داخل حديقة فندق "الملكة كريستينا" (Hotel Reina Cristina) بمدينة الجزيرة الخضراء (Algeciras)، جنوب إسبانيا، توجد بقايا واحد من أقدم المساجد التي بُنيت في شبه الجزيرة الإيبيرية على الأرجح غداة فتحها، هذا الفندق يوجد على مقربةٍ من الشّاطئ الذي نزل فيه طارق ابن زياد وجيشه سنة 711م، ومن "جبل طارق". يقع هذا الفندق الكبير في المرتفعات المحيطة بهذه المدينة السّاحلية الجميلة التي أصبحت اليوم ممرّاً رئيسيّاً للعديد من المسافرين المغاربة، ومن جنسيات مختلفة، المتّجهين إلى إسبانيا، أو إلى مختلف البلدان الأوروبية، أو العائدين منها إلى المغرب. في هذا الفندق ذي الطابع الفيكتوري الكلاسيكي عُقد مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906 حول المغرب كمُستعمَرَة أوروبية بمشاركة اثني عشر دولة أوروبية، وشارك فيه الرئيس الأمريكي روزفلت كوسيط. كان هذا الفندق في ذلك الإبّان من أفخم فنادق مدينة الجزيرة الخضراء، المعروفة اليوم باسم Algeciras، وتملأ قاعاته الواسعة، وباحاته الفسيحة وجدرانه الداخلية العديد من الصّور التاريخية التذكارية لمختلف المتلقيات، والتظاهرات، والمؤتمرات الدولية التي عقدت بمبناه الكبير، منها صور فعاليات ووقائع مؤتمر الجزيرة الخضراء التاريخي الآنف الذكر، كما نجد نصباً تذكارياً وصوراً للشاعر الأندلسي الغرناطي ذائع الصّيت فديريكو غارسيا لوركا الذي كان ينزل في هذا الفندق ويؤمّه كثيراً أيام عزّه وأوجه، فضلاً عن صور ورسومات ولوحات تاريخية أخرى، كما كان هذا الفندق أثيراً لدى العاهل الإسباني الأسبق خوان كارلوس الأول، ورئيس الوزراء البريطاني المعروف ونستون تشرشل، بالإضافة إلى شخصيات سياسية، وفنيّة، وأدبية، وتاريخية شهيرة أخرى. في السنة الماضية أقمتُ في هذا الفندق لمدة يومين، وقمتُ بتصوير بقايا المسجد الذي يوجد في حدائقه وتحيط به أسوار مهترئة، وأعمدة متآكلة آيلة للسقوط، وتعلوه النباتات المتسلقة، من نوع نبات اللبلاب وما أشبه التي تكوّن عريشاً متشابكاً حول جدران المسجد، وتتوسّط بقايا بنايات المسجد بئر كبيرة من السّهولة رؤية الماء في قعرها العميق، كانت هذه البئر تُستعمل للوضوء، ولأغراض الطهارة والنظافة ولمآرب أخرى، وبالفعل أخبرنا القائمون على هذا الفندق، كما رأينا ذلك منشوراً ومشاراً إليه في مطبوعاته وكاطالوغاته، بأنه يوجد بحدائقه على بعد بضعة أمتار من الباب الرئيسي الكبير لمبنى الفندق واحد من أقدم المساجد التي تمّ بناؤها في الأندلس. هجوم الفايكينج تشير بعض المراجع التاريخية، ومصادر القرون الوسطى، إلى أن هذا المسجد-الجامع أمر ببنائه صقر قريش عبد الرحمن الاوّل الداخل، وقد عهد للمهندس المعماري عبد الله بن خالد مهمة بنائه، حيث كان يحتوي على خمسة مبانٍ مغطاة في اتجاه ناحية الشمال، وكانت به مئذنة إلاّ أنها اندثرت ولم يصلنا منها أثر إلى أيامنا، كما يؤكد المؤرّخون أن هذا المسجد بني على بناية سابقة كانت توجد في المكان الذي بني فيه. كما تشير هذه المصادر التاريخية التي تتحدّث عن مدينة الجزيرة الخضراء إلى أن هذا المسجد- الجامع- قد تعرّض لهجوم الفايكينج عام 859، الذين كانوا قد قاموا بغزوات من البحر على هذه المدينة طمعاً في غنائمها، وخيراتها، وممتلكات أهلها، ففرّ السكان إلى الآكام والمرتفعات العالية للمدينة وتعقبتهم جحافل من قراصنة الفايكينج حيث