تخوض المملكة العربية حربان متداخلتان في آن واحد: الحرب الأولى، باردة مع إيران بدأت فعليا مع ثورة الخميني، وظهور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ( 1979 )، وإن كان صراع النفوذ بين البلدين قديما نسبيا، إذا ما اعتبرنا المناكفات بين الملكية في إيران قبل الثورة الخمينية وملكية آل سعود مقبولة في معدلها العام، سواء في الاستحواذ على اهتمام الراعي الرسمي للمنطقة ( أمريكا )، أو عندما اعترفت إيران بدولة إسرائيل سنة 1950، أو حينما أعلنت بريطانيا نيتها الانسحاب من البحرين سنة 1968 ومطالبة إيران بها كملحقة إقليمية بها، في حين دعمت السعودية استقلال دولة البحرين الذي تحقق سنة 1971. سلسلة المواجهات بين السعودية وإيران تمظهرت في جوانب شتى، فكرية وتاريخية وجغرافية، لم تخرج عن الصراع المذهبي والهيمنة الإقليمية وسياسة المحاور التي أدخلت البلدين في حرب باردة مفتوحة. تجسد هذا الاحتقان الدائم بين البلدين في قطع العلاقات بين البلدين لمرات متعددة، كما تمظهر في امتدادات جغرافية متنوعة وفِي أزمنة تاريخية متعددة، بدءا من الصراع الأول في أفغانستان، وانتهاء بالحرب في اليمن، مرورا بمحطات أخرى في العراقولبنانوالبحرينوسوريا. تعددت درجات برودة الحرب بين السعودية وإيران، ففي الوقت الذي كانت فيه معتدلة البرودة في أفغانستان، عندما انبرت السعودية كطرف يزود الأفغان العرب بالمال والسلاح لمحاربة الاتحاد السفياتي الذي كانت تجمعه علاقات طيبة مع إيران، كانت حارقة إبان حرب الخليج الأولى الإيرانيةالعراقية ( 1980/ 1988 ) عندما مولت السعودية وسلحت صدام حسين بدعم مفتوح للوقوف في وجه تصدير الثورة الإيرانية في اتجاه محيطها الخليجي، وعندما حاولت إيران استدراج السعودية لمواجهة مباشرة بنقل المعركة إلى الداخل السعودي ( اختراق المجال الجوي السعودي، قصف ناقلات النفط السعودية، أحداث مناسك الحج...) وغير ذلك من مظاهر المواجهة التي لم تصل إلى مستوى الحرب المفتوحة. أما في لبنان فدرجة برودة الحرب بين السعودية وإيران كانت ولا تزال تتراوح بين حرارة الاتصال والانفصال التي تجمع تيار المستقبل السني المدعوم سعوديا بحزب الله الشيعي المدعوم إيرانيا، بغض النظر عن توابعهما من التيارات الأخرى مسيحية ومسلمة، مادام رأس الحربة في المواجهة هو حسن نصر الله بالنسبة لفصيل إيران، وسعد الدين الحريري بالنسبة لفصيل السعودية. ربما اعتبر لبنان تجلي حقيقي للحرب الباردة بين إيران والسعودية، والتي تأخذ طابعها الطائفي في أقبح تجلياتها، فالسعودية، وهي تصنف حزب الله كمنظمة إرهابية، وحتى وهي تمنع عن لبنان والجيش اللبناني المساعدات البالغة 3 مليارات دولار، هذا لم يمنعها من إعطائها الضوء الأخضر لتيار المستقبل من أجل حلحلة الوضع في لبنان والقبول بميشيل عون رئيسا، بعد امتناع دامم طويلا، الأمر الذي اعتبر هزيمة باردة للسعودية وانتصارا ساخنا لإيران. ثم، حتى وهي تتراجع عن اتفاقها الضمني بالتسوية السياسية في لبنان، باحتجازها لرفيق الحريري ودفعه لتقديم استقالته من رئاسة الحكومة، لم تستطع الذهاب بعيدا في سيناريو هدم السلم الأهلي اللبناني، إذ سرعان ما تهافت مشروعها نتيجة رد الفعل السياسي المدروس الذي قدمه الرئيس اللبناني بتنسيق كامل مع حزب الله وبتغطية تامة من فرنسا، فعاد الحريري إلى لبنان وتم التراجع عن الاستقالة، ولَم يتغير شيء في لبنان سوى سمعة السعودية باعتبارها إحدى ركائز الاستقرار في لبنان المرتبطة باتفاق الطائف. لم يعد أحد يسأل عن التأثير السعودي في لبنان، الأمر الذي اعتبر هزيمة كبيرة للسعودية أمام التأثير الإيراني المتمثل في