يقوم منهاج التعليم المغربي على عدة مداخل (المقاربة بالكفايات، التربية على الاختيار، التربية على القيم) يتم تنزيلها على مستوى الممارسة الفصلية عبر جملة من المواد والتخصصات التي يرتبط بعضها بالقطب العلمي الصرف (علوم رياضية، علوم فيزيائية، علوم الحياة والأرض...)، والبعض الآخر بقطب اللغات والآداب والعلوم الإنسانية (لغات، فلسفة، تاريخ وجغرافيا، تربية إسلامية...). وفي صلب هذه الهندسة المعرفية تتموقع مادة "الاجتماعيات" في السلك الثانوي الإعدادي، أو "التاريخ والجغرافيا" في السلك الثانوي التأهيلي، حيث تساهم شأنها في ذلك شأن باقي المواد، في تمكين المتعلم(ة) من اكتساب كفايات متعددة المستويات، سواء على المستوى المعرفي أو المنهجي أو التواصلي أو المهاري أو المواقفي أو القيمي...إلخ. ودون الخوض في الوظائف والمرجعيات البيداغوجية والديدكتيكية التي تتحكم في كل مكون من مكونات هذه المادة، سواء في السلك الثانوي الإعدادي (تاريخ، جغرافيا، تربية على المواطنة) أو في السلك الثانوي التأهيلي (تاريخ، جغرافيا) أو في التعليم العالي (شعبة التاريخ والحضارة أو شعبة الجغرافيا)، والتي تجعلها متفردة مقارنة مع غيرها من المواد والتخصصات، تثير هذه المادة الحيوية جملة من القضايا، منها ما يرتبط بعقم البرامج وعجزها عن مواكبة التحولات الوطنية والإقليمية والدولية، ومنها ما يلامس الكم المنتج للرتابة والرداءة، ومنها ما يثير الجوانب المنهجية (الأطر المرجعية أساسا: طريقة الاشتغال على الموضوع المقالي والوثائق)، ومنها ما يخص ظروف ووسائل العمل المرتبطة بطبيعة وخصوصيات المادة (من قبيل: غياب قاعات متخصصة، افتقار بعض المؤسسات لمخدع الخرائط والحواسيب وأجهزة العرض "دتاشاو"، الافتقاد لأقراص مدمجة "رسمية" متضمنة لمقاطع فيديو من شأنها تدعيم التعلمات ذات الصلة ببعض الوحدات الدراسية التي تحتاج بحكم طبيعتها إلى الموارد الرقمية (على سبيل المثال لا الحصر: دروس الحربين العالميتين، دروس المغرب، دروس أزمة المدينة والريف، التنمية، المنظومة البيئية، الأرض في الكون، النطاقات المناخية... إلخ) أو لإحصائيات محينة أو منشورات دورية تقدم معطيات إحصائية محينة لتجاوز تقادم المعطيات المضمنة بالكتب المدرسية... إلخ). لكن ودون الخوض في تفاصيل هذه القضايا الشائكة، سنلقي الضوء على موضوع يخترق كل القضايا المرتبطة بتدريس المادة، ويتعلق الأمر ب"جودة التعلمات" التي أضحت سؤالا مشروعا اعتبارا للتغيرات التي تطال مكوناتها عبر الأسلاك التعليمية، بدء بالسلك الثانوي الاعدادي مرورا بالسلك الثانوي التأهيلي وانتهاء بالتعليم الجامعي. السلك الثانوي الإعدادي: مادة واحدة تحتضن ثلاثة تخصصات: باستقراء هندسة المواد المبرمجة في السلك الثانوي الإعدادي تحضر مادة "الاجتماعيات" على امتداد سنوات هذا السلك، وهي تنفرد عن غيرها من المواد والتخصصات باحتضانها لثلاثة مكونات أو تخصصات تنصهر جميعها تحت لواء مادة واحدة اسمها "الاجتماعيات"، وهي تسمية مرنة ومطاطية استطاعت ولسنوات أن تجمع ثلاثة تخصصات بمرجعيات ووظائف مختلفة، يرتبط بعضها بالزمن وما يفرزه من سنن التحول والتغير في السياسة والمجتمع والاقتصاد والنظم والعمران والتقاليد والعادات وأنماط العيش...إلخ (التاريخ)، وبعضها يتأسس على علاقة الإنسان بالمجال بكل ما يترتب عن هذه العلاقة من تفاعلات وتحولات مستمرة متعددة المستويات (الجغرافيا)، وبعضها الثالث ينفلت من مؤثرات الزمن والمجال ويجنح نحو حقل العلوم القانونية بكل تفرعاتها (قانون إداري، قانون دستوري، التنظيم القضائي، علم السياسة... إلخ) (التربية على المواطنة)، في إطار "وصفة" ثلاثية تمنح المتعلم(ة) ثلاث حصص أسبوعية تنقله تباعا إلى عوالم التاريخ والجغرافيا والتربية على المواطنة. السلك الثانوي التأهيلي: من الاجتماعيات إلى التاريخ والجغرافيا: بالانتقال إلى السلك الثانوي التأهيلي يحدث الاتصال والانفصال