أضرموا النار في المسجد ممّا أثار غضب وحفيظة الجزيريّين (نسبةً إلى مدينة الجزيرة الخضراء)، فهاجموا بدون هوادة الغزاة وأمكنهم أسر إثنين من مراكبهم الكبيرة، وشيّدوا بخشبها أبواباً، وشبابيك، وعوارض للمسجد الذي بنوه من جديد. وتشير المصادر التاريخية إلى أن ملك إسبانيا ألفونسو الحادي عشر(1344) أمكنه استعادة مدينة الجزيرة الخضراء وأمر بتحويل المسجد-الجامع إلى كاتدرائية أطلق عليها اسم (سانتا ماريا دي بالما)، وهي قديسة المدينة. وتؤكد لنا معظم الرّوايات أنه في عام 1369 عاد هذا المبنى وأصبح مسجداً إسلامياً من جديد على يد سلطان غرناطة ومُجدّد قصر الحمراء بها محمد الخامس، بعد أن أمكنه استرداد مدينة الجزيرة الخضراء من يد الإسبان، ليعود ويُدمّر من جديد عام 1379. وخلال القرن الثامن عشر، استُعمِلت غرف وأروقة بقايا المسجد لتخزين البارود، ويمكن لنزلاء وزوّار هذا الفندق التاريخي الكبير اليوم زيارة الجدران الثلاثة الباقية من هذا المسجد، وكذا مشاهدة البئر التي تتوسطه، وحفرة قبو فناء الوضوء حيث تمّ دمج كلّ ذلك في حدائق فندق الملكة كريستينا. وخلال إقامتي بهذا الفندق، أخذت العديد من الصور التذكارية لمبناه، ولحدائقه الفسيحة، ولبقايا المسجد الذي اندثر ولم يبق منه سوى جدران أطلاله المتهالكة التي تلوح من بعيد للناظر إليها كباقي الوشم في ظاهر اليد! أين أصحاب هذه الحضارة؟ التساؤل الذي يدور بخلد كلّ زائر لهذا الفندق والمسجد–الجامع الذي يوجد بداخله بإلحاح هو أين هم أرباب وأصحاب هذه الحضارة التي نشأت وترعرعت، وسادت وتألقت، ثم بادت في الأندلس بعد أن ظلّت تنير دياجي الظلام بأوروبا زهاء ثماني قرون من الزّمان؟ أين هم أحفاد، أحفاد أجداد هؤلاء الذين شيّدوا هذا المسجد الذي أصبح اليوم منسيّاً، ومهجوراً في حدائق هذا الفندق مترامي الأطراف، الذي أمسى في الوقت الراهن في حالة يُرثى لها تتمزّق له ولرؤيته نياط الأفئدة؟ ثم أين هي البلدان العربية الموسومة بأنّ الله قيّض لها أن تكون على أيّامنا في بحبوحة من العيش والرّخاء والثراء؟ وأين هي الجمعيات، والمؤسّسات، والمنظمات الثقافية الكبرى، سواء المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم "الألكسو"، أو منظمة اليونسكو العالمية التي تُعنى بحفظ التراث الإنساني والحفاظ عليه، وصونه، وترميمه؟ هذه الجهات وسواها لم تحرّك ساكناً لإنقاذ هذه المعلمة التاريخية نظراً لأقدميتها، ورمزيتها، ودلالاتها التاريخية، خاصّةً وأنّ إسبانيا ترحّب اليوم بإعادة ترميم مآثر، ومعالم، وآثار مُخلّفات العرب، والأمازيغ، إسلامية كانت أو مسيحية، أم يهودية، الموجودة في شبه الجزيرة الإيبيرية، سواء تعلّق الأمر بإسبانيا أو البرتغال. مواقع ومآثر أخرى تمّ ترميمها لقد أصبح الإسبان اليوم وجيرانهم البرتغاليون شغوفين بمثل هذه المبادرات، وعلى هذا الأساس تجدر الإشارة والإشادة بالجهود المتواصلة التي بُذلت في هذا القبيل، خاصّة في عقد الثمانينيات من القرن الفارط حيث شاركتُ في بعضها عن كثب بحُكم وجودي في إسبانيا في ذلك الأوان؛ إذ تمّ اكتشاف وترميم العديد من المعالم والمآثر الإسلامية في إسبانيا، أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر مدينة "سياسة" (Medina Siyasa en Cieza) الموحّدية بالقرب من مدينة مورسية (مسقط رأس العالم الصوفي الجهبذ المعروف ابن عربي