حزب الله. أما في البحرين فالحرب الباردة بين السعودية وإيران تكتسي طابعا مختلفا، مادام درع الجزيرة العسكري موجود في البحرين منذ 2011، والذي جاء كرد مباشر على الحراك الجماهيري الذي كانت تغديه نزوعات طائفية أكثر منها مطالب سياسية. حجم الشراسة والحزم الذي واجهت به حكومة البحرين، مدعومة من السعودية، الحراك الجماهيري، جعل السعودية توقف كل أماني الامتداد الشيعي التنظيمي في البحرين رغم كل محاولات التجييش المذهبي والجماهيري الكبير الذي قامت به التجمعات والجمعيات المرتبطة بإيران عقائديا. الأمر الذي اعتبر انتصارا للمملكة السعودية وحفاظا منها على إحدى حدائقها الخلفية الاستراتيجية بالرغم من المناكفات التي تظهر بين الحين والآخر في الشارع البحريني. في سوريا، اتخدت الحرب بين السعودية وإيران درجة متفاوتة من حيث البرودة والحرارة، ففي الوقت الذي كانت السعودية تروج لإمكانيات سقوط النظام السوري في وقت قياسي، وتعمل على تحقيق ذلك دبلوماسيا ولوجيستيكيا، بشريا وماليا وعسكريا، مستعملة وزير خارجيتها ( الجبير ) الذي كان يكرر في كل خرجاته الإعلامية لازمته الشهيرة( إذا لم ينسحب بشار الأسد بالسياسية سنعمل على إسقاطه عسكريا)، في الوقت الذي كانت السعودية تروج لهذا الطرح إعلاميا وماليا، كانت إيران تعمل على الأرض باستراتيجية واضحة، هي استعمال كل طاقاتها وأذرعها العابرة للجغرافيا من أجل حماية نظام الأسد، وقد كان رهان إيران في مواجهاتها للسعودية على أرض سوريا رهان وجود استراتيجي على مشارف البحر الأبيض المتوسط، بينما كان بالنسبة للسعودية صراعا طائفيا مرتبطا بتوجيهات غربية أمريكية لها حسابات خاصة تم توظيف السعودية وقطر وتركيا لتحقيق أهداف جيوستراتيجية في مواجهة اللاعبين الكبار الماسكين بخيوط اللعبة في سوريا، وفِي مقدمتهم روسيا، لهذا لم تكن مفاجأة خسارة السعودية أمام إيران في الملف السوري، بالرغم من كل الجهود التي بذلتها لإسقاط النظام السوري، ومن خلاله الوجود الإيراني في المنطقة. وربما كان القصف الصاروخي من داخل إيران على مقر داعش في دير الزُّور هو المسمار الأخير في نعش أمل السعودية في حربها الباردة مع إيران في سوريا، لما يحمله ذلك القصف من إحالات استراتيجية عسكريا وسياسيا. ثم كانت الضربة القاضية بخروج السعودية من الملف السوري خاوية الوفاض، وبهزيمة ثقيلة على كل الأصعدة، أمام امتداد الجيش السوري في المناطق الممسوكة من قبل المعارضة، واسترجاعها قرية قرية ومدينة مدينة، بدعم كامل من حلفائه الدائمين، في الوقت الذي تخلت فيه أمريكا عن حلفائها وفِي مقدمتهم السعودية. تمظهرت الحرب الباردة بين الإخوة في الدين والأعداء في الطائفة في جغرافيات أخرى ومجالات أخرى بدون أن تحقق السعودية أي مكسب سياسي استراتيجي، سواء في التموقف من أحداث الربيع العربي التي وقفت إلى جانبها إيران وحاربتها بكل الوسائل السعودية، ولعل النموذجين ( استقبال الرئيس التونسي بنعلي، ودعم انقلاب السيسي في مصر) خير مثال لمعرفة من انتصر للشعوب ومن انتصر للأنظمة. وسواء في دولة العراق التي تظهر تبعيتها الواضحة للقرار السياسي الإيراني لغلبة الخلفية الطائفية الشيعية على ما سواها. أو في الاتفاق النووي الشهير الذي كانت من نتائجه الرفع الجزئي للعقوبات على إيران، والذي استفادت منه خزينة إيران بشكل كبير، ثم الاعتراف بها كقوة نووية، سلميا على الأقل، أضحى لها وزنا في منطقة الشرق الأوسط. أو في المواجهات الباردة الساخنة الأخرى على صعيد أسواق النفط التي تضررت منها السعودية كثيرا عندما اتبعت سياسة إغراق السوق العالمي بالمنتوج النفطي الذي انخفض ثمنه إلى