بينما كنت أتجول بين أروقة مركب تجاري بالرباط لقضاء بعض الأغراض المنزلية نهاية الأسبوع الماضي، عاينت نشوب جدال حاد بين شخصين يبدوان حديثي الزواج؛ فبينما المرأة تحث زوجها على اقتناء فرن الميكرو أوند، خاصة أن رمضان على الأبواب، إذ ستعمل على طبخ العديد من المأكولات مسبقا، لتقوم بتسخينها قبيل الفطور، لتتجاوز إشكالية الازدحام الذي يتولد جراء قلة الوقت الفاصل بين الخروج من العمل ووقت الإفطار، يرى الزوج بشكل جازم أن استعماله يؤدي إلى السرطان. أردت التدخل بينهما لتوضيح الأمور، لكن خوفي من رد أحدهما أو كلاهما تحت طائلة (ماشي شغلك) أجبرني على الهدوء، خاصة أن صوت الشجار أصبح مثيرا للغاية، وأصبح محط أنظار المتسوقين؛ فاخترت كتابة هذا المقال لأقول ما لم أستطع قوله لهما، وأن أتقاسم مع الجميع بدل شخصين اثنين مزايا وسلبيات استعمال هذه الآلة. أجل، مع انطلاق العد العكسي لحلول شهر رمضان المبارك، تسعى الأسر المغربية جاهدة إلى تحضير كل ما لذ وطاب، والزج به في الثلاجات للتخزين، من لحوم ومأكولات، من أجل توفير كثير من الوقت والجهد، لتتفادى ربات البيوت الوقوف طويلا بالمطبخ أيام الصيام، خاصة إن كن موظفات، فيتركن إعداد أنواع من الطعام الذي لا يتحمل الثلاجة لأيام الصيام، وقبيل أذان المغرب يعملن على تسخينه بالميكرو أوند بسرعة متناهية. لكن لا تمر دائما هذه العملية مرور الكرام، بل يكثر الحديث بين أفراد الأسر عن جودة هذه الأطعمة التي تخرج من توها من المكرو أوند. عديدة هي الدراسات التي أنجزت حول أضرار ومنافع استعمال فرن الميكرو أوند، تتناقلها وسائل الإعلام كل حسب فهمه أو ميوله؛ تارة تمجد استعماله، وتارة تحذر من عواقبه، ما ولد شبهة لدى عامة الناس بخصوص هذا الفرن الكهربائي الصغير. للإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي تطرح في هذا الشأن، لا بد في نظري في البداية من فهم طريقة عمل الفرن. يعتبر فرن الميكرو أوند micro-ondes بالفرنسية أو المكروويف Microwave بالإنجليزية أحد أهم الأجهزة الكهرومنزلية في وقتنا الحالي؛ هو عبارة عن جهاز أو فرن إلكتروني، يستعمل للطهي أو لتسخين الطعام عن طريق التدفئة العازلة، أحدث اكتشافه بالصدفة من طرف المهندس الأميركي بيرسي سبنسر سنة 1946 ثورةً كبيرة في صناعة التجهيزات المنزلية، ودخل عالم الأسواق في مطلع عام 1953، وقد كان وزنه كبيرا جدا (350 كيلو غراما)، وكان مكلفا ماليا. وبفضل هذا الجهاز لم تعد عملية تسخين الطعام أو غلي الماء أو إذابة اللحوم المجمدة في مجرد دقائق تستحق اتساخ الأواني أو في حاجة إلى تشغيل موقد الغاز. وتترجم تسمية هذه الأشعة إلى اللغة العربية بما معناه الموجة الصغرى أو الموجة الدقيقة أو الموجة المتناهية الصغر. والأشعة الصغرى أو أشعة المكيروويف هي أشعة أو موجة كهرومغناطيسية طولها الموجي قصير نسبياً. ولذلك سميت Micro-onde؛ فعند وضع الأطعمة بالفرن وتعريضها للموجات الصادرة من أنبوب " Magnetron = anode cylindrique+cavités" بتردد 2,45Ghz، فإنها تمتص جزءا فقط. يقوم الجزء الممتص بتحريك جزيئات الماء وجزيئات بعض المواد الأخرى الموجودة فيها، فتهتز وتتصادم ويحك بعضها البعض، ما يولد طاقة مهمة تتحول إلى حرارة (Energie calorifique) فتسخن الطعام؛ وينعكس الجزء غير الممتص. ولمنع حرق بعض أجزاء الطعام وترك أجزاء أخرى باردة، يجب أن تصل الموجات إلى جميع مناطق الطعام؛ وللقيام بذلك يتم وضع الطعام على القرص الدوار الموجود أصلا بالفرن، وهكذا، عندما تعكس جدران تجويف الفرن الموجات فإنها تصل إلى أماكن مختلفة من الطعام الموضوع على القرص الدوار، ما يضمن توزيعًا نسبيًا أكثر للموجات في الطعام. على عكس التسخين التقليدي الذي يتم من الخارج إلى الداخل فإن طريقة التسخين بالميكروويف تؤدي إلى تسخين أجزاء الطعام بصورة كافية في جميع