في الآن نفسه، اتصال يمكن قراءته من خلال حضور المادة (التاريخ والجغرافيا) ضمن تشكيلة المواد والتخصصات المبرمجة في هذا السلك انطلاقا من الجذوع المشتركة (آداب، علوم، مهني..) مرورا بالسنة الأولى (علوم، آداب) وانتهاء بالسنة الثانية (آداب، آداب وعلوم إنسانية)، وانفصال تعبر عنه عملية القطع النهائي مع التربية على المواطنة (المكون الثالث) التي تنتهي حكايتها عند عتبة السنة الأخيرة من التعليم الثانوي الإعدادي، وهذا الانفصال يثير سؤال "التسمية". وفي هذا الصدد، وباستقراء التوجيهات التربوية الخاصة بتدريس المادة بالسك الإعدادي، تحضر "تسمية" الاجتماعيات، بينما التوجيهات التربوية الخاصة بالسلك التأهيلي تربط المادة باسم "التاريخ والجغرافيا"، وهذا الاسم يبدو أكثر وضوحا وأكثر دقة، لكن ورغم أن التوجيهات التربوية حسمت في التسمية، فإن المادة في السلك التأهيلي ما زالت مقترنة باسم "الاجتماعيات"، سواء على مستوى بعض المراسلات الإدارية أو على مستوى ذهنية المتعلمات والمتعلمين الذين مازالوا مرتبطين وجدانيا بالتسمية التي تميز المادة في المرحلة الإعدادية (الاجتماعيات بدل التاريخ والجغرافيا)، لكن ودون الخوض في النبش في أبعاد ودلالات التسمية (الاجتماعيات أو التاريخ والجغرافيا)، تطرح عملية الفصل والقطع النهائي مع مكون "التربية على المواطنة" في السلك التأهيلي جملة من التساؤلات نورد بعضها على النحو التالي: -أي سبب أو أسباب تحكمت في التخلي عن مكون "التربية على المواطنة" في السلك التأهيلي، وجعلها حبيسة السلك الإعدادي؟ -ما الجدوى من تدريس مادة على جانب كبير من الأهمية في ثلاث سنوات، وحذفها وترك المتعلم(ة) أمام فراغ قانوني وحقوقي وسياسي خلال المرحلة التأهيلية؟ -ألا يعكس هذا الفصل ضعفا في الرؤية وسوء في التقدير، على اعتبار أن المتعلم(ة) في السلك التأهيلي يبقى الأكثر حاجة إلى دراسة مادة ذات بعد قانوني وحقوقي اعتبارا لمستواه الإدراكي واقترابه من سن الرشد القانوني، حيث يفترض أن يكون ملما بما يكفي من المعارف القانونية والحقوقية، ما يجعله قادرا على الاندماج السلس في مجتمعه السياسي والمدني على مستوى الانخراط في الأحزاب السياسية أو المجتمع المدني أو المشاركة في الانتخابات كناخب أو منتخب أو على مستوى الوعي بقضايا ورهانات الأمة...؟ وبعيدا عن حرارة السؤال، يلاحظ -انطلاقا من واقع الممارسة- أن بعض المتعلمين في السلك التأهيلي غير ملمين ببعض المفاهيم السياسية أو القانونية أو الحقوقية التي تلقوها في إطار "مادة التربية على المواطنة"، من قبيل "السلطة التنفيذية، السلطة التشريعية، السلطة القضائية، التنظيم القضائي، الدستور، فصل السلط... إلخ"، وبعضهم الآخر يستحضر هذه المفاهيم وغيرها بنوع من الضبابية البعيدة عن الوعي والإدراك، مما يصعب عليهم فهم واستيعاب بعض الوحدات الدراسية (درس عصر الأنوار نموذجا)، وهي وضعية تفرض على المدرس(ة) بذل المزيد من الجهد من أجل تمكين المتعلمين من فحوى مفهوم من المفاهيم ورد في سياق درس أو حدث معين، مما يفيد بأن التخلي عن تدريس مادة ذات أبعاد قانونية وسياسية وحقوقية في السلك التأهيلي، هو فعل لن يفرز إلا متعلما مشلولا قانونيا ومعاقا حقوقيا. التعليم العالي: فصل لا رجعة فيه بين التاريخ والجغرافيا على المستوى العمودي، إذا كانت المادتان (التاريخ والجغرافيا) حاضرتين في السلكين الإعدادي والتأهيلي، فإنهما ينفصلان بشكل لا رجعة فيه على مستوى التعليم العالي (شعبة التاريخ والحضارة – شعبة الجغرافيا) بعدما كانتا في ظل النظام القديم متصلتين خلال السنتين الأولى والثانية (شعبة التاريخ والجغرافيا)، وهذا الفصل وإن أعطى لكل تخصص استقلاليته وهويته الكاملة ومنح للطالب إمكانية لاختيار التخصص الذي يستهويه، فإنه يثير نوعا من الإشكال الذي يسائل جودة التعلمات، أخذا بعين الاعتبار بعض حاملي الإجازات سواء في "التاريخ والحضارة" أو في "الجغرافيا" الذين يلتحقون بالتدريس كأساتذة للاجتماعيات أو التاريخ والجغرافيا ويكونون ملزمين بتدريس المادتين معا، دون نسيان مادة "التربية على المواطنة" فيما يتعلق بالسلك الإعدادي. سؤال الجودة في الواجهة: بالعودة إلى السلك الثانوي الإعدادي، يلاحظ أن مدرس(ة) الاجتماعيات ملزم بتدريس ثلاثة تخصصات في آن واحد (التاريخ + الجغرافيا+ التربية على المواطنة)، وهذا التوجه لن يمس إلا بجوهر جودة التعلمات التي تمرر للمتعلم(ة)، فمثلا قد يكون المدرس(ة) متخصصا في التاريخ والحضارة، وعليه أن يدرس الجغرافيا، فقد يجد بعض الصعوبات في تقديم درس جغرافي أو الإحاطة بمعطيات ظاهرة جغرافية لا من حيث الوصف أو التفسير، أو تحليل معطيات إحصائية أو تمكين المتعلمين من مهارة رسم مبيان أو خريطة طبوغرافية... إلخ، والعكس صحيح تماما إذا كان تخصصه "جغرافيا"، حيث قد يصادف صعوبات متعددة المستويات في الإحاطة بالسياق التاريخي لوثائق أو تحليل نص تاريخي أو فقدان المعارف التاريخية الكفيلة بأخذ رؤية شمولية تجمع بين أكثر من وحدة دراسية أو عدم القدرة على التعامل مع الوثائق وفق خطوات النهج التاريخي، أو تحليل صورة تاريخية... إلخ، وفي كلتا الحالتين إذا كان المدرس(ة) ملما بتخصصه ومتمكنا منه، فلا شك في ذلك أن أداءه في المكون الآخر سيكون أقل جودة، مما سينعكس على طبيعة المعلومة المقدمة للمتعلم(ة)، بل أكثر من ذلك كيف لمدرس(ة) تخصص تاريخ وحضارة أو جغرافيا أن يدرس مادة من صميم التخصص القانوني والحقوقي. ففي هذا الصدد - مثلا- قد يتمكن مدرس(ة) بالسلك الإعدادي من تقديم درس في التربية على المواطنة في "فصل السلط" وهو لا يدري تحولات "مؤسسة النيابة العامة" واستقلاليتها عن سلطة وزير العدل، أو يقدم درسا حول "التنظيم القضائي للمملكة" وهو يجهل "قضاء القرب" أو أنواع المحاكم أو يتكلم عن "محاكم المقاطعات والجماعات"، أو يقدم درسا حول "الدستور" وهو يستشهد بنصوص من الدستور السابق أو يشرح للمتعلمين "مفهوم القانون" وهو يجهل خصائص القاعدة القانونية أو لا يميز بين القوانين الأساسية والعادية أو الظهير أو المرسوم... إلخ، مما يجعل فسح مجال المادة أمام خريجي كليات العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أمرا ملحا ومفيدا. أخيرا وليس آخرا واعتبارا لهذه الوضعيات وغيرها، يثار "سؤال الجودة" في مادة تتغير مكوناتها حسب الأسلاك، لذلك آن الأوان لإعادة النظر في التركيبة الثلاثية، بجعل -على الأقل- "التربية على المواطنة" مادة مستقلة في السلك الإعدادي، وبرمجة مادة بمثابة مدخل للقانون وحقوق الإنسان بالسلك التأهيلي تبرمج خلالها دروس تنسجم مع المستوى الإدراكي للمتعلم(ة) بشكل يرسخ قيم المواطنة وحقوق الإنسان واحترام القانون ودولة المؤسسات، على أساس أن تسند مهمة تدريس المادتين لأساتذة حاملين لإجازات في القانون بفرعيه الخاص والعام، مع التفكير في الفصل بين "التاريخ" و"الجغرافيا" وجعلهما تخصصين منفصلين في التعليم المدرسي، انسجاما مع الاتجاه الذي سارت فيه كليات الآداب والعلوم الإنسانية منذ سنوات، بعدما فكت الرباط بين المادتين وجعلتهما شعبتين منفصلتين، وذلك احتراما لمبدأ "التخصص" الذي لن يكون إلا خادما لجودة التعلمات، في ظل الإقبال على التوظيف بالتعاقد وما رافق ويرافق ذلك من جدل، خاصة فيما يتعلق بمحدودية التكوينات وطبيعة الظروف التي تجرى فيها، مع الإشارة إلى ضرورة تفعيل آليات التأطير التربوي والبحث عن الصيغ الممكنة لتعزيز سبل التكوين المستمر عبر خلق مسطحات عن بعد تقدم لمدرس(ة) المادة كل ما يحتاجه من معارف ووثائق وإحصائيات وموارد رقمية وبيداغوجيات وديدكتيك ودروس وغيرها، في ظل عالم متحول باستمرار يستدعي "نفض الغبار".. عالم لا مجال فيه للارتجال ولا الانتظار. *أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي بالمحمدية باحث في القانون وقضايا التربية والتكوين [email protected]