المُرسي)، ولقد ظلّت "سياسة" مطمورة ومواراة عن الأنظار لقرون، فضلاً عن ترميم قصبتها المعروفة ب "Alcazaba Castillo de Cieza". يُضاف إلى ذلك ترميم أماكن ومواقع تاريخية أخرى ذات أهمية قصوى بالنسبة للتاريخ العربي والأمازيغي في شبه الجزيرة الإيبيرية، مثل مدينة "بني رزين" (Albarracin) القريبة من مدينة (Teruel) الإسبانية المُسمّاة على اسم المدينة المغربية "تروال" الواقعة ناحية مدينة وزّان المغربية، فضلاً عن المواقع، والحصون، والقلاع، والقصور الموجودة بنواحي مدينة سراقسطة، التي كانت تنافس بقيّة المدن الأندلسيّة الأخرى في الحُسن طوراً، وأطواراً تباهيها، في الشّعر، والآداب، والعلوم والفلسفة، والفلك والرياضيات في بلاط أبي جعفر المقتدر مشيّد قصر "الجعفرية" الشّهير في القرن الحادي عشر الميلادي الذي ما يزال شاهداً ماثلاً للعيان على روعة وجمالية المعمار العربي- الأمازيغي بهذه الدّيار حتى الآن. ومدينة" أليكانتي" (من القنت) التي ينتمي إليها الطبيب والعالِم الأندلسي محمد الشّفرة، وقد أطلِق اسم هذا الطبيب على شارع كبير بالمدينة، كما يتمّ تنظيم مسابقات علمية بهذه المدينة كلّ عام حول أعماله وإسهاماته في ميدان الطب في زمانه. عاش (محمد الشّفرة) عيشة بحث متواصل في ميدان العلوم والنباتات، وتذكر المصادر العربية أنه كان طبيباً بارعاً، كما يؤكد الباحث الفرنسي "لوسّيان لوكلير"، في كتابه الضّخم "تاريخ الطبّ عند العرب": "أنّه لم يكن طبيباً وحسب، بل كان نباتياً كبيراً أيضاً يبحث عن النباتات الغريبة ويجمعها بنفسه كيفما كانت صعوبة الأرض ووعورتها، وكان يملك في مدينة (وادي آش) حديقة نباتية من طراز رفيع يُجري فيها أبحاثه وتجاربه". يُضاف إلى ذلك مشاريع ترميم أحياء البيّازين، وموقع البِشْرات، وقصر الحمراء نفسه الذي أصبح اليوم يكتسي هنداماً رائعاً جديداً بعد ترميمه بما فيه ساحة السّباع، أو بهو الأسود، وتجديد أرضية الحمراء ذات المرمر الموضون، فضلاً عن ترميم أسوار مدينة "مجدريط" القديمة (مدريد الحالية) وهي المدينة الوحيدة في أوروبا التي أسّسها المسلمون تأسيساً (على يد محمّد بن عبد الرحمن الثالث في القرن التاسع الميلادي) والوحيدة التي تحمل اسماً عربيّاً. وتجدر الإشارة كذلك في هذا الصدد إلى مطالبة إسبانيا مؤخّراً بالاعتراف بمدينة "الزهراء" التاريخية (القريبة من مدينة قرطبة) كتراث إنساني من طرف اليونسكو، وسواها من المآثر، والمعالم، والمواقع الأخرى التي تعرّضنا لها في مختلف المقالات والدراسات التي نشرناها عن الأندلس في "القدس العربي" على وجه الخصوص. ويتضح لنا ممّا سبق أن الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الايبيرية لم ينحصر أو يزدهر فقط في إقليم الأندلس وحسب، بل أن إقليم "أراغون" كذلك الذي يضمّ عدّة مدن مثل "سرقسطة"، و"طرطوشة"، و"ترويل" و"قلعة أيوب"، و"وِشقة"، و"بني عروس"، و"بني قاسم" إلخ... عرف فيه الوجود العربي-الأمازيغي ازدهاراً لا يقلّ أهميةً عن مثيله في جنوباسبانيا (الأندلس). عبد الرحمن الدّاخل ونخلة الأندلس ولقد كنتُ في هذا السياق قد قمت بتحسيس عمدة مدينة المُنكّب (Almuñecar)، السّيد Carlos Vinavides، بأهمية تشييد تمثال أو مُجسّم كبير لصقر قريش عبد الرحمن الداخل (731 - 788) لنزوله بعد عدوته وصحبه من شمال إفريقيا إلى الأندلس في سواحل هذه المدينة