أنحائه، سواء في الداخل أو الخارج آلياً. لكن يجب الإشارة إلى أن الأطعمة لا تسخّن بنفس الدرجة، إذ إن طهي الطعام الرطب يتطلب وقتا أقل من الطعام الأقلّ رطوبة. وتسخن الطبقات العُليا من الطعام بسرعة لأنها أكثر امتصاصاً للموجات، فتسخن الطبقات الخارجيّة قبل الداخلية. ولا يجب وضع الطعام في فرن في أوعية معدنية، لأن المعدن (الألمنيوم والفضة...) يشكل حاجزاً بين الطعام والموجات (Ecran) ولأن ذلك ببساطة يؤدي إلى تلف الفرن بسبب الشرارة التي تنتج عن عكس الأجسام المعدنية للموجات على سطح الفرن من الداخل. لا يجب أيضا وضعه في الأواني البلاستيكية المعدة للاستخدام مرة واحدة فقط، كأواني الحلوى والزبادي والجبن، كذلك الأواني البلاستيكية الخفيفة أو القديمة أو التي بها شقوق، وأواني الكريستال لاحتوائها على الكثير من الرصاص، بل يجب استعمال الأواني المخصصة للميكروويف والمصنوعة من الزجاج الحراري وبعض أنواع البلاستيك أو الخزف شريطة ألا تمتص الموجات بكثافة. على كل حال، فمن المعلوم أن مصنعي أواني الفرن يضعون علامة عليها، وتكون عبارة عن عدة خطوط متموجة أشبه بموج البحر. لكن، كثيرا ما يتم التساؤل عن خطورة استخدام هذه الأجهزة على سلامة الإنسان. بين الفينة والأخرى تظهر دراسات غالبا ما تحذر من استعمال المكروويف، تليها مباشرة حملات تكذيب من طرف المصنعين لتعود المياه إلى مجاريها. في هذا الصدد كان أول تحذير جاء من روسيا زمن الاتحاد السوفييتي، حيث تم حظر استخدام الميكروويف في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، لكنها ما لبثت أن ألغت هذا الحظر. بعد ذلك جاء على صفحات مجلة "lancet" البريطانية المختصة في الطب أن تسخين حليب الأطفال في الميكرويف يحول الأحماض الأمينية إلى مادة تدعى "isomères cis"، وهي عبارة عن مادة سامة تؤثر على وظائف الكِلى والأعصاب. ونشر عالم التغذية السويسري هانز أولريش هيرتيل عام 1989 مقالا جاء في خلاصاته أن الميكروويف مصيدة قاتلة. وكان هيرتل قد لاحظ انخفاض مستوى الهيموغلوبين، كما انخفضت كريات الدم البيضاء والحمراء، وانخفض مستوى الخلايا اللمفاوية التي تشير إلى إصابة أو تلف في الأنسجة بعد تناول الطعام المسخّن في هذا الجهاز. لكن، لم يتم إثبات صحة ذلك ولم يتم تأكيده علمياً. رفضت الشركات المنتجة هذه الأطروحة، لأن التحقق من ذلك لم يتم إطلاقًا من قبل طرف ثالث، وأن الدراسة عُدَّت قاصرةً إلى حدٍّ ما من حيث اشتمالها على ثمانية أشخاص فقط واعتبرته إضراراً بمنتجاتها، ورُفعت قضية ضد الخبير الغذائي في المحاكم. لكي نختصر، فقد جاءت دراسات عديدة تحذر من استعمال فرن المكروويف سنوات 1992، 1998، 1999، 2001 و2008، بين من يؤكد أن الحليب يفقد الأجسام المضادة، ومن يقول بتحويل فيتامين ب12 إلى وضع الخمول، وآخرون يقولون إنه يؤدي إلى انخفاض في فيتامين ج في نبات الهيليون، ويفقد الثوم العناصر المضادة لمرض السرطان، وأنه يفكك البروتينات الموجودة في الأغذية أكثر منه عند تسخين الأطعمة بالطرق الأخرى. أما في ما يخص التحذيرات الأخيرة فقد تناقلت وسائل الإعلام في 2016 ما قالته مارغريت مورلو، عضو الرابطة الألمانية للتغذية وعلم الأنظمة الغذائية من أن استعمال المايكرويف يتسبب في فقدان الأطعمة للفيتامينات بفعل السخونة والإشعاع والأوكسجين. وحسب المصادر ذاته فإن أقصى معدلات فقدان الفيتامينات يتراوح ما بين 40% و80%، في حين يمكن فقدان فيتامين "سي" وحمض الفوليك بشكل كامل. ومع ذلك تقول مورلو إن طهي أو تسخين الطعام في المايكرويف لا يمثل مشكلة صحية بشرط الاستعمال السليم. أكدت أنابيل أولمان، رئيس مركز حماية المستهلك بولاية بريمن الألمانية، والبروفيسور أندرياس هينزيل، رئيس المعهد الاتحادي لتقييم المخاطر، على ضرورة استخدام الأواني المصممة للمايكرويف. وفي السياق ذاته نقلت