أرقام قياسية، في الوقت الذي كان الهدف هو إلحاق أضرار مالية واقتصادية بإيرانوروسيا، الأمر الذي دفع السعودية إلى إعادة نظر جذرية في موازناتها العامة للتخفيف من نتائج الأضرار الكبيرة التي خلفتها سياستها النفطية التي استفاد منها الجميع وخسرت فيها السعودية لوحدها. كخلاصة لتمظهرات هذه الحرب الباردة تبرز إيران كقوة إقليمية فاعلة استطاعت تأسيس حلف استراتيجي يضم دولا وجماعات كالعراقوسوريا، وقسم من القرار السياسي اللبناني، بالإضافة إلى أدرع ضاربة أخرى شيعية العقيدة إيرانية العدة والعتاد كالحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان وأنصار الله الحوثيين في اليمن. في المقابل ظلت السعودية وفية لخطها المحافظ المرتهن للحماية الغربية، والمحاط بالملكيات العربية الأخرى، مع الانفتاح على مجالات نوعية أخرى لم تخرج عن إنشاء قنوات تلفزية إخبارية وفنية ودينية أضرت كثيرا بسمعة السعودية، سياسيا وعقائديا وإعلاميا. ربما من هذا الجانب تصبح المقارنة مفيدة بين لاعبين سياسيين أساسيين في لبنان، ومدى ثقل وتأثير كل منهما، الأول يمثل مصالح السعودية، وهو تيار المستقبل، والثاني يمثل المصالح الإيرانية، وهو حزب الله. الحرب الثانية، مشتعلة في اليمن عندما حط الربيع العربي رحاله في اليمن كان الرئيس علي عبد الله صالح يتحسس رأسه بعدما سقط رأس النظام في تونس. طوق النجاة للرئيس علي عبد الله صالح جاء من السعودية، وهكذا جاءت المبادرة الخليجية لتقدم منهجية نقل السلطة في البلاد، كحل وسط بين ثورة الشباب من جهة والنظام من جهة ثانية، انتهت بانتخابات رئاسية في فبراير 2012 كنقطة نهاية لهذا المسار الانتقالي. هذا المسار السياسي المفروض من السعودية اعتبر انتكاسة كبيرة للثورة في اليمن وقتلا صريحا لكل إمكانيات إحداث كوة في جدار النظام التسلطي القائم، سواء كان سلطة قائمة أو أحزابا سياسية تقتات من السلطة وتعيش في كنفها. لم يكن الدور السعودي في اليمن بعيدا عن مراعات مصالحه الخاصة، لذلك اعتبر تدخل السعودية المباشر بواسطة ( المبادرة الخليجية )، بكل ما تحمله من خلفيات، خلطا للأوراق وتأزيما للوضع السياسي في اليمن، الأمر الذي جعل محاولة إنقاد النظام هدفا أوليا، بتحويل القضية إلى أزمة بين أركان النظام، حكما ومعارضة، وتهميش الشباب والحراك الجماهيري والمطالب الاجتماعية. هذا الأمر أدى إلى خلق أزمة سياسية أخرى في البلاد من علاماتها الكبرى الفوضى بكل تجلياتها، لم تزدها الانتخابات الرئاسية إلا حطبا إضافيا في إذكاء نار الاختلاف بين الفرقاء السياسيين والثوريين في نفس الوقت. خلفت هذه الأحداث تقلبات في البنية السياسية لليمن، ففي الوقت الذي فقد علي عبد الله صالح السلطة وتم تعويضه بعبد ربه منصور هادي، الذي باشر الحكم في مرحلة انتقالية مشوبة بالقلاقل، تسلل الحوثيون إلى السياسة اليمنية، وبعد تشعب الصراع السياسي وانهيار حكومة هادي انضم الحوثيون إلى علي عبد الله صالح في تحالف هجين كان من بشاراته الأولى سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء سنة 2014 وهروب الرئيس هادي في اتجاه عاصمة السعودية الرياض. سقوط صنعاء كان كارثة كبرى بالنسبة للسعودية التي اعتبرت الحوثيين ذراعا عسكرية جديدة لإيران في اليمن وفِي منطقة الشرق الأوسط، تهدد مصالحها وتزاحمها في عقر دارها وعلى أبواب حدودها. سقوط صنعاء تبعه إعلان الحرب من طرف السعودية في مارس 2015، فكانت عاصفة الحزم التي جمّعت فيها السعودية عددا من البلدان العربية تحت مسمى ( التحالف العربي ) وبدأ الضرب والقصف والتدمير والتهجير تحت ذريعة إرجاع الشرعية وتحرير العاصمة