بالذات سنة 755م، فارّاً من بطش العبّاسيين الذين ظلّوا يقتفون أثره حتى بعد وصوله إلى الأندلس، حسب معظم المؤرّخين الثقات في تاريخ الأندلس. وتمّ تنفيذ فكرة إقامة تمثال كبير على الساحل نفسه الذي وطئته قدما عبد الرحمن الداخل، ويرتفع هذا التمثال اليوم في فضاء هذا الثغر السياحي الجميل على علوّ شاهق يبلغ تسعة أمتار، وقد كُتبت على رخامة تحاذي ركبتيه عبارة موجزة عن وصوله إلى عَدْوة الأندلس، وقصّة نزوحه ونزوله في شطآن هذه المدينة التي انطلق منها إلى قرطبة حيث أسّس أوّل إمارة أموية بالأندلس، كما كُتبت على النّصب التذكاري لهذ الرّخامة أبيات مشهورة له مترجمة إلى اللغة الإسبانية يصف فيها نخلة تبدّت له في هذه الديار الأندلسية النائية عن بلده غداة وصوله إليها، يقول فيها: تبدّت لنا وسط الرّصافة نخلة**تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلتُ شبيهي في التغرّب والنوىَ**وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ**فمثلكِ في الإقصاء والمنتأىَ مثلي. شكراً لإسبانيا وللقائمين على فندق "الملكة كريستينا" الكبير لأنهم تركوا مسجد مدينة الجزيرة الخضراء على حاله، ولم يهدموه حتى ولو أصبح أو كاد أن يصبح ركاماً دارساً، وطللاً بالياً تتساقط أحجارُه، وتتهاوى لبناته يوماً بعد يوم. على كلّ حال، لا بدّ أن تكون لنا عودة لهذا الموضوع نظراً لأهميته التاريخية، وعمق رمزيته ودلالته بالنسبة لكلّ مَنْ يشعر بغيرة على مخلفات أجدادنا في الدّيار الأندلسية الفيحاء حتى ولو أصابها البلى، وطالها النسيان والإهمال! مسجد المُونستير الرّيال وفى السياق نفسه، هناك "مسجد المونستير الريال"، أو الملكي، الواقع بإقليم ويلفا بجبال غرب الأندلس، على بعد 120 كيلومترا من إشبيلية، بالقرب من الحدود البرتغالية، يعود تاريخه إلى ألف سنة؛ إذ أسّس خلال الخلافة الأموية بقرطبة، بين القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، ويُعتبر من أقدم المساجد في أوروبا كذلك. بني على أنقاض معبد قوطي قديم، وبعد حرب الاسترداد عاد هذا المسجد وأصبح كنيسة. ويكتسي هذا المسجد أهمية بالغة لأنه المسجد-الجامع الأندلسي الوحيد الذي حافظ على بنائه الأصلي في هذه المنطقة البدوية النائية. ومنذ 1931، تمّ اعتباره من المعالم الأثرية الوطنية كتراث تاريخي ذي قيمة كبرى. ويشير المؤرخ أبو عبد الله البكري (حسب ليفي بروفنسال) إلى أن "إقليم المونستير وباقي القرى الإشبيلية جمعوا ما ينيف على 35000 دينار من الجباية". استردّ المسيحيون المونستير في القرن 13، وتقام في المسجد اليوم تظاهرات ثقافية كل عام، ويسمح بالصّلاة فيه وتلاوة القرآن الكريم، وإقامة الشعائر الدينية الإسلامية والمسيحية في أن واحد. وفي سنة 1975، ومع انطلاق العهد الديمقراطي في إسبانيا، وزيادة الاهتمام بترميم الآثار العمرانية الأندلسية، تمّ ترميم مسجد المُنستير، الذي فتح أبوابه منذ ذلك التاريخ للمسلمين من أجل أداء صلواتهم. ومن بين مرافقه التي توجد في حالة جيدة جداً، بالإضافة إلى المحراب وصحن الوضوء، هناك قاعة الصلاة التي تبلغ مساحتها 118 مترا مربعا، والمئذنة. وقد قام "مركز الدراسات الأندلسية وحوار الحضارات" بإنتاج شريط وثائقي حول المسجد، وحول التظاهرات الثقافية والدينية التي تُقام فيه كل عام. *عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا