إن تطور الشعوب والمجتمعات، التي نشهد اليوم تقدمها السياسي والاقتصادي والثقافي والأكاديمي، لم يأتِ نتيجة الصدفة أو ما شابه ذلك؛ لكن راجع بالأساس إلى العودة إلى ذاتها، بتقديم نقد لها بطريقة موضوعية، متجردة من كل النوازع النفسية، التي تؤدي إلى التقهقر والرجوع إلى الوراء. من هذا المنطلق، فإن النقد الذاتي الذي يترتب بين الفرد وذاته، والفرد بجماعته ككل، يشكل بداية منعطف رئيسي للتخلص من الدوغمائية التي تحجب الرؤية عن عينه، وتمهد لبداية تمييزه بين المتناقضات، التي لا يمكن إلا من خلالها أن يفهم الفرد واقعه ومتطلباته. في هذه المقالة، سنتطرق إلى الذات الريفية، بفهم للذهنية التي تؤطرها، والإشارة إلى عملية النقد، التي تفتقدها هذه الذات، مخلفة وراءها خسائر، تدنس سمعتها التاريخية، والثقافية، وتضرب كل رموزها التاريخية عرض الحائط، وما كان باقيا من سند تاريخي يسند إليه، أصبح في عشية وضحاها، مجرد لا شيء. 1- في مفهوم النقد، والنقد الذاتي يعتبر النقد في تعريفة اللغوي، تفحص الشيء والحكم عليه، وتمييز الجيد من الرديء، ومن خلاله يمكن معرفة مكامن القوة والضعف، وعبره تقترح حلولا مناسبة، ويتلخص مفهوم النقد في ثلاث نقاط رئيسية، (النظر، الفحص، والتمييز)، وما ينتج عن النظر والفحص من اكتشاف للعيوب والخبايا، وانتقاء الجيد، والحكم على الرديء. من خلال هذا الفهم المبسط لمفهوم النقد، وانسجاما مع موضوعنا، إلا أننا نجد عند توظيفه في تقييم الذات، فإن المجتمع يأخذ مساره الصحيح نحو التطور، بالرغم من أن هذا المفهوم يوظف في التنظيمات السياسية أو العمل السياسي بشكل عام، إذ يشكل عاملا في تطور النشاط السياسي، وبدونه تتراكم الأخطاء والمنزلقات، ومع مرور الزمن تصل إلى نقطة أخيرة، الأزمة والفشل، اللذان يليهما الزوال، ويشترط النقد الأنجع، الموضوعية، هذه الخاصية المهمة لتطور مسيرة معينة نحو الأفضل، وذلك بنقد نفسها باستمرار، بهدف تصحيح مسارها وضمان انتصارها. في مجتمعنا الهجين، نجد غيابا لهذا المفهوم، فكرة وممارسة، وذلك راجع إلى دافع سيكولوجي، يحدد ضمن خصلة الأنانية، أنانية الفرد بدورها تنتج مجتمعا أنانيا، لا يملك الجرأة لنقد ذاته بموضوعية، خائفا من الحقيقة، هذه النزعة النفسية المتفشية في المجتمع ومكوناته، تخلق فرصة الهيمنة والسيادة للسلطة، وتطويقها للمجتمع من كل جوانبه، نتيجة مجتمع غير واع بمهمته الرئيسية، وتحظى السلطة في هذه الوضعية ببراءة من كل السياسة القمعية التي تنهجها، والحكم بالبراءة على السلطة في هذه الوضعية، يستند إلى أنانية المجتمع، حيث تعلو المصلحة الشخصية على الجماعية، وبروز الأنا بشكل واضح، وبهذا تبقى السلطة سيدة الموقف، وصاحبة الرأي السديد. عاش الريف حراكا اجتماعيا سلميا، أدى إلى غربلة المفاهيم، التي تستند عليها السلطة، من جهة، وكذلك غربلة المجتمع المغربي ككل، والريف بالخصوص من جهة أخرى. وهذا ما سنركز عليه أكثر، لمعرفة ما وصلت إليه هذه الذات التائهة بين نوازع نفسية، وتوريط شريحة مجتمعية مغربية مهمة، طموحها الأسمى من هذا الحراك ككل، تحقيق العيش الكريم، والعدالة الاجتماعية. 