صحيفة الديلي البريطانية عن الخبير الغذائي ريك هاي أن بعض السموم المسببة للسرطان تتسرب من الحاويات والأواني البلاستيكية التي نستخدمها عادة لتسخين الطعام في هذه الأفران، ذلك أن هذه السموم تتسرب إلى الطعام، ومن ثم إلى الجسم، ما يُسبب ضغوطا إضافية على الجهاز الهضمي وعلى الجهاز المناعي أيضا. وأضاف الخبير أن هذه السموم يمكن أن يكون لها تأثيرٌ ضارٌ على الخصوبة والتوازن الهرموني وضغط الدم وصحة القلب والأوعية الدموية والمزاج. وفي نفس المنحى فقد سبق أن حذر العلماء في المعهد الوطني لعلوم الصحة البيئية في الولاياتالمتحدة من استخدام أوان بلاستيكية معينة لتسخين الأغذية في الميكروويف، إذ إنه يؤثر سلبيا في عمل الغدد الصماء، ويسبب مشاكل صحية معقدة مع مرور الوقت، مثل أمراض المناعة الذاتية والربو والبدانة والسكري والعقم وبعض أنواع الأمراض السرطانية. وسبق أن أصدرت منظمة الصحة العالمية نشرة تحذيرية، وصفت خلالها مئات من المركبات الكيميائية التي يمكنها أن تنتج عن تحليل بعض المواد البلاستيكية بتدمير نظام الغدد الصماء، إذ إن اختلاطها بالمواد الغذائية يضر بالصحة. وفي بيان آخر لها أصدرته للتعليق على مخاوف استخدام الميكروويف، أكدت المنظمة أن طهو وتسخين الطعام في الميكروويف آمن تماما إذا استحضرت جميع وسائل السلامة، وأؤكد "جميع وسائل السلامة"، وأن فقدان الطعام لعناصره الغذائية يحدث سواء في استخدام الميكروويف أو الفرن التقليدي، وتنصح باتباع تعليمات الاستخدام عند شراء الفرن استجابة لشروط السلامة العامة. لا يشكل التعرض للإشعاعات التي يولدها الميكرو أوند خطرا كبيرا إلا إذا كان ذلك لمدة طويلة ومستويات طاقة عالية جدا؛ لذا يجب فحص الفرن والبحث عن أي شقوق أو كسور من الداخل أو الخارج قبل تشغيله مع التأكد من إغلاق الباب جيدا لمنع أي تسريب إشعاعي؛ ذلك أن التعرض للموجات الكهرومغناطيسيّة الدقيقة يؤدي إلى الإصابة بحروق شديدة، فيتعين أيضا العمل على إبعاد الحوامل والأطفال عن مصادر الموجات. وتوصي المنظمة ألا يتم التسخين بشكل زائد حتى لا يصل للغليان، على عكس الأفران العادية، التي تسمح بخروج البخار الناتج عن عملية الغليان من خلال الفقاعات، لكون فرن الموجات يحبس هذا البخار، ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة داخله بشكل كبير، ما قد يتسبب في حروق بالفم في حلة تناول الطعام مباشرة بعد خروجه. قبل الختام نذكر بالدراسة التي أنجزها الدكتور كوان فونغ، العالم الأسترالي المتخصص في الأغذية_الطبيعية، كما تناقلتها وسائل الإعلام في أبريل من السنة الماضية 2017، والتي مفادها أن إعداد كوب من الشاي في فرن الميكروويف أكثر فائدة بكثير من إعداده بالطريقة التقليدية في الإبريق أو الغلاية. كما هو معروف فالشاي الأخضر من نبات كاميليا " Camellia sinensis" ومضادات الأكسدة، ما يجعله مفيدا جدا للصحة. وأكد الباحث ذاته أن غلي الشاي لمدة 30 ثانية في فرن الميكروويف وتركه لمدة 1 دقيقة واحدة، سيجعل الكوب يحتفظ بنحو 80% من المركبات البيولوجية الفعالة مثل الكافيين والثيانين والبوليفينول. هذه المادة الأخيرة هي نوع من مضادات الأكسدة التي تقلل مخاطر الإصابة بالأمراض المرتبطة بالأوعية الدموية وارتفاع مستوى الكوليسترول وضغط الدم العالي والسكري، بينما الثيانين هو نوع من الأحماض الأمينية التي تعزز من الشعور بالاسترخاء. ورغم كل التحذيرات التي أحيطت بجهاز الميكرو أوند مند اكتشافه حتى يومنا الحالي، فإنه أصبح جهازا أساسيا في المطبخ، ولا شك أنه يساعد على إنجاز مهام منزلية غذائية كثيرة، سواء في التسخين أو الطهي، لكن في الآن نفسه لا يجب الاستهتار ببعض التحذيرات التي ذكرناها، والتي قد تسبب ضررا كبيرا على الأسرة، خاصة زيادة فرصة الإصابة بالسرطانات. * دكتوراه في الفيزياء بجامعة محمد الخامس بالرباط