صنعاء. وبعد مرور ثلاث سنوات تقريبا، لم تحقق السعودية أهدافها الاستراتيجية المسطرة في اليمن، باستثناءاسترجاع السيطرة على عدن حيث شكل هادي في سبتمبر 2016 حكومة مؤقتة، وبعض الأجزاء من جنوب اليمن، بدون أي تقدم في المناطق المحيطة بالعاصمة صنعاء. ورغم تعدد صيغ المحادثات السياسية المدعومة من قبل الأممالمتحدة التي كان المأمول منها إنهاء النزاع، لم تظهر نتائج هذه المحادثات على أرض الواقع الذي يزداد تأزما، كما يزيد من ارتفاع عدد الرافضين لهذه الحرب واعتبارها عبثية مزاجية لا هدف يرجى تحقيقه من ورائها، هذا فضلا عن تقارير الهيئات الحقوقية الدولية التي في أغلبها الأعم تتهم السعودية بتجاوزات يمكن أن يعاقب عليها القانون الدولي. في نفس الوقت، تميز اللعب السياسي السعودي، الذي كان من المأمول أن يكون موازيا للعمل الحربي، أمام ارتفاع الأصوات الرافضة للحرب، تميز هذا اللعب بالسذاجة التي تقترب من البلادة، بحيث لم يستطع إحداث أي اختراق مهم في المشهد السياسي الحزبي في صنعاء، الاختراق الوحيد الذي استطاعت السعودية تحقيقه هو استمالة علي عبد الله صالح لصفها لمدة لا تزيد عن ثلاثة أيام، إذ سرعان ما تم اغتياله من قبل الحوثيين في مذبحة كانت مقصودة لذاتها، لتبليغ رسائل عديدة للداخل اليمني وللخارج وفِي مقدمته السعودية. إستمرار الحرب في اليمن بكل هذا العناد، وبدون أي أفق، واستمرار التدمير والتنكيل والحصار الناتج عنه المجاعة وتفشي الأمراض يعتبره الكثيرون علامة من علامات إفلاس الضمير السياسي السعودي، بالرغم من إمكانيات إيجاد تبرير للخوف السعودي من الصواريخ الباليستية التي تهدد الأمن القومي السعودي. وكخلاصة، إن إسم إيران الذي تردده السعودية باعتباره كفيلا ومساندا ومدعما للحوثيين لا يظهر له أثر على أرض اليمن، فإذا كانت السعودية تعتبر هذه الحرب ضد التدخل والوجود الإيراني، فالتدمير يطال البنية التحتية اليمنية، والقتلى يمنيون وسعوديون، الأمر الذي يدفع الكثيرين إلى اعتبار هذا الوضع حرب استنزاف سقطت السعودية في مطبها ولَم تجد منها مخرجا يحفظ ماء وجهها أمام العالم وأمام عدوها اللذوذ إيران. في التقييم السياسي والاستراتيجي والحربي، لا يخفى أن المملكة العربية السعودية في مواجهتها لإيران تتصرف بردود الأفعال عِوَض الأفعال، ورد الفعل غالبا ما تكون نتائجه في المرتبة التالية من حيث الجدوى والفاعلية. هل السعودية تربح من خلال مواجهتها المفتوحة مع إيران، أم أنها تراكم أخطاء استراتيجية يمكن أن تفسر على أنها هزائم مدوية؟ لماذا تخسر السعودية في مواجهاتها مع إيران؟ هل الأمر متعلق بالرؤية الاستشرافية أم بالموقف الاستراتيجي أم بالبراغماتية السياسية ؟ كيف يمكن للسعودية أن تخسر بسهولة العراقوسورياولبنان واليمن وقطر وتركيا، والبقية في الطريق، بنفس الطريقة، وبدون أي نقد ذاتي أو تفكير في تغيير أدوات النظر والعمل ؟ كيف يمكن للسعودية أن تواجه إيران بنفس المنهج ونفس الرؤية التي أدت إلى تراكم خسائرها؟ هل يمكن للسعودية، أو بالأحرى، هل تستطيع تغيير موازين القوى لصالحها في مواجهة إيران بنفس الاستراتيجية؟ هل تستطيع السعودية خلخلة توازن القوى القائم في منطقة الشرق الأوسط بالتعويل على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟ هل تنجر السعودية للانتقال إلى مستوى متقدم من المواجهة مع إيران، كالدخول في حرب مباشرة معها، مثلا؟ يعلمنا التاريخ أن الحرب في أكثر من جبهة ومع أكثر من طرف وفي وقت واحد يعد انتحارا استراتيجيا يؤدي لا محالة إلى الهزيمة الكاملة، فهل تتعلم السعودية من التاريخ، أم ستظل دار لقمان على حالها؟ الله أعلم.