2- في نقد للذات الريفية إن الوصول إلى فهم الذات الريفية لا يمكن أن يتم إلا بربط الحاضر بالماضي، الذي جمع كل المتناقضات (المقاومة والاستسلام، الموت والحياة..)، في مرحلة معينة من التاريخ، حيث تميز فيها بالوحدة ضد المستعمر، وشهد العالم على ملحمات هذا الشعب الصغير، البدائي الوسائل، بتلقينه دروسا في الحرب والمقاومة الخلاقة. هذه الميزات، التي قلت في زماننا، صنف بها هذا الشعب ضمن خانة الشعوب المقاومة والمؤمنة بحق الحياة، وذلك بإنتاج شخصية تاريخية، بالرغم من تعدد ميزاتها إلا أنها عرفت بشكل رئيسي بالدعوة إلى الوحدة والحكمة في التعامل مع الواقع، وبالطبع أبهر بها العالم. في حاضرنا، أنتج لنا ثلة من الشباب، انتفضوا بكل عقلانية، اتجاه أوضاع اجتماعية، اقتصادية، وتعليمية، في الأخير أدى باعتقالهم، ولقوا أنفسهم ضمن لعبة سياسية، تتعدد أطرافها، وتختلف مفاهيمها. وبقي رأسمالهم الوحيد، الممانعة. هذه الإشكالية المرحلية التي تشكل من نقيضين رئيسين، السلطة وشباب الحراك، التي استغرقت بدورها وقتا طويلا، بسبب العديد من العوامل، وأبرزها الذهنية السلبية الحاضرة، وعدم فهم مضمون الحراك ومبتغاه الحقيقي، الذي يتجلى في مطالب اجتماعية واقتصادية فقط، رغم أنه استند على معبرات تاريخية مشرفة، لكن لا يمكن تأويلها إلا فهم أخر، ولا يمكن أيضا أن تخدم أطروحات بعض الذوات التي حاولت مرارا وتكرارا أن تتوغل لترسم طريقا آخر، وما نجده أيضا مسيئا، الدفاع عن هؤلاء المعتقلين بممارسات ونشر أفكار لا تسهم إلا في توريطهم أكثر مع السلطة. إذن، إشكالية الشباب المعتقل والسلطة، والتفكير للوصول إلى حل لها، كان من المفترض أن يكون هناك نقد ذاتي، لمعرفة مكامن القوة والضعف، للخروج بآليات عملية حكيمة، تصب في مصلحة المعتقلين، لا بتوريطهم، وتقييم مسيرة نضالية امتدت حوالي سنة؛ لأن المسألة تنصب على حقوق اجتماعية قابلة للتفاوض، إذ هناك تجارب نضالية في التاريخ أكثر من هذا، استدعت الضرورة للتقييم والتفاوض. بالرجوع إلى الدافع السيكولوجي الذي يطغى على هذه الفئة، والذي ينحصر حول الأنانية المرسخة في ذهنية الريفي، نجد في بداية ظهورها لم تكن بهذا الشكل، بل ابتدأت بقيم إيجابية، كالاعتزاز بالنفس، عدم التنازل عن قول الحق، الثقة في النفس...، هذه القيم التي كانت في الأول توظف في وضعيات صحيحة، لكن بتطور الأجيال تعرضت هذه القيم لتشويه في فهمها وتوظيفها، وتحولت إلى أنانية محضة، وتظهر هذه الخصلة في العمل الجماعي بشكل واضح (بروز الأنا)، وما وصلت إليه مسيرة الحراك، عرى عن ذهنية متهورة، حيث يسمع صوتها عن صوت الحكمة، ويصبح الريفي البسيط بين مطرقة السلطة وسندان أخيه. على العموم، مسألة حراك الريف ومعتقليها تعتبر فرصة لهذه الذات بإعادة ترتيب أوراقها، والابتعاد عن النزعات النفسية (الأنانية، الحماس)، والتفكير بشكل جماعي، للبلوغ نحو حل يراعي جميع الشروط (الذاتية والموضوعية)، وإعطاء الجميع فرصة التعبير عن الرأي، والتخلص من ثقافة التخوين، واحترام الآخر ولو كان نقيضا، لأن الذي ينادي بمجتمع راق مؤسس على الاختلاف يجب أن يبدأ من نفسه أولا، بتفعيل تقنية النقد الذاتي، وليس تقنيات التواصل الاجتماعي. *أستاذ اللغة الأمازيغية، وطالب باحث في سلك الماستر أدب وترجمة.