتوجات وحقولا عدة قد تؤدي إلى شلل اجتماعي أم سيكون لحلول شهر رمضان تأثير على وتيرة ووهج المقاطعة؟ فإقبال أصحاب الدخل المحدود والمتوسط على الاستهلاك الزائد إبان شهر رمضان يمكن توصيفه من خلال جانبين مغايرين، جانب طبيعي يحيل على رغبة وتمثلات الفرد في إشباع جوعه وانتظاراته الحيوية بعد فترة من الإمساك عن الطعام، وجانب اجتماعي واقتصادي يتيح فرصا وأزمنة تسوق، لا سيما إذا استحضرنا خاصية التوقيت الرمضاني ووفرة البضائع على اختلاف أنواعها داخل السوق المغربية. من هذا المنطلق، فاحتمال تكسير ووقف المقاطعة لا يرتبط ب"جوع قديم" أو بذاكرة جماعية عن مغرب الحاجة أو بشعور أو وعي اجتماعي ضعيف ومتذبذب، بل يتعلق الأمر بصيغ طقوسية ثقافية وغذائية ترتبط بشهر رمضان يشكل فيها سلوك "التفاخر التسوقي" تعويضا عن الانقطاع الزمني عن أماكن التسوق لمدة نصف النهار أو أكثر، فيصبح التواجد في أماكن الاستهلاك، لا سيما في آخر النهار، ذريعة أو دافعا للتزود والتبضع. فينتقل فعل وسلوك التسوق إلى شكل "هجوم" أو "سطو" أو "غزوة" على المنتوجات المعروضة، فيتملك الفرد شعور جارف بشراء وتجريب جميع البضائع، التي لم يكن خلال السنة يتعاطاها أو يفكر في استهلاكها محاكاة لجميع الزبناء والأشخاص المتواجدين في الفضاء التسويقي نفسه (جوطية، أسواق ممتازة، على ارصفة الطريق..). فهذه العادات والسلوكيات، على بساطتها الظاهرية، تحيل على ملامح أنثروبولوجية للمغربي يمكن توصيفها من خلال طبيعة التمثلات القيمية للمواطن المغربي، التي تتأرجح بين ثنائية الفردية (Agency) والبنية (Structure) ، حيث إن الفردية تمكن الفرد من التحكم في جسمه ووجوده والتقرير في فعله وسلوكه وفي اختياراته بمفرده، في المقابل يحيل مفهوم البنية على العوامل المؤثرة وعناصر الشحن (الجماعة، الطبقة الاجتماعية، الدين، النوع، الإثنية، المهارات، التقاليد..) التي تحدد وتقنن وجود وقرارات الفرد. لهذا فالسبب الرئيس في الاستهلاك بوتيرة زائدة إبان شهر رمضان هو هيمنة البنية على الفردية، فالفرد الواحد لا يمتلك القدرة على الدفاع عن اختياره، وعن رغبته في استهلاك عادي كاستمرارية لنوعية الاستهلاك طيلة السنة، وعدم الرضوخ لسلطة الجماعة التي تبتدئ من عائلته الصغيرة، والتي تميل إلى الاستهلاك المفرط بالمفهوم المغربي "التهلية" و"التبراع" و"التفياك". انطلاقا من هذا النسق الاستهلاكي، هل ستقوى المقاطعة ورمزيتها الاحتجاجية وعمقها الافتراضي على الاستمرار إلى ما بعد